الفصل الثالث والثمانون
عود إلى بيروت
أما فدوى فإنها بعد أن استولت على الدبوس واستوثقت من ذهاب عبود لبثت في بيروت على مثل الجمر تأخذ والدها باللين، وتعده بإطاعة أوامره بكل ما يريد. وكان والدها قانعا بوعودها، وكان يلح على عزيز أن يأتي بالمنوم، فكتب إلى صديق له في باريس بشأن ذلك، فطال انتظاره، ولكنه كان مطمئن الخاطر لاعتقاده أن شفيقا أصبح في عالم الأموات، وأنه طالما كان الباشا راضيا عنه، فهو المالك لما يريد، على أنه لم يتمكن في كل مدة إقامته في الفندق من مشاهدة فدوى لحظة واحدة.
وورد إلى الباشا ذات يوم كتاب من امرأته في مصر في طيه كتاب شفيق الذي بعث به من الأبيض، وفيه الخبر ببقائه حيا، فلما قرأ الباشا الكتاب خاف حبوط مسعاه في الاستيلاء على ثروة عزيز إذا عاد شفيق حيا، ولكنه أخفى ذلك الخبر عن ابنته لئلا تتشبث به وترفض عزيزا، ثم خاف أن يطول وعدها بالقبول، فيأتي شفيق قبل زفافها على عزيز، وخشي إذا ألح عليها بالاقتران أن تنفر منه وتعود إلى عزمها السابق، فوقع في حيرة. وبعد التدبر مدة، لاح له أن يسعى أولا في مرامه الأساسي؛ وهو أن يضع يده على أموال عزيز قبل الاقتران، فخلا به يوما ودار بينهما الحديث في شئون مختلفة تطرق منها الباشا إلى مسألة الاقتران بفدوى، وكان يخاطب عزيزا بلسان القريب، ويدعوه تارة ابنه، وطورا صهره ، وعزيز فرح بتلك الألقاب، فقال الباشا في جملة قوله: طالما كنا يا ولدي جسمين في شخص واحد؛ لأنك ستكون صهري بمنزلة ولدي، وأنت الوارث لكل أموالي؛ إذ إن فدوى وحيدة لي، فما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي، فلماذا لا نضم ممتلكاتنا بعضها إلى بعض ونجعلها ملكا واحدا، فإما أن أضم مالي إلى مالك وأكتب لك بذلك صكا، أو أن تضم مالك إلى مالي وتكتب لي به صكا.
ففرح عزيز بذلك الخطاب الدال على تمكن محبته من قلب الباشا إلى هذا الحد، وأيقن بزوال كل مشكلة من طريقه، وكان يود أن يكون هو المستولي على المالين، ولكنه لم يجسر على التصريح بذلك حياء منه. ونظرا لشدة وثوقه بنيل بغيته التي قضى السنين الطوال سعيا وراءها، وقاسى الأهوال العظام من أجلها، وبأنه هو الوارث الشرعي عند ذلك لكل ما هو للباشا، فأراد أن يظهر له وثوقه به، وبمحبته وبصدق مواعيده، فقال له: إني، يا عماه، وما أملك في قبضة يدك؛ لأنك بمنزلة والدي. ففرح الباشا لنجاح سعيه، ولكنه قال: وإذا شئت فإني مستعد أن أسجل كل ما هو لي باسمك، وأن أعطيك صكا به.
قال عزيز: حاشا يا عماه؛ إذ لا يليق ذلك والولد ليس له مال بحياة والده. وها إني أكتب لك الصك منذ الساعة. وكان الباشا قد أعد الورق والدواة حتى لا يكون ثم مانع أو مؤخر، فاستخرج الورق ووضعه على المائدة، فلم ير عزيز بدا من كتابة الصك قياما بقوله، وجاء بشاهدي عدل يشهدان على قوله.
فلما تمت كتابة الصك تناوله الباشا وجعله في جيبه فرحا لتحقق أمانيه. أما عزيز فحالما وضع الصك في يد الباشا شعر بخطئه وجهالته، ولكنه لم يجسر على استرجاعه حياء، فلبث صامتا يفكر بحالته بعد كتابة ذلك الصك، فإذا هو صفر اليدين لا يملك شيئا، ولكنه عاد فتذكر أنه سيكون عما قليل قرينا لفدوى، فتعود هذه الأموال وأموال الباشا جميعها إليه، فسكن جأشه نوعا، وازداد تعلقا بفدوى؛ لأن جميع ما يملك من المال والعقل والجسد أصبح معقودا بناصية الاقتران بها.
ولبث عزيز ينتظر مجيء المنوم من أوروبا حتى طال أمد الانتظار.
فمضى الشهر والشهران والثلاثة وفدوى لا تنفك عن النحيب والتعلل بإرسالية عبود، حتى كان يوم من أيام شهر مارس، فدخل بخيت غرفتها وهي سابحة في أبحر الهواجس، فلما رأته قالت: ما وراءك يا بخيت؟
قال: ما ورائي يا سيدتي إلا كل خير.
صفحه نامشخص