اشیاءی که پشت سر گذاشتی
الأشياء التي تركتها وراءك: مختارات قصصية لجون ريفنسكروفت
ژانرها
تصدير المؤلف
مقدمة المترجمة
الأشياء التي تركتها وراءك1
البومة1
رأس الدودة
أحوال المادة1
باراكودا1
أغنية من أجل «جيني»1
قتل الأرانب1
الجرس1
صفحه نامشخص
النبتة الصغيرة1
وجبة إفطار مع «آندي»1
رحم يتأهب1
أحلام أسامة
اللغة غير مقدسة مثل شجرة الميلاد1
تصدير المؤلف
مقدمة المترجمة
الأشياء التي تركتها وراءك1
البومة1
رأس الدودة
صفحه نامشخص
أحوال المادة1
باراكودا1
أغنية من أجل «جيني»1
قتل الأرانب1
الجرس1
النبتة الصغيرة1
وجبة إفطار مع «آندي»1
رحم يتأهب1
أحلام أسامة
اللغة غير مقدسة مثل شجرة الميلاد1
صفحه نامشخص
الأشياء التي تركتها وراءك
الأشياء التي تركتها وراءك
مختارات قصصية لجون ريفنسكروفت
جمع وترجمة
فاطمة ناعوت
إلى زوجتي آسترا ريفنسكروفت؛ امتنانا لدعمها لي، وإلى صديقتي فاطمة ناعوت؛ امتنانا لجهدها وإيمانها الطيب بي.
ج. ريفنسكروفت
إلى مازن،
نقطة النور الأولى.
فاطمة
صفحه نامشخص
تصدير المؤلف
ما يوحدنا أهم
أكتب هذه الكلمات يوم 25 يوليو 2005، الشهر الذي قام فيه انتحاريون بضرب لندن بالقنابل والمتفجرات للمرة الأولى. الشعور العام في المملكة المتحدة في هذه اللحظة هو الحدس بأن مثل تلك الهجمات سوف تحدث أكثر وأكثر بشكل متكرر في المستقبل، وثمة كلام كثير وجدل حول كيف يمكن السيطرة والتعامل مع موقف يبدو جديدا كل الجدة على الشعب. المواطن الإنجليزي العادي يحاول أن يفهم ما الذي حدث كي يصبح العالم على هذه الصورة، ويسأل نفسه أسئلة لم يسألها حقيقة من قبل.
الحاجة إلى تواصل البشر عبر حواجز الدين والعرق، من أجل الالتقاء والسعي الحقيقي ليفهم بعضهم بعضا، لم تكن ملحة وحتمية مثل الآن.
أومن أن السرد القصصي - كل ألوان الكتابة الإبداعية في واقع الحال - هو بالأساس معني بفكرة التواصل. الرغبة في الاتصال والتواصل مع الآخرين هي أحد المحثات الأساسية التي تحرك حاجتي الخاصة للكتابة. من أجل ذلك كنت مبتهجا للغاية حينما أخبرتني الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت عن عزمها على ترجمة مجموعة من قصصي إلى العربية، ومن ثم وافقت على الفور. أحببت الفكرة، فكرة أن تصل كلماتي إلى قراء أبعد من المتحدثين والناطقين بالإنجليزية، قراء آخرين نشئوا في بيئة وثقافة شديدتي الاختلاف عن بيئتي وثقافتي . وهذا ما سوف يكون عبر ترجمات قصص مثل: «أحلام أسامة، أحوال المادة، البومة، الأشياء التي تركت وراءك»، وغيرها من القصص التي سوف تقرءونها الآن.
لا أستطيع أن أوفي فاطمة شكرا من أجل كل هذا الجهد، وآمل أن يحدث يوما وألتقي بها مباشرة كي أظهر لها امتناني العميق شخصيا.
قراء كثيرون أخبروني أن سردي القصصي يتمحور حول علاقات بين أشخاص غير سعداء؛ أشخاص خبروا الفقد والخسارة، أو هؤلاء الذين مروا بألم ما. ورغم أنني لا أبدأ الكتابة بنية مسبقة عن إنتاج ذلك النوع تحديدا من القص، أو حين أشرع في رسم شخوص سردي - زوجان مفجوعان بفقد طفلتهما في «البومة» على سبيل المثال، أو هذان الرجلان المحطمان في «أحول المادة» - إلا أنه من الواضح أن تلك التيمات بالفعل تظهر بجلاء على سطح أعمالي مجددا ومجددا. حسنا، لقد قيل مرات عديدة إن الكتاب لا خيار لهم إلا الكتابة عن آلامهم، وإن سرد وخيال الكاتب يخففان من ضغوطه وأزماته النفسية. أظن أن ذلك صحيح بالنسبة لي مثلما هو صحيح بالنسبة للكتاب الآخرين.
مع هذا أتمنى أن يجد القارئ شيئا أبعد من استكشاف الألم في قصصي. أتمنى أن يجد مساحة من الأمل، بعض خيوط البهجة التي لا بد أن تمنحها الحياة رغم كل شيء. إذا ما استطاع قارئ أن يخرج من قصصي بشعور يقول إن الحياة رغم صعوبتها وتعنتها بوسعها أن تكون، بين وقت وآخر، شيئا مجيدا رائعا، شيئا يجب أن نرعاه ونعتز به، إذا استطاع ذلك سأكون قد نجحت ككاتب.
أرجو أيضا أن أؤكد بطريقة ما عبر بعض قصص هذا الكتاب على شيء أثق أنكم تعرفونه بالفعل جيدا، إن البشر سواء في كل أركان الأرض، بصرف النظر عن موقعهم، وجنسهم، وعرقهم، ودينهم. يجب في النهاية أن نتعلم الدرس الجلي في ذاته: أن ما يوحدنا أهم بكثير جدا مما يشتتنا ويقسمنا. وبمجرد أن نتعلم ذلك الدرس، يجب أن نعمل رأسا على الاحتفال بحقيقة أننا جميعنا مخلوقات غير مكتملة، سوى أننا جميعنا نتشارك في شيء أهم : الإنسانية.
لو أخفقنا في عمل هذا، سيلوح المستقبل موحشا بالفعل.
صفحه نامشخص
من أجل ذلك يجب ألا نخفق.
أشكركم على قراءة مجموعتي القصصية.
جون ريفنسكروفت
لينكولنشاير
يوليو 2005
مقدمة المترجمة
يلتقي القارئ في هذه المجموعة باثنتي عشرة قصة للأديب الإنجليزي المعاصر «جون ريفنسكروفت»
John Ravenscroft ، الذي فاز بجائزة رفيعة في لندن العام الماضي 2004 هي «كاتب هذا العام
Writer of the Year ». بالإضافة إلى حوار أجريته معه وترجمته لجريدة «القاهرة» المصرية، يجده القارئ في نهاية هذا الكتاب.
جون ريفنسكروفت، قاص وروائي إنجليزي معاصر ولد عام 1954م ويعمل محررا لمجلة «كادينزا
صفحه نامشخص
Cadenza » البريطانية. وهي مجلة ثقافية فكرية أدبية تعمل، حسب محرريها، على تبني الرفيع من الأدب الإنجليزي من قص وشعر ورواية ونقد. حصدت قصصه العديد من الجوائز الأدبية من بينها جائزة الكومنولث. وقد عمدت إلى اختيار وترجمة مجموعة من أعماله التي فازت بجوائز أدبية إنجليزية أو عالمية.
منهجه السردي يمتاز بالتقاطه دقائق الحياة غير الملفتة واقتناص الشعرية منها عبر الموقف الدرامي أو من خلال المونولوج الداخلي الطويل راسما صوره التشكيلية في نقلات مباغتة ومفارقة، وساخرة أحيانا، ليكون بنية سردية تنبع من وتصب غالبا في أحد الأسئلة الوجودية. يستلهم مفردات تأمله من «الشيء» ومدى تأثره ب/ وتأثيره على «الإنسان»، انطلاقا من كون المرء والموجودات في حال دائمة من الجدل والحوار. يناقش القاص أزمة الإنسان عبر مواقف حياتية تبدو، ظاهريا، بسيطة وبديهية، بل تكاد تكون يومية عابرة غير ملفتة، سوى أنه ينجح في اقتناص العمق الوجودي منها والمحنة التي تعانيها شرائح محددة من البشر.
أبطال قصه نماذج بشرية غير نمطية، ذات طبيعة خاصة، قد تنسحب خصائصها على غير الأسوياء، أو السجناء،
1
أو المنقسمين على ذواتهم من البشر، أو ذوي الحساسية الشفيفة مثل شريحة الفنانين، أو المرضى
2
أو حتى العشاق الذين دحرهم الفقد.
3
الإنسان على الخط البياني للزمن في حالاته «الحدية» مثل «المعمرين»
4
صفحه نامشخص
في مراحل حيواتهم الأخيرة حين تنكشف لهم الحياة كاملة مثل كتاب انتهت قراءته للتو. هؤلاء الموغلون في الحياة والزمن والتجربة عبر جدليتهم الإنسانية الملتبسة بين الوهن الفيزيقي من جانب، وحدة البصر الرؤيوي من الجانب الآخر. أو نقيض ما سبق تماما، أي الإنسان (تقريبا)، الإنسان قبل نقطة «الصفر» على منحنى الزمن، الإنسان قبل أن يكتمل، أي «الجنين».
5
كيف يرى الجنين العالم وكيف يتطلع إلى رؤاه المستقبلية؟ أو الإنسان في حال الهروب إلى «الحلم»،
6
الحلم النومي أو حلم اليقظة، حين يتحرر ذهنه من عوائق وأحابيل المنطق وقوانين الفيزيقا ليحلق حرا طليقا في رحابة الميتافيزيقا وفانتازيا الخيال الحر. أو الإنسان في علاقته مع الكائنات الأخرى من حيوان أو نبات، كيف يحدد قانون الموت والحياة بالنسبة لتلك الموجودات التي تشاركه العالم.
7
أو حتى في علاقته مع الجوامد، ذكرياته مع الأشياء التي تجادله طوال اليوم وكيف يمكن أن تأسره في عوالمها الخاصة.
8
كل الشرائح السابقة تلك، أو لنقل كل حالات الإنسان المتباينة تلك تلتقي كثيرا، برأيي، وتتقاطع؛ إذ إنها مرايا للنفس البشرية في أصفى حالاتها وأكثرها أثيرية وبعدا عن الأرض. إنه الإنسان بكل ما يحمل من ضعف وقوة، في آن، في مختلف درجات إنصاته للوجود والموجودات تبعا لفرادته ولأسلوب رؤيته العالم، ووجهة نظره الخاصة عن فكرة الخلق والحياة.
أجاد القاص معالجته تيمة «الفقد». ربما براعته تلك بلورتها محنة شخصية مر بها حين فقد شقيقته، كما سنعرف من خلال الحوار معه. حين يفقد الإنسان شريكه الأهم في الحياة، هل يحاول أن يستبدل بالمفقود بعضا منه؟ أشياؤه التي تركها مثلا؟ قصاصات الورق؟ قلامات الأظافر؟ شعرة من جسده؟ أو حتى بعضا من بوله؟! كيف يمكن أن تشف روح الإنسان في وحدته إلى درجة أن يتوسل محبوبه الغائب عبر مخلفاته الصغيرة؟!
صفحه نامشخص
يجمع أسلوبه اللغوي بين الكلمة الإنجليزية (البريطانية) الرفيعة وبين التعبيرات الدارجة الحديثة. يجيد القفز بينهما في نقلات رشيقة، لا نتوءات حادة تعرقل استرسال التلقي، وبغير إثقال من أي منهما على الأخرى. كما يجيد الجمع بين الجملة الطويلة التي تزخر بالجمل الاعتراضية، وبين الجملة الخاطفة المباغتة التي تشبه الومضات أو الطلقات التي تعمل على إنارة النص حينا، وفي حين آخر تعمل على تسريب شحنة من الصدمات المتوالية التي قد تحول فكر القارئ عن المسار الذي كان قد ركن إليه قبل لحظات.
وعن المعجم الخاص بالكاتب، لا بد أن نذكر أنه لم يكتف بمعجمه البريطاني، بل انفتح على ثقافات العالم مثلما نجد في قصة «أحلام» حين استعار مفردات من المعجم العربي، بل الإسلامي، مثل كلمات: مجاهدين - أمة (
ummah - mujahedin )، أو حتى تراكيب عربية من قبيل «العين بالعين والسن بالسن» (
An eye for an eye, A tooth for a tooth ) تلك القصة، «أحلام»، حين جمع على نحو ساخر «أحلام» الأقطاب الأربعة المشتجرة فوق مسرح الإرهاب؛ أمريكا بوصفها القوة المهيمنة في العالم، الدين، وأسامة بن لادن والمدنيون الأبرياء الصرعى. جمع أحلام هؤلاء ورصدها على نحو أقرب إلى الحياد مما يسمح للقارئ أن يصدر حكمه الخاص على من يراه مذنبا ومستحقا للقصاص.
مثل كثيرين من كتاب القصة القصيرة الحديثة، يبدأ ريفنسكروفت نصه، أحيانا، من منتصف الموضوع، أو ربما من نقطة الذروة، ثم يعمل على «لملمة» الزمن من الأمام ومن الخلف حتى تكتمل قصاصات الصورة المشهدية في آخر سطر ربما.
ويقودنا هذا إلى الكلام عن النهايات؛ فهو أحيانا - برأيي الخاص - يثقل النهاية بإيضاح وشروح قد تفسد جمال ورهافة الوقفة المفاجئة المبتسرة التي يجيدها بعض الكتاب المرموقين والتي أجادها هو نفسه في أكثر من قصة في هذه المجموعة. تلك الوقفة التي شأنها أن تدع للقارئ ثغرة يدخل منها إلى فضاء التأويل وثراء الدلالة. فلا هي أغلقت النص على أحادية التلقي ولا هي عطلت القارئ عن عمله في إكمال المشهد مع الكاتب عبر معينه المعرفي الخاص ودرجة نفاذه إلى النص. فيما النهايات الوافية الشافية المكتملة التي «لا غبار عليها» تفوت على القارئ - برأيي - فرصة المشاركة الإبداعية كما أنها تحرمه من متعة الارتطام بالمفارقة وتؤدي إلى استلابه لذة الصدمة. وفي سؤال لي حول ذلك الأمر أجاب ريفنسكروفت بأنه يود أن يخاطب أكبر شريحة من القراء، على تبايناتهم، ولذا يحاول أحيانا أن يطرح الغموض عن قصه ما أمكنه ذلك.
لا تخلو قصص ريفنسكروفت من ومضات من الواقعية السحرية واستجلاب الميتافيزيقا أحيانا (كما نلمس في: رحم يتأهب - النبتة الصغيرة)، أو الاتكاء على الحلم بكل ما فيه من فوضى وخرق لقوانين المنطق والتعليل (الجرس)، إلى جوار الواقعي والمتعين الممسوس بخيط من الرومانسية أحيانا (البومة) تلك القصة الحافلة بكثير من الصور الشعرية وكثير من أسباب الشجن الإنساني الرفيع. وفي حين آخر قد يوسل الحقائق العلمية في بناء شعرية نصه ما يحقق الجديلة الثرية الجميلة بين العلم والأدب (أحوال المادة). كل تلك الخيوط، التي ينجح ريفنسكروفت في غزل نسيجه عبرها، تجعل من تجربته مشروعا أدبيا متنوعا وثريا وجديرا بالترجمة.
ورغم أن السرد أحد أقدم الفنون الإبداعية التي عرفها الإنسان إلا أن فن القصة القصيرة لم يتم تأصيله في العالم إلا في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر فيما فن الرواية أكثر إيغالا في القدم. فقد غدت الرواية شكلا مستقلا من أشكال الأدب في القرن الثامن عشر الميلادي في إنجلترا، حتى ولو استطعنا رصد جذورها الممتدة بعيدا في الأدب الإغريقي القديم.
ظهرت ملامح النضج القصصي الأولى في أعمال بعض الكتاب مثل تشيكوف وموباسان بينما لم تتجل ملامح التكثيف الدلالي والتعبير الفني الحداثي العالي إلا في أعمال المحدثين في بداية القرن العشرين مثل جويس وكافكا وهيمنجواي وغيرهم، ورغم ذلك لم تسد نظرية واحدة وقتئذ تحدد معايير هذا الفن.
ويمكن لمتتبع الإبداع الروائي أن يلمس كيف تطورت طرائق السرد عند المبدعين منذ بداية القرن العشرين وحتى نهايته مرورا بالمرحلة الوسطى التي تحول فيها السرد نوعيا على يد رواد الحداثة من أمثال بروست وجويس وفرجينيا وولف.
صفحه نامشخص
ظهرت بادرات التجديد عبر أعمال تعتمد التجريب في محاولة التعبير عن أزمة الإنسان الروحية في العصر الصناعي الحديث، عن نوازعه النفسية وأعماقه الخبيئة ومزاجه القلق. وتجلى خط التأزم الروحي والأخلاقي في بطل كافكا الذي يعيش صراعا ضاغطا في مواجهة العالم المادي المميكن البيروقراطي الذي أحال البطل إلى صرصار في رواية «المسخ». وتزامن ذلك مع تجريب مارسيل بروست وفرجينيا وولف في تقنية الكتابة بوصفها حفرا في الذاكرة مختلطة برؤى تصنعها أحلام اليقظة عبر تفتيت الزمن والأحداث وانتثار وتشظي الوقائع إلى دقائق صغيرة، فيما عرف بتيار الوعي الذي حاول رسم الرؤى والمشاعر والذكريات التي تفيض بها عقول الشخوص وقد برعت فيه وولف مع إضافة تقنية الرمز لتؤكد هشاشة العلاقات الإنسانية في عالم انهارت قيمه الاجتماعية، كما نلمح في العديد من أعمالها مثل «صوب المنارة، وبين فصول العرض». كما أثرت الحركة الوجودية بشكل كبير على الأدب في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، فظهرت أعمال تكرس عبثية الحياة وتشوشها ولا جدواها كما في أعمال سارتر وكامو.
تبنى الفن بعدئذ نهج هدم المسلمات القائمة في تصوراتنا عن الأشياء، إذ لا شيء محددا يمكن أن نطلق عليه واقعا إلا عبر رؤيتنا له من منظورات متباينة تبعا للظرف والعين الراصدة وزوايا النظر. وقد ترتب على ذلك تطور في الأدوات الفنية فيما يتعلق بالبنية السردية للنص، فأصبح السارد يعتمد العبارات المبتسرة الحادة المتشظية محاولا الوصول إلى شيء من الحيادية في رصد العالم، متخلصا من النزعة الذاتية التي تخالط عادة الأعمال الأدبية. حاول بعض المبدعين تنحية النوازع البشرية من حب وكراهية وانفعالات وثورية تاركا للقارئ حرية بناء رؤاه الخاصة. وظل التجريب في الأدب معنيا طوال الوقت بالبحث عن أشكال جديدة تناسب العصر. وقد ترافق مع هذا التوجه بروز تيارات عالمية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين في فن السرد الذي غدا يمتلك القدرة العالية على الإيحاء رغم التصاقه الشديد بالواقع، والذي قد يجمع بين الوثائقية والانغماس المفرط في التفاصيل الصغيرة التافهة حد الملل، ثم المرور العابر على الأحداث الكبرى مثلما نجد في رواية «العطر» الشهيرة لزوسكيند.
ما الذي فجر هذا التغير تحديدا؟ هل هموم الإنسان ذاته (كموضوع)، أم إن الذي تغير هو رؤية المبدع (كفاعل) لموضوعه وطرائق توسله الجماليات الفنية الجديدة لبناء هيكله الدرامي؟ أم إن الثورة الصناعية واشتعال الحروب الكونية، ودخول الحرب الكيماوية (تلك التي أبرزت نزعة الإنسان الوحشية التدميرية) ضمن تقنية الحرب العالمية الأولى وتبدل خريطة العالم كان لها انعكاسها المنطقي على الفن باعتباره انعكاسا لمجريات الحياة؟
القرن العشرون يعكس سمات التناقض الشديدة في الإنسان. إذا ما تأملنا المنجزات الصناعية والتكنولوجية الكبرى سيما الثورة النووية ثم الرقمية التي أنتجتها عقول لامعة من العلماء من جهة، والتي تزامنت مع، وربما أدت إلى، النزعات السيادية التخريبية الكبرى التي تجلت في الحروب ومحاولة الاستئثار بالهيمنة على العالم من جهة أخرى، تزامنا مع العديد من النظريات الوضعية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أنتجتها مجمل الفلسفات الحديثة على تناقضها، ثم المناداة بسقوط مجمل السلطات الفكرية والدينية، لاكتشفنا كم هو قرن ثري غرائبي مشحون بالمفارقات. وكان بديهيا أن يتأثر الفن بوجه عام بكل تلك الالتباسات والهزات التي خلخلت ثوابت الإنسان التي كانت زرعتها، إلى حد بعيد، العقائد الدينية.
إلى أي مدى انزاحت طرائق تناول الكاتب لهموم الإنسان سياسيا واجتماعيا ووجوديا منذ الكلاسيكية كما في «الحرب والسلام» لتولستوي أو حتى «الدون الهادئ» لشولوخوف، رغم انزياحها قليلا عن الواقعية الاشتراكية بمعناها المثالي بالمفهوم الأدبي النقدي، وحتى الآن؟
إلى أي مدى تبنى المبدعون مبدأ الفن للفن الذي بدأ التنظير له إدجار آلان بو، وإن اكتفى بالتنظير ولم يتجل ذلك كثيرا في سرده وشعره، عوضا عن مبدأ الفن ذي الرسالة المحمل بأثقال القضايا وهموم المجتمع والوطن؟ وكيف يحاول كتاب اليوم عمل معادلة محسوبة تجمع بين المبدأين الواقفين على طرفي النقيض؛ بحيث لا تطغى الأيديولوجيا على الفن، أو يحلق الفن منفصلا عن الحياة والأرض؟ هل من الممكن حقا الوقوف على أرض سواء بين الفن والرسالة؟
ربما عبر هذه المجموعة ومقارنتها مع معيننا المدخر من قراءاتنا المتراكمة يمكننا أن نقف على إجابة للسؤال التالي: كيف عبر قلم المبدع عن محنة الإنسان عبر الزمن؟ هل تغيرت رؤية المبدع للوجود؟ أم إن الذي تغير هو شكل التعبير عن تلك الرؤية؟ هل تغير «البطل» المروي عنه من الفارس إلى «المهمش» المطحون الذي لم يكن ليغري الكتاب القدامى بتبنيه كموضوع؟ هل تباينت أزمات الإنسان منذ بداية القرن الماضي وحتى نهايته؟ خلال فترة خاض خلالها حربين كونيتين، وتغيرت ملامح الخارطة؟ فترة صنع فيها الإنسان وعاش تحولات سياسية واجتماعية وتكنولوجية وثقافية وفلسفية وفكرية كبرى، قرن من الزمان نشأت خلاله مدارس وانهدمت أخرى، كيف تبدل الإنسان وكيف تبدلت همومه وأحلامه؟
والأهم من ذلك كيف تبدلت العين الراصدة له: عين المبدع؟
فاطمة ناعوت
مدينة الرحاب
صفحه نامشخص
يونيو 2005
الأشياء التي تركتها وراءك1
طوال الأسبوع الماضي، لم يكن بوسعي النظر إلى سلة الغسيل بالحمام. ما زالت ملأى بأشيائك. والحقيقة هي أنني أصبحت خائفا منها، مرعوبا مما قد أجده داخلها. قطع الملابس الداخلية، مشدات الصدر، بنطلون الركض الخاص بك. جواربك. أنا واثق تقريبا أن زوج الجوارب الذي أهديته لك في عيد ميلادك الأخير كان هناك؛ الجورب الذي يحمل تطريزا عند الكاحل يمثل رمز إلهة الأنوثة بخيوط ذهبية. لو رأيت أشياءك ثانية، لا أعرف ماذا سيفعل ذلك بي، لذلك، كلما أردت استخدام التواليت، أدير وجهي للحائط، وأحملق في الرسومات على ورق الحائط. أتظاهر وكأنني في عالم مختلف، حيث الحمامات خاوية، وسلال الغسيل ليست موجودة.
لكنها هناك، أعلم أن سلال الغسيل موجودة. في العالم الذي تركتني به، سلال الغسيل موجودة في كل مكان. كلما استعملت التواليت، أعلم أنني على بعد قدم من أشيائنا، من الأشياء الخبيئة بالداخل. إنها تناديني. الأشياء التي خلفتها وراءك.
لذلك سوف أتعامل معها اليوم. اليوم سأفرغ السلة.
وها هي الطريقة التي سيتم عليها الأمر.
سأجد قطعة الملابس الداخلية التي تخصك، لونها أصفر فاتح ولها أحزمة حول الخصر. شعرتان ملتفتان مشتبكتان ببطانة السروال. إنه شعرك.
سأجلس لبرهة بعدما أضعهما في راحة يدي، ثم آتي بقصاصة ورق. سأفرد الشعرتين على الورقة وأحاول أن أقيس طولهما. يبدو ذلك أفضل ما يمكن فعله، أوقن أن فعل ذلك سيجعلني في حال أفضل. مثل ذاك اليوم الذي أعاد فيه البوليس أغراضك الشخصية، قلت شكرا، أنتم طيبون جدا، وبعدما مضى رجال البوليس، تناولت ميزان المطبخ وشريط القياس ورحت أزن أغراضك وأقيسها.
هل تذكرين مفاتيحك؟ وزنهم 78 جراما، وكان الأكبر بين المجموعة (مفتاح سيارتك) بطول 73 مليمترا.
شعرتاك ستكونان وغدتين إلى حد ما. تتصرفان على نحو سيئ. كلما شددتهما تلتفان حول إصبعي من جديد. لا جدوى، لن يفعلا ما أريد.
صفحه نامشخص
تبدوان مألوفتين؟
سوف أنجح في النهاية. إحدى الشعرتين ستكون 24 مليمترا طولا، والأخرى 27,5 مليمترا. سوف أقيس بعضا من شعيراتي لأقارن. ستكون أطول بكثير، وسوف أتساءل ما إذا كانت هذه اختلافات أساسية بين الذكر والأنثى، أم إن الشعيرتين اللتين وجدتهما في سروالك تصادف أن كانتا قصيرتين.
سألصق شعرتيك على الورقة، واحدة جوار الأخرى، أغطيهما بشرائح اللاصق الشفاف، وأدون تفاصيلهما. ثم أضع الورقة في مظروف أكتب عليه بخط أنيق «شعيرات كاثي (2)»، ثم أضعه في الصندوق، في محاذاة بقية الأشياء التي نجحت في استنقاذها من الغرق.
بعد ذلك، في نهاية إحدى ساعات الليل المرهقة، سوف يغدو المنزل كبيرا جدا، ولن يكون بوسعي النوم، ولن يكون هناك شيء بالتلفزيون سوى بعض برامج البورنو الخفيفة وعروض المسابقات، لذلك سوف أخرج الصندوق من مخبئه، وأتفحص ما به مليا، ببطء، أستنشق، لن أتعجل، سوف أمتص آثارك وشذراتك بشفتي وأنفي ولساني وأصابعي.
مداخل المباني، هكذا أفكر بها. الأشياء التي تركت وراءك هي المداخل، مداخل الذكريات، ممرات الوميض والتحولات. أمر عبر هذه، أو تلك، لأجد نفسي في بقعة مختلفة منك. بقعة مختلفة منا.
لدي خاتم الزفاف الخاص بك. حين ألتقطه، لا أتذكر مكتب «باكستون» لتوثيق الزواج، ولا كعكة الزفاف ذات الخمسة عشر جنيها إسترلينيا، التي كانت شديدة الصلابة حتى إننا لم نستطع تقطيعها، ولا حتى حقيقة أنك لم تستطيعي نطق كلمة «عائق شرعي». تلك الأشياء تأتي لاحقا. الذي أتذكره أولا هو اللحظة التي قذفت فيها بالخاتم، هذا الخاتم الذي اشتريته من أجلك، ومررته حول إصبعك. قذفته لي. طوحت به في وجهي. وأتذكر كيف ضاع وانتهى به الحال في وعاء الكلب، وبعدها بلحظات، داخل الكلب ذاته. وأتذكر الراحة على وجهك حين خرج أخيرا من الناحية الأخرى.
أتذكر كيف جعلت الماء الصافي ينساب فوقه في حوض المطبخ لتنظيفه من غائط الكلب، تضحكين قائلة: «يجب أن يصبح هذا الأمر رمزا!»
وكنت محقة، فقد كان.
لكنني لا أذكر ماذا تعني تلك الرموز يا كاثي. لا أذكر ماذا يعني أي منها. ربما تعني لا شيء، ربما كما قلت أنت مرة، الأمر كله نكتة كونية.
حتى ولو كان الأمر كذلك، سوف أستمر في تجميع الأشياء.
صفحه نامشخص
الأسبوع الماضي وجدت قلامة ظفر إصبع قدم ضالة كانت مختبئة تحت حوض الحمام. بها أثر من طلاء أظافر أحمر، لهذا عرفت أنها لك. وكذلك - أظن في اليوم ذاته - صادفت قائمة مشتريات مكرمشة في جيب معطفك، وكذا إحدى شخبطاتك: أرنب رسوم متحركة مرسوم بعشوائية على ورقة ملاحظات صفراء، كنت وضعتها داخل الكتاب كي تحددي أين وقفت. «هاري بوتر» وحجر الفلاسفة. الكتاب الأخير الذي كنت تقرئينه، لكن الأرنب أخبرني أنك لم تنتهي من قراءته. وصلت إلى صفحة 29، تماما مثل عمرك. هل يعني ذلك أي شيء؟
لا أظن يا كاثي. لكنني سوف أحتفظ بالكتاب وبالعلامة وبالشخبطة وبقلامة الظفر وبشعيرات العانة وبمفتاح سيارتك وبخاتم الزفاف وبكل القطع الصغيرة الحزينة الآسفة التي تركتها وراءك. سوف أحفظها جميعا في صندوقي.
وسوف أعمل قدر إمكاني على الاحتفاظ، لأطول وقت ممكن، بالشيء الأشد حزنا والأشد أسفا منها جميعا.
سوف أحتفظ بنفسي.
البومة1
كان الكوخ بديعا؛ كل النوافذ من ألواح خشب الصنوبر الثقيلة بارتفاع من الأرض إلى السقف، على مدار ثلاثة أوجه من أوجهه الأربعة. كان «سايمون» قد أحب شكل الكوخ بمجرد أن رأى صورته في كتيب الإجازات. غير أنه أحب الكوخ الحقيقي أكثر.
سأل «ماري» بينما تخشخش سيارتهما عند المدخل المغطى بالحصى الصغير: «ما رأيك؟»
التفتت إليه وتنهدت قائلة: «أعطني فرصة.»
قال سايمون: «آسف!»
أوقف السيارة وهبطت ماري. مشت صوب سياج مطلي يفصل واجهة الكوخ عن الحقل. سياج من الأوتاد البيضاء، يشبه ذلك الذي يعرف أنها حلمت به حين كانت فتاة صغيرة. تحقق حلمها عبر قرار سايمون الأخير. كان هذا الحلم هو أحد أسباب اختياره هذا الكوخ تحديدا وهذا الموقع تحديدا.
صفحه نامشخص
راح يتأملها لحظة، ويفكر: «زوجتي، «ماري» التي تخصني.»
شاهدها وهي تثبت أطراف أناملها واحدا إثر واحد فوق حافة السياج، وتذكر كيف اعتادت أن تفعل الشيء نفسه فوق ذراعه العارية. قبل زمن من الآن. زمن طويل.
نزل من السيارة ولحق بها. كانت فرصة ليريح ساقيه ويمدهما. بالطبع شيء من الشراب القوي سيكون فيه راحة أكبر، لكنه كان قد وعد، وبوسعه أن ينتظر. وقف جوار سياج ماري، يدلك عقد التوتر المتجمعة في عموده الفقري، يعب من هواء الريف المضفور بروائح الأرض والغابة الدافئة والأعشاب النامية.
الحشائش الخضراء المزالة من المرج العشبي الخشن أمامهما كانت منحدرة بعيدة عن الكوخ - الذي سيكون كوخهما على مدى الأسبوعين القادمين، أو طالما استطاعا أن يبقيا في رفقة بعضهما البعض - ومكومة في اتجاه شلال المياه الذي يلمع في الوادي المنبسط بالأسفل. وخلف الماء، ربما على بعد خمسين مترا، كانت ثمة غابة. جذوع الأشجار وأوراقها المتحورة بدت رائعة الجمال في ضوء الشمس المائلة.
نظرت ماري نحو المشهد غير أنها ظلت صامتة، وتصور سايمون ماذا يمكن أن يعني ذلك، كل منهما محبوس داخل عالمه الخاص المنفصل، هو يمشي وحيدا خلال الغابة التي تناديه، الغبار والجذور المتكسرة تحت قدميه. هو لا يريد ذلك.
قال: «حسنا!» لمحة من التوتر شابت صوته. سرعان ما ندم عليها.
حولت ماري عينيها إليه في ضوء الشمس المحتضر، لكنها لم ترفع يدها لتظلل عينيها. أطراف أصابعها كانت مربوطة فوق قضبان السياج.
أجابت: «إنه جيد.» «جيد وحسب؟»
أدارت رأسها ونظرت مجددا نحو الحقل. حاول أن يرى المياه والغابة خلال عينيها.
قالت: «كلا! ليس جيدا وحسب. أفضل من جيد. ربما مثالي!»
صفحه نامشخص
أومأ برأسه.
قال: «حسنا، كل شيء على ما يرام إذن!»
بعد برهة عادا إلى السيارة وبدآ في تفريغ أغراضهما. •••
كان بالكوخ سريران متشابهان. سألها إذا كانت ترغب في ضمهما معا. نظرت إليه، لكنه لم يستطع قراءة التعبير فوق وجهها.
قالت: «هل يزعجك إذا لم نفعل؟ ليس الليلة على أية حال. ربما فيما بعد.» •••
جلس على أحد المقاعد ذات المساند داخل الكوخ، زجاجة خمر على الطاولة إلى جواره. شاهد «ماري» تتجول في الخارج. بعد برهة عادت أدراجها إلى مكانها جوار السياج وزرعت نفسها هناك، متوجهة بنظرها إلى القمر. كانت ليلة دافئة. النشرة الجوية وعدت بهذا. كل شيء على ما يرام حتى الآن.
كانت الكلمات قليلة، لكنهما أفرغا أمتعتهما، أعدا وجبة سويا، جلسا، تناولاها معا. أطلق نكتة، وابتسمت ماري. لم تذكر شيئا بشأن إسرافه في الخمر. وهو لم يثر مشكلة بشأن السريرين.
قال للغرفة الخاوية: «هذا مكان جميل!»
رفع كأسه، وشاطر الكوخ نخبه، شرب نخب الغابة، شلال الماء، شرب نخب قراره. ثم نظر عبر الزجاج، ورأى ماري في ضوء القمر وقد تحولت إلى تمثال من الذهب.
كان قد حجز للإجازة من غير أن يخبرها، باغتها بالخبر أمس، وضعها أمام الأمر الواقع. اشتعلت غضبا، وكادت ترفض المجيء. مر الوقت فيما يقود السيارة إلى هنا على نحو غير مريح على الإطلاق. لكنهما هنا الآن، كان سعيدا وتمنى أن تكون سعيدة أيضا.
صفحه نامشخص
قال ثانية: «مكان جميل!» رجع الصوت إليه، دافئا خشبيا عبر الكوخ الصنوبري.
التفتت ماري. توقفت. ثم رمت بصرها إلى البعيد مجددا.
في القديم كانت تستطيب صوته. كم قالت: «حسنا، رغم إنك تشبه الكلب، لكن على الأقل لك صوت لطيف!»
كانت تضحك ضحكة واسعة وتلوي شفتيها بسعادة حين يعرض عليها أن يقرأ لها في السرير. كم أحب أن يراها تسقط في النوم على صوته فيما يقرأ. ما زال بوسعه أن يشعر بأناملها ترتاح فوق فخذه، بوسعه أن يتذكر شعوره بالأمان وهي تنجرف بعيدا في قصص «ه. إي بيتس»
2
أو «توماس هاردي». حتى بعد أن تنام كان يواصل الحكي، كان يحبها بصوته ويود أن يرسله إليها في أحلامها.
عند نقطة ما توقفا عن فعل ذلك. لا يتذكر لماذا، أو متى.
رشف من كأسه وفكر في اليوم الذي حملها فيه إلى أعلى السلم في بيتهما الأول، شقة ضيقة أعلى دكان بيع الطلاءات. تألم ظهره يومها، واضطر إلى النوم على الأرض ثلاث ليال. كانت تطعمه حساء، وفي يوم جاءت البيت بكلب صغير. في تلك السنوات الأولى كانوا غالبا يجلسون ثلاثتهم في الشرفة يشاهدون العابرين، وحركة المرور، ويشاهدون السيارات التي تزحف صوب الشارع الرئيسي.
قالت ذات مرة: «تحب أن تراقب الحياة، أليس كذلك؟»
تأمل انعكاسها الباهت على الزجاج، ورآها تنظر إليه. - «نعم. مراقبة الحياة ليست مخيفة مثل معيشتها!»
صفحه نامشخص
داعبت شعره ولامست النافذة بأنفها.
قالت: «مراقبة الحياة عبر الزجاج !» وبقيت الكلمة معه.
ضحكا وقتها كثيرا. حتى كلبهما ابتسم. بالتأكيد لم يكونا قد عرفا، لم يكونا قد قدرا الزمن قدره، ولا المكان. •••
كان نصف نائم في مقعده حين دخلت ماري الكوخ راكضة.
قالت: «تعال إلى الخارج، أسمع شيئا.»
وضع كأسه وتبعها. استقبله الليل والنجوم والفضاء. شبح أسود اللون قطع الهواء فوق رأسيهما، بصوت كالنداء.
همست: «أليست هذه بومة؟» «لا أدري.» رد هامسا أيضا: «جائز.»
جاء النداء ثانية، من وراء الشلال هذه المرة، هناك عند الغابة. صوت حزين، هكذا فكر سايمون. صوت محزون شجي شق طريقه عبر حوائط دفاعه فتذكر طفلتهما، طفلتهما تقريبا. كانا سيدعوانها «كيت»، اشتريا ملابس أطفال، ورسما الخطط. بلا جدوى. لم تعد ماري تتحدث عنها بعد ذلك. لم يصبح أبا، لكن ذلك لم يعد مهما الآن. حتى وقتها، لم يكن الأمر مهما جدا. الأشياء كانت مرتبكة، و«كيت» كانت مجرد احتمال. ضاعت منهما. الكوخ كان احتمالا آخر، فرصة، ربما فرصتهما الأخيرة. لا يريد لتلك الفرصة أن تضيع منهما أيضا.
قالت ماري: «أعتقد أنها كانت بومة.»
نظر إليها، عيناها تتألق في ضوء القمر. أراد أن يقبلها. تمنى لو لم يترك الخمر في الكوخ.
صفحه نامشخص
قال: «أعتقد ذلك أيضا!»
لمس يدها. فابتسمت. •••
في الثالثة صباحا كف عن محاولة النوم. تسلل خارج غرفة النوم. صب كأسا آخر من الاسكوتش، ثم عاد إلى مقعده جوار النافذة. كانت ماري أسدلت الستائر. قام ورفعها، ونظر إلى الخارج صوب الحقل المضاء بنور القمر. كانت السياج شديدة البياض، بدت وكأنها تطفو في الظلام.
سألت قبل أسبوعين: «هل انتهى كل شيء؟» تذكر جهاز التليفزيون القابع في ركنه، يغمغم بأخبار السادسة.
أجابها ببطء: «ماذا؟» زلزال آخر في مكان ما جنوب أمريكا. تظاهر بأنه يستمع. - «هل انتهى الأمر؟»
لم يكن قادرا على ملاقاة عينيها. رشف من كأسه كما يرشف منها الآن.
قال أخيرا: «لا أدري!»
لم تتكلم لبرهة. ثم قالت: «أظن ذلك.»
من خلف السياج ذات الأوتاد البيضاء لمح شيئا يقترب، شبحا قاتما يحلق في الهواء. كان هجوما مباغتا، قويا بما يكفي لجعل الكوخ يرتعد، وعالي الصوت بما يكفي لجعله ينكفئ إلى الوراء، فاندلق الخمر على السجادة.
تصدعت النافذة طوليا من أعلى إلى أسفل. ثم سمع ماري تصيح من غرفة النوم. - «سايمون؟ ما هذا؟ يا إلهي! ماذا فعلت؟»
صفحه نامشخص
رد عليها: «لا شيء! شيء ما خبط النافذة. أنا ذاهب لأرى.»
كان ضوء القمر خافتا لكنه ساطع. استغرق ثواني قليلة ليحدد موقع الطائر الجريح. كان هناك جوار السياج. راقدا على جانبه، ينتفض بعنف. ركض سايمون نحو المدخل ذي الحصى المجروش، وقرفص جواره.
هتفت ماري من باب الكوخ، حبكت قميص نومها ليقيها هواء الليل. وكان شعرها معقوصا لأعلى.
سألت: «ما هذا؟»
احتوى الطائر بيديه ثم انتصب واقفا. كان الطائر يرتعد بين يديه ولم يكن فيما يبدو واعيا.
قال: «هذه بومة ... أعتقد أنها بومة من نوع ما!»
أحد الجناحين كان متدليا بزاوية عجيبة، العظام تطقطق بوضوح، والرأس لم تكن في موضعها.
قالت ماري فيما تلحق به عند السياج: «ماذا بوسعنا أن نفعل؟»
هز سايمون رأسه: «لا أعتقد أن بوسعنا فعل أي شيء، أظن أنها ماتت بالفعل.» - «لكنها تتحرك. انظر إليها. ياللكائن المسكين! فقط انظر إليه.»
اهتزت البومة بين يدي سايمون. فتحت منقارها في ارتجافة أخيرة، ثم توقفت الرعشة. اختبر سايمون النبض بجسدها، لم يكن واثقا أين يضع إصبعه. لكن شيئا لم يكن هناك على الإطلاق.
صفحه نامشخص
قال: «ماتت.»
نظر إلى ماري ورأى الدموع بعينيها.
قال: «لا أظن أنها تألمت طويلا، إنها صفعت النافذة وحسب، ربما طارت مباشرة صوب تلك النافذة اللعينة. أعتقد أنها خبطتها فماتت من فورها.»
مدت ماري يدها وداعبت ريش البومة. لا دم هناك. لا قطرة واحدة. نفس الشيء كان مع «كيت». نفس الشيء تماما.
قالت ماري: «إنها جميلة جدا، هل تعتقد أنها هي ما سمعناها تنادي؟ أظنها هي. يا إلهي، ياللعار!»
ثمة شيء في نبرة صوتها حرك ثقلا جبارا في صدره . كان عليه أن يزدرد لعابه قبل أن يمكنه الكلام.
قال: «سوف ندفنها في الصباح، سنأخذها إلى الغابة في الأسفل هناك، ونبحث عن بقعة جميلة وندفنها سويا.»
رفعت ماري بصرها إليه وقالت: «نعم، يبدو هذا مناسبا. فلنفعل!»
ألقت لمحة سريعة إلى الكوخ ثانية ثم همست: «وربما علينا أن نأتي بأحدهم ليصلح تلك النافذة. إذا قامت عاصفة سوف تطيح بنا.»
أومأ سايمون. كانت على حق، لكن شيئا داخله لا يريد للنافذة أن تصلح. فقد نال الكثير من مراقبة العالم عبر الزجاج.
صفحه نامشخص