فقص الباشا قصة ابنته مع شفيق كما هي تماما إلى أن قال: وقد وقعت في حيرة الآن؛ لأن الفتاة كلفة بذلك الشاب كلفا شديدا، ولا أنكر عليك أني أحبه أيضا؛ لأنه أنقذني من الموت، وآنست فيه شهامة غريبة، ولكني لا أرى فائدة من البقاء في ذلك بعد أن تحققنا من الحملة التي سار برفقتها قد هلكت بأجمعها، فلا بد أنه هلك في جملة من هلك.
فقال الحكيم: هل حاولتم أن تشغلوها بشأن من الشئون.
قال: نعم، ولكن لا فائدة.
فقال: إن أفضل طريقة - على ما أرى - أن تلتهي عنه؛ لأنها لا تزيد إلا سقاما ما دامت تفتكر به. أما إذا شغلها شاغل فقد تسلوه رويدا رويدا، ولقد أعجبني فيها المحافظة على الوداد، ولكن ليس في اليد حيلة.
فقال: وكيف نشغلها عنه؟
قال: أشغلوها بالأسفار من بلد إلى آخر، والسفر في جبل لبنان أفضل ما يكون، ولكن هذا الفصل فصل شتاء، فلا تستطيعون التجوال في تلك الأنحاء، فامكثوا هنا ريثما ينقضي هذا الفصل ويحلو المقام على ربى لبنان، فتتمتع الفتاة بهوائه النقي؛ فإنه من أحسن ما خلق الله من الجبال.
فقال الباشا: ولكن ما العمل بهواجسها، فإنها لا تنفك عن الافتكار بذلك الشاب لا ليلا ولا نهارا، وكلما زدت في تسليتها عنه زادت شغفا به.
فأجاب الحكيم وهو يمسح النظارات بمنديله الحريري: تلك عادة أولي الغرام، فإذا زدتم لوما زادوا هياما، فالأولى أن تغض الطرف عن ذلك، وإذا ذكرت حبيبها اذكره بالحسن معها، وإنما انقم على الدهر الذي يقضي على المحبين بالفراق، واشغلها بالأمل البعيد حتى يقضي الله بما يشاء.
فتأوه الباشا ثم قال: والله إنك أحسن من يعزي عن المصائب، فهل لك أن تتردد علينا حينا بعد حين؟
قال: سأفعل إن شاء الله، ولكن ربما كان الأفضل أن تذهب بها إلى زيارة منزلي بقرب المنارة؛ فإنه في مكان أشبه شيء بالجبال يشرف على البحر من جهة، وعلى الجبل من أخرى.
صفحه نامشخص