امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المتوفي عام ٥٦٠م - ٨٠ ق. هـ
ترجمة الشاعر
- ١ - هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر. وهو من قبيلة كندة. وكندة قبيلة يمنية، كانت تسكن قبل الإسلام غربي حضرموت؛ وكانت على اتصال بالحميريين. وفي عهد حسان بن تبع ملك حمير كان حجر بن عمرو سيد كندة في حاشية حسان. وقد فتح حسان فتوحًا كثيرة في جزيرة العرب، فولى حجرًا بعض قبائلها ودانت كلها لحجر الكندي؛ كما دان حجر بالولاء لحمير، ونزل حجر نجدًا؛ وكان اللخميون ملوك الحيرة قد بسطوا نفوذهم على تلك البلاد؛ وخاصة بلاد بكر بن وائل؛ فحارب حجر اللخميين وأزال نفوذهم.
وفي عهد الحارث بن عمرو بن حجر اتسع سلطان كندة؛ واتصل الحارث بقباذ ملك الفرس فولاه الحيرة مكان اللخميين؛ ونشر نفوذه - وسط الجزيرة - على كثير من قبائل العرب؛ وفرق الملك في أبنائه الأربعة: فولى ابنه حجرًا (أبا امرئ القيس) بني أسد؛ وابنه شرحبيل بكر بن وائل؛ وابنه معد يكرب قبيلة قيس وكنانة وابنه سلمة قبيلتي تغلب والنمر بن قاسط.
ولكن هذا النفوذ لم يدم طويلًا؛ فقد عاد اللخميون إلى نفوذهم في الحيرة وقربهم من ملك فارس؛ ودسوا الدسائس لأولاد الحارث فقتل سلمة وشرحبيل وتنكر بنو أسد لحجر؛ ونبذوا طاعته؛ وأمسكوا عن دفع الأتاوة له. واستعان حجر بجند من ربيعة وأعمل في بني أسد السيف؛ واستباح أموالهم؛ وحبس أسرافهم؛ ومنهم عبيد بن الأبرص الشاعر؛ ثم رق لهم وأطلق سراحهم فحقدوا عليه واغتالوه.
وفي أخبار الرومان أن حجرًا وأخاه معد يكرب قاما ببعض غزوات على حدود المملكة البيزنطية من أواخر القرن الخامس الميلادي.
وبموت حجر تضعضعت سلطة كندة.
- ٢ - نشأ امرؤ القيس في بيت ملك واسع الجاه، وكان من صباح ذكيًا متوقد الذهن فلما ترعرع أخذ يقول الشعر ويصور به عواطفه وأحلامه. نشأ نشأت ترف؛ يحب اللهو ويشبب بالنساء ويقول في ذلك الشعر الماجن. فطرده أبوه وآلى ألا يقيم معه فكان يسير في أحياء العرب، ومعه طائفة من شباب القبائل الأخرى؛ كطيئ وكلب، وبكر بن وائل، يجتمعون على الشراب والغناء عند روضة أو غدير، ويخرج هو للصيد فيصيد ويطعمهم من صيده. وظل كذلك حتى جاءه نعي أبيه وهو بدمون (قرية بالشام وقيل في اليمن)، فرووا أنه قال: "ضيعني أبي صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدا، اليوم خمر، وغدًا أمر".
رحل امرؤ القيس يستنصر القبائل للأخذ بثأر أبيه من بني أسد فاستنجد بقبيلتي بكر وتغلب فأعانوه وأوقعوا ببني أسد؛ وقتلوا منهم، واكتفت بكر وتغلب بذلك وقالوا له قد أصبت ثأرك وتركوه. ولكن امرؤ القيس كان يريد التنكيل ببني أسد ويحاول أن يعيد لنفسه ملك أبيه، فلم يقنعه ما فعلت بكر وتغلب، فذهب إلى أهله باليمن يستنصرهم، فأعانوه بجنود ذهب بهم إلى بني أسد، ولكن ملك الحيرة أخذ يؤلب عليه ويدس الدسائس له حتى فشل.. وظل شريدًا يتنقل بين أمراء العرب حتى نزل أخيرًا على السموءل بتيماء فأجاره. وطلب إليه امرؤ القيس أن يكتب إلى الحارث - أمير الغساسنة بالشام - ليوصله إلى قيصر ملك الرومان ويمهد لامرئ القيس السبيل للسفر إلى القسطنطينية؛ يطلب المعونة منه ليعيد ملكه فأجاب السموءل طلبه فأودعه امرؤ القيس امرأته ودروعًا له كان يتوارثها ملوك كندة، ورحل إلى قيصر. وكان ذلك في عهد القيصر (يوستنيانوس) .
ويرى أن القيصر أحسن وفادته، وكان السبب في ذلك - على ما يظهر - أن امرأ القيس كان طريد اللخميين في الحيرة، وأمراء الحيرة في كنف الفرس. والفرس أعداء الروم. فلعل (يوستنيانوس) أراد أن يعينه ويجعل منه ومن أعوانه جيشًا ينتقم بهم من أمراء الحيرة، ويصطنعه كما اصطنع غساسنة الشام.
وقد ذكر بعض مؤرخي الرومان خبر رحلته إلى القسطنطينية، وسموه "قيسًا" لا امرأ القيس، وذكروا أن القيصر وعده بإعادة ملكه ثم ولاه فلسطين، ولكن هذا لم يرض امرأ القيس فقفل راجعًا.
ولكن مؤرخي العرب يروون أن القيصر قبل وفادته وضم إليه جيشًا وفيهم جماعة من أبناء الملك؛ وأن قومًا من أصحاب قيصر قالوا له: "إن العرب قوم غدر ولا تأمن أن يظفر بما يريد ثم يغزوك بمن بعثت معه".
1 / 1
وآخرون يروون أن بعض العرب ممن كان مع امرئ القيس ذكروا للقيصر أن امرأ القيس قال لقومه إنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، فأرسل قيصر إليه حلة مسمومة فلما لبسها أسرع فيه السم وسقط جلده؛ ومن أجل هذا سمي "ذا القروح" ومات بأنقرة وهو عائد من القسطنطينية. والظاهر أن امرأ القيس أصيب أثناء عودته بمرض جلدي سبب له قروحًا.
كان دين امرئ القيس الوثنية وكان غير مخلص لها. فقد روي أنه لما خرج للأخذ بثأر أبيه مر بصنم للعرب تعظمه يقال له ذو خلصة. فاستقسم بقداحه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص. فأجالها فخرج الناهي. فعل ذلك ثلاثًا فجمعها وكسرها. وضرب بها وجه الصنم. وقال: "لو كان أبوك قتل ما عقتني".
وكان امرؤ القيس يلقب بالملك الضليل؛ وبذي القروح؛ لما أصيب به في مرضه على ما ذكرناه.
- ٣ -
ألوان من حياة امرئ القيس
كان حجر في بني أسد، وكانت له عليهم إتاوة في كل سنة مؤقتة فغبر ذلك دهرًا، ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجيبهم؛ فمنعوه ذلك - وحجر يومئذ بتهامة - وضربوا رسله؛ وضرجوهم ضرجًا شديدًا قبيحًا.
فبلغ ذلك حجرًا، فسار إليهم بجند من ربيعة وقبس وكنانة. فأتاهم وأخذ سراتهم. فجعل يقتلهم بالعصا. وأباح الأموال؛ وصيرهم إلى تهامة؛ وآلى بالله ألا يساكنوهم في بلد أبدًا؛ وحبس منهم عمرو بن مسعود الأسدي، وكان سيدًا؛ وعبيد بن الأبرص الشاعر؛ فسارت بنو أسد ثلاثًا.
ثم إن عبيد بن الأبرص قام فقال: أيها الملك اسمع مقالتي:
يا عين فابكي من بني ... أسد فهم أهل الندامة
أهل القباب الحمر والن ... عم المؤبل والمدامة
وذوي الجياد الجرد والأ ... سل المثقفة المقامة
حلا أبيت اللعن حلا ... إن فيما قلت آمة
في كل واد بين يث ... رب فالقصور إلى اليمامة
تطريب عان أو صيا ... ح محرق أو صوت هامة
ومنعتهم نجدًا فقد ... حلو على وجل تهامة
برمت بنو أسد كما ... برمت ببيضتها الحمامة
جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامة
إما تركت عف ... وًا أو قتلت فلا ملامة
أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامة
ذلوا لسوطك مثل ما ... ذل الأشيقر ذو الخزامة
فرق لهم حجر حين سمع قوله، فبعث في أثرهم فأقبلوا، حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم فقال لبني أسد: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخب؟ هذا دمه ينثعب وهذا غدًا أول من يسلب.
قالوا: من هو؟ قال: لولا أن تجيش نفس جاشية؛ لأخبرتكم أنه حجر ضاحية.
فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر فهجموا على قبته، وهزموا أصحابه وأسروه فحبسوه، وتشاور القوم على قتله، فقال لهم كاهن من كهنتهم بعد أن حبسوه ليروا رأيهم فيه: أي قوم! لا تعجلوا بقتل الرجل حتى أزجر لكم.
فانصرف عن القوم لينظر لهم في قتله، فلما رأى ذلك علباء بن الحارث الكاهلي خشي أن يتواكلوا في قتله، فدعا غلامًا من بني كاهل - وكان ابن أخته - فقال: يا بني، أعندك خير فتثأر بأبيك، وتنال شرف الدهر، وإن قومك لن يقتلوك؟!.
فلم يزل بالغلام حتى حربه، ودفع إليه حديدة وقد شحذها وقال: ادخل عليه مع قومك، ثم اطعنه في مقتله.
فعمد الغلام إلى الحديدة فخبأها، ثم دخل على حجر في قبته التي حبس فيها.
فلما رأى الغلام غفلة وثب عليه فقتله؛ فوثب القوم على الغلام فقالت بنو كاهل: ثأرنا وفي أيدينا!.
فقال الغلام: إنما ثأرت بأبي، فخلوا عنه.
وأقبل كاهنهم المزدجر فقال: أي قوم! قتلتموه! ملك شهر، وذل دهر، أما والله لا تحظون عند الملوك بعده أبدا.
ولما طعن الغلام حجرًا ولم يجهز عليه، أوصى ودفع كتابه إلى رجل وقال له: انطلق إلى ابني نافع. وكان أكبر ولده - فإن بكى وجزع فاله عنه؛ واستقرهم واحدًا واحدًا؛ حتى تأتي امرأ القيس - وكان أصغرهم - فأيهم لم يجزع؛ فادفع إليه سلاحي وخيلي وقدوري ووصيتي، وبين في وصيته من قتله؛ وكيف كان خبره.
1 / 2
فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه؛ ثم استقراهم واحدًا واحدًا، فكلهم فعل ذلك؛ حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد؛ فقال له: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس، اضرب فضرب، حتى إذا فزع قال: ما كنت لأسد عليك دستك.
ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره؛ فقال الخمر علي والنساء حرام، حتى أقل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة.
وكان امرؤ القيس قد طرده أبو حجر، وآلى ألا يقيم معه أنفة من قوله الشعر - وكانت الملوك تأنف من ذلك - فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب: من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم؛ وخرج للصيد فتصيد فأكل وأكلوا معه. وشرب الخمر وسقاهم. وغنته قيانه.
ولا يزال كذلك حتى ينفذ ماء ذلك الغدير. ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون من أرض اليمن. فقال:
تطاول الليل على دمون ... دمون إنا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون
ثم قال: ضيعني صغيرًا، وحملني دمه كبيرًا. لا صحو اليوم؛ ولا سكر غدًا، "اليوم خمر، وغدًا أمر". ثم قال:
خليلي لا في اليوم مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب.
وقدم على امرئ القيس بن حجر الكندي بعد مقتل أبيه رجالات من بني أسد، فيهم المهاجر بن خداش؛ وعبيد بن الأبرص، وقبيصة بن نعيم - وكان رجلًا مقيمًا في بني أسد ذا بصيرة بمواقع الأمور وردًا وإصدارًا، يعرف ذلك له من كان محيطًا بأكناف بلده من العرب.
فلما علم امرؤ القيس بمكانهم أمر بإنزالهم، وتقدم في إكرامهم والإفضال عليهم. واحتجب عنهم ثلاثا.
فقالوا لمن ببابه من رجال كندة: ما بال الرجل لا يخرج إلينا؟ فقيل لهم: هو في شغل بإخراج ما في خزائن حجر من العدة والسلاح! فقالوا: اللهم غفرا! إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف. ونستدرك به ما فرط. فليبلغ ذلك عنا.
فخرج إليهم بعد ثلاث في قباء وخف غمامة سوداء - وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا في التراث - فلما رأوه نهضوا له. وبدر إليه قبيصة فقال: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر. وما تحدثه أيامه وتتنقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ. ولا تذكرة مجرب. ولك من سؤدد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة، والرجوع عن الهفوة ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها.
وقد كان الذي كان من الخطب الجليل، الذي عمت رزيته نزارًا واليمن. ولم تخصص به كندة دوننا للشرف البارع الذي كان لحجر، ولولا كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك، ولفديناه منه. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه ولا يلحق أقصاه أدناه.
فأحمد الحالات في ذلك: أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا فقدناه إليك بنسعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته. فيقال: رجل امتحن بهلك عزيز عليه. فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة وكان ذلك فداء ترجع به القضب إلى أجفانها لم يردده تسليط الإحن على البراء وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل فتسدل الأزر وتعقد الخمر فوق الرايات.
فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع طرفه إليهم فقال قد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم وأني لن أعتاض به ناقة أو جملًا فأكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها وإني لن أكون لعطبها سبيا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقا وفوق الأسنة علقا.
إذا جالت الخيل في مأزق ... تصافح فيه المنايا النفوسا
أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا بل ننصرف بأسوأ الاختيار لحرب وبلية، ومكروه وأذية. ثم نهضوا عنه وقبيصة يقول متمثلا:
لعلك أن تستوخم الموت إن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر
1 / 3
فقال امرؤ القيس لا والله لا أستوخمه ولكن أستعذبه فرويدًا ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير. ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي، إذ كنت نازلًا بربعي، ومتحرمًا بذمامي، ولكنك قلت فأجبت.
قال قبيصة: إن ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب. قال امرؤ القيس: هو ذاك!.
ثم شرب امرؤ القيس سبعا، فلما صحا آلى ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصب امرأة حتى يدرك بثأره، فلما جنه الليل رأى برقًا فقال:
أرقت لبرق بليل أهل ... يضيء سناه بأعلى الجبل
أتاني حديث فكذبته ... بأمر تزعزع منه القلل
بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
فأين ربيعة عن ربها ... وأين تميم وأين الخول
ألا يحضرون لدى بابه ... كما يحضرون إذا ما أكل
وارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكرًا وتغلب، فسألهم النصر، وبعث العيون على بني أسد، فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد، تعلمون والله أن عيون امرئ القيس قد أتتكم، ورجعت إليه بخبركم، فارحلوا بليل، ولا تعلموا بني كنانة، ففعلوا.
وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب، حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم، وقال: يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام. فخرجت إليه عجوز من بني كنانة فقالت: أبيت اللعن! لسنا لك بثأر، ونحن من كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم؛ فإن القوم ساروا بالأمس.
فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم تلك؛ فقال:
ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطاب
وأدركهم ظهرًا، وقد تقطعت خيله، وقطع أعناقهم العطش، وبنو أسد جامون على الماء؛ فنهد إليهم فقالتهم حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم وحجز الليل بينهم وهربت بنو أسد.
فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم؛ وقالوا له: لقد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدًا. قالوا: بلى، ولكنك رجل مشؤوم، وكرهوا قتالهم، وانصرفوا عنه، فمضى هاربًا لوجهه حتى لحق بحمير.
فاستأجر من قبائل العرب رجالًا، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بتبالة وبها صنم للعرب تعظمه، فاستقسم عنده بقداحة، وهي ثلاثة: الآمر، والناهي، والمتربص. فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها فكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: لو أبوك قتل ما عقني، ثم خرج فظفر ببني أسد.
وألح المنذر في طلب امرئ القيس، ووجه الجيوش في طلبه من إياد وبهراء وتنوخ، وأمده أنو شروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه، فلم يكن لامرئ القيس بهم طاقة؛ وتفرقت حمير ومن كان معه عنه، فنجا في عصبه من بني آكل المرار؛ ونزل ببعض رؤساء القبائل يستجير بهم وصار يتحول عنهم إلى غيرهم؛ حتى نزل برجل من بني فزارة يقال له عمرو بن جابر بن مازن، فطلب منه الجوار، حتى يرى ذات عيبه.
فقال له الفزاري: يابن حجر؛ إني أراك في خلل من قومك؛ وأنا أنفس بمثلك من أجل الشرف؛ وقد كدت بالأمس تؤكل في دار طيئ؛ وأهل البادية أهل وبر؛ لا أهل حصون تمنعهم، وبينك وبين أهل اليمن ذؤبان من قيس، أفلا أدلك على بلد! فقد جئت قيصر، وجئت النعمان، فلم أر لضيف نازل ولا لمجتد مثله ولا مثل صاحبه.
قال: من هو؟ وأين منزله؟ قال: السموءل بتيماء، هو يمنع ضعفك حتى ترى عيبك، وهو في حصن حصين وحسب كبير.
فقال له امرؤ القيس: وكيف لي به؟ قال أو صلك إلى من يوصلك إليه.
فصحبه إلى رجل من بني فزارة يقال له الربيع بن ضبع الفزاري ممن يأتي السموءل فيحمله ويعطيه.
فلما صار إليه قال له الفزاري: إن السموءل يعجبه الشعر؛ فتعال نتناشد له أشعارًا؛ فقال امرؤ القيس: قل حتى أقول. فقال الربيع:
قل للمنية أي حين نلتقي ... بفناء بيتك في الحضيض المزلق
ولقد أتيت بني المصاص مفاخرًا ... وإلى السموءل زرته بالأبلق
فأتيت أفضل من تحمل حاجة ... إن جئته في غارم أو مرهق
عرفت له الأقوام كل فضيلة ... وحوى المكارم سابقًا لم يسبق
فقال امرؤ القيس:
طرقتك هند بعد طول تجنب ... وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق
1 / 4
ثم مضى القوم حتى قدموا إلى السموءل فأنشدوه الشعر؛ وعرف لهم حقهم؛ ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ليوصله إلى قيصر. ومضى حتى انتهى إلى قيصر؛ فقبله وأكرمه؛ وكانت له عنده منزلة.
ثم إن قير ضم إليه جيشًا كثيفًا؛ فيه جماعة من أبناء الملوك، فلما فصل قال لقيصر قوم من أصحابه: إن العرب قوم غدر، ولا تأمن أن يظفر بما يريد؛ ثم يغزوك بمن بعثت معه.
فبعث إليه حينئذ بحلة وشى مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له إني أرسلت إليك بحلتي كنت ألبسها تكرمة لك؛ فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل إلى منزل.
فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فقال:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني مما يلبس أبؤسا
فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
ويروى أن امرأ القيس آلى بألية ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين؛ فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن: أربعة عشر.
فبينا هو يسير في جوف الليل إذ هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كائنها البدر ليلة تمامه، فأعجبته؛ فقال لها: يا جارية! ما ثمانية وأربعة واثنتان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة؛ وأما أربعه فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فثديا المرأة.
فخطبها إلى أبيها، فزوجه إياها وشرطت عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وأن يسوق إليها مائة من الإبل وعشرة أعبد وعشر وصائف وثلاثة أفراس، ففعل ذلك.
ثم إنه بعث عبدًا له إلى المرأة، وأهدى إليها نحيا من سمن ونحيا من عسل وحلة من عصب، فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها فتعلقت بعشرة فانشقت؛ وفتح النحيين فطعم أهل الماء منهما فنقصا.
ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها، فقالت له: أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيدًا ويبعد قريبًا، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يرعى الشمس؛ وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكم نضبا.
فقدم الغلام على مولاه فأخبره. فقال: أما قولها: إن أبي ذهب يقرب بعيدًا ويبعد قريبًا، فإن أباها ذهب يحالف قومًا على قومه. وأما قولها: ذهبت أمي تشق النفس نفسين، فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء. وأما قولها: إن أخي يرعى الشمس، فإن أخاها في سرح له يرعاه فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به. وأما قولها: إن سماءكم انشقت؛ فإن البرد الذي بعثت به انشق. وأما قولها: إن وعاءيكم نضبا؛ فإن النحيين الذين بعثت بهما نقصا فاصدقني!.
فقال: يا مولاي، إني نزلت بماء من مياه العرب، فسألوني من نسبي فأخبرتهم أني ابن عمك، ونشرت الحلة فانشقت، وفتحت النحيين فأطعمت منها أهل الماء. فقال: أولى لك!. ثم ساق مائة من الإبل وخرج نحوها ومعه الغلام، فنزلا منزلًا، فخرج الغلام يسقي الإبل فعجز، فأعانه امرؤ القيس، فرمى به الغلام في البئر، وخرج حتى أتى أهل المرأة بالإبل وأخبرهم أنه زوجها، فقيل لها: قد جاء زوجك، فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا! ولكن انحروا له جزورًا وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا فأكل ما أطعموه، فقالت: اسقوه لبنًا حازرًا، فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له فنام.
فلما أصبحت أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك، فقال: سلي عما شئت، فسألته فلم يعجبها جوابه، فقالت: عليكم العبد فشدوا أيديكم به؛ ففعلوا.
قال: ومر قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع إلى حيه، فاستاق مائة من الإبل وأقبل إلى امرأته، فقال لها: قد جاء زوجك! فقالت: والله ما أدري أهو زوجي أم لا، ولكن انحروا له جزورًا فأطعموه من كرشها وذنبها ففعلوا. فلما أتوه بذلك قال: وأين الكبد والسنام والملحاء! وأبى أن يأكل. فقالت: اسقوه لبنًا حازرًا؛ فأبى أن يشربه وقال: فأين الصريف والرثئة؟ فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، فأبى أن ينام وقال: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا عليها خباء.. ثم أرسلت إليه: هلم شريطتي عليك في المسائل الثلاثة فأرسل إليها أن سلي عما شئت. فسألته، فأعجبها جوابه فقالت: هذا زوجي لعمركم؛ عليكم به، واقتلوا العبد، فقتلوه ودخل امرؤ القيس بالجارية.
- ٤ -
شعر امرئ القيس
1 / 5
امرؤ القيس أسبق شعراء العربية إلى ابتداع المعاني والتعبير عنها، افتتح أبوابًا من الشعر ووفق إلى تشبيهات وطوق موضوعات لم يسبق إليها. ففتح باب الغزل وأطال الوصف، وأمعن فيه، وأبدع تصويره هذا إلى لفظ جزل موجز. وسبك محكم يتخلله مثل مرسل، وحكمة بالغة.
وكان شعره مرآة لحياته، وتاريخ قومه. فقد ذكرنا أنه كان لاهيًا مولعًا بالشراب. فكذلك كان شعره في شبابه صورة لحياته.
يمثل شعره حياته وترفه في بدء شبابه. فقد كان يخرج إلى الصيد بالطهاة يطهون له ولصحبه ما يصيد:
وظل طهاة اللحم ما بين منضج ... صفيف شواه أو قدير معجل
حتى إذا انتهت حياة اللهو والترف وحمل عبء أبيه كان شعره صورة لآماله:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني، ولم أطلب، قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وهو يصف حزنه على أبيه. وتهديده لقتلته بني أسد:
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلى ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول ما لايزا ... ل يؤثر عني يد المسند
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا تقعد
وإن تقتلونا نقتلكمو ... وإن تقصدوا لدم نقصد
وأعددت للحرب وثابة ... جواد المحثة والمرود
وهو يتردد في القبائل يتصرخها، يمدح من نصره، ويذم من خذله، فيمدح سعد بن ضباب الإيادي. وكان قد نزل به فأنجده:
سأشكرك الذي دافعت عني ... وما يجزيك مني غير شكري
فما جاء بأوثق منك جارًا ... ونصرك للفريد أعز نصر
ويهجو سبيع بن عوف:
أبلغ سبيعًا إن عرضت رسالة ... إني كظنك إن عشوت أمامي
أقصر إليك من الوغيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزامي
ثم هو يذهب إلى قيصر فيصف ذلك في شعره:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
وهكذا كان شعره صورة لما روي من حياته.
وأشهر شعره معلقته، ومطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وتقع في واحد وثمانين بيتًا. وقد نظمها في أيام شبابه ولهوه وموضوعها الغزل في بنت عمه عنيزة.
وله مطولات أخرى ذكرت في ديوانه وهو على كل حال قد امتاز بجودة الوصف، ولاسيما النساء والفرس والصيد. كما امتاز بكثرة متشبيه المبكر فشبه النساء بالظباء والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصي إلى كثير من أمثال ذلك. وقل أن ترى له أبياتًا خلت من التشبيه. وكان لرحلاته الكثيرة إلى الشام واليمن وغيرهما أثر في سعة خياله وحسن تصويره واستعماله ألفاظًا جديدة، فشبه في معلقته إشراق محبوبته بسراج الراهب، وحسن تصويره، وشبه ترائبها (وهي موضع القلادة منها) بالسجنجل (وهي كلمة رومية معناها المرآة)، وهكذا.
وأورث امرؤ القيس الأدب العربي أبيانًا كثيرة يتمثل بها كقوله: (وحسبك من غنى شبع ورى)، وقوله:
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقوله:
بنو أسد قتلوا ربهم ... ألا كل شيء سواه الجلل
وقوله:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
وقوله:
كذلك جدى لا أصاحب صاحبًا ... من الناس إلا خانني وتغيرا
وديوان امرئ القيس مشروح عدة شروح وطبع في باريس ومصر. وجمع أشعار امرئ القيس عدة من العلماء، وطبع ديوانه العلامة دي ستان في باريس سنة ١٨٢٨ مع ترجمة لاتينية. وجمع الأب لويس شيخو اليسوعي أهم أخبار وأشعار امرئ القيس من كتب عديدة وسردها في كتابه المعروف بشعراء النصرانية المطبوع في بيروت سنة ١٨٩٠.
1 / 6
ويعد امرؤ القيس أفحل شعراء الجاهلية وإمامهم ويقولون إنه كان أول من ابتدأ في شعره بذكر طلول محبوبته وباليقين في الأوصاف حتى إنه بلغ في ذلك مبلغًا عظيمًا وانه طبع في كل قصيدة من قصائده صورًا كثيرة من حياة البدو أنشدها على نسق واحد بديع مقبول فإن تشبيهات واستعاراته حسنة جدًا ولم يصل أحد إلى ما وصل إليه امرؤ القيس في المديح والهجو وأحسن صنعة في شعره هو وصفه جواده، فليس له في ذلك مثيل، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب وهو أحد الأربعة الذين وقع الاتفاق على أنهم أشعر شعراء العرب: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى واختلفوا في أيهم أشعر وأحسن ديباجة شعر والأكثرون على أنه امرؤ القيس.
قال لبيد: أشعر الناس ذو القروح. وقال الفرزدق: كان الشعر جملًا فنحر فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه. وقال جرير: اتخذ الخبيث الشعر نعلين.
وقال رسول الله ﷺ في امرئ القيس: إنه يقدم بلواء الشعر إلى النار. وقال علي بن أبي طالب: رأيت امرأ القيس أحسن الشعراء نادرة وأسبقهم بادرة وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة.
وقد أجاد امرؤ القيس في الغزل والوصف ووصف الخيل والصيد وتشبيه النساء بالظباء والمها إلى غير ذلك مما ابتكره من معان واهتدى إليه من أغراض. وله أبيات وقصائد غير صحيحة النسبة إليه وينكر بعض الرواة أبياته في معلقته:
وقربة قوم قد جعلت عصامها ... على كاهل مني ذلول مرحل
إلى آخر هذه الأبيات.
آراء النقاد في شعره
أقبل قوم من أهل اليمن يريدون النبي ﷺ فضلوا الطريق ووقعوا على غيرهما ومكثوا ثلاثًا لا يجدون الماء، ثم أقبل راكب فسمع بعضهم ينشد:
ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
فقال: من يقول هذا؟ قيل امرؤ القيس. قال: والله ما كذب هذا عارض عندكم. وأشار لهم إليه فوصلوه فإذا ماء عذب وإذا عليه العرمض والظل يفيء عليه فشربوا منه وحملوا ولما أتوا النبي قالوا يا رسول الله أحيانا الله ﷿ ببيتين من شعر امرئ القيس وأنشدوهما. فقال ﷺ: "ذلك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها متسي في الآخرة خامل فيها يجيء يوم القيامة معه لواء الشعر إلى النار".
وسأل العباس بن عبد المطلب عمر بن الخطاب عن الشعراء، فقال امرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر من معان عور أصح بصر.
وقال علي بن أبي طالب: "رأيت امرأ القيس أحسن الشعراء نادرة وأسبقهم بادرة وأنه لم يقل لرغبة ولا رهبة".
ومر لبيد بالكوفة على مجلس وهو يتوكأ على محجن له فسألوه عن أشعر العرب فقال: الملك الضليل ذو القروح.
وسئل جرير رأيه في امرئ القيس فقال: "اتخذ الخبيث الشعر نعلين"، وهذا رأي يمثل اقتدار امرئ القيس على الشعر وشدة تمكنه منه.
وقيل للفرزدق من أشعر الناس يا أبا فراس؟ فقال: ذو القروح. قيل حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول:
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وقال ابن يحيى: سمعت من لا أحصى من الرواة يقولون: "أحسن الناس ابتداء في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول: "ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي"؛ وحيث يقول: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"؛ وفي الإسلام القطامى حيث يقول: "إنا محيوك فاسلم أيها الطلل"؛ ومن المحدثين بشار حيث يقول:
أبى طلل بالجزع أن يتكلما ... وماذا عليه لو أجاب متيما
وقال بشار: لم أزل منذ سمعت قول امرئ القيس في تشبيهه بشيئين في بيت واحد حيث يقول:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
أعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد حتى قلت:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وكان أبو عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي يقول: أنسب بيت قالته العرب قول امرئ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
1 / 7
وقال حماد بن إسحق قال لي أبو ربيعة لو لم تكن هذه القصيدة "بزينب ألمم" لنصيب؛ شعر من كانت تشبه؟ قلت: شعر امرئ القيس "لأنها جزلة الكلام جيدة. فقال: سبحان الله قلت: ما شأنك؟ قال: سألت أباك عن هذا فقال لي مثل ما قلت" فعجبت من اتفاقكما.
وفي أسطورة أدبية رواها صاحب الجمهرة سئل جني من أشعر العرب؟ فقال:
ذهب ابن حجر بالقريض وقوله ... ولقد أجاب فما يعاب زياد
ويقول الآمدي: "وفضل امرؤ القيس لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة؛ فوق ما استعار سائر الشعراء منه في الجاهلية والإسلام. ولولا لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإقباله عليها لما تقدم على غيره ولكان كسائر شعراء أهل زمانه. ألا ترى أن العلماء بالشعر إنما احتجوا في تقديمه بأن قالوا هو أول من شبه الخيل بالعصا وذكر الوحش والطير وأول من قال قيد الأوابد الخ. فهل هذا التقديم إلا لأجل معانيه.
ومن آثار شعر الطبيعة عند امرئ القيس وصفه الجميل الرائع لليل وطوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انحلي ... بصبح وما الأصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
والقارئ يقف أمام هذه القطعة الفنية الجميلة متأملًا معجبًا مشدوهًا من روعة البيان وجمال التصوير ورقة التعبير وقوة التأثير ومن هذه الشخصية الفنية الكاملة التي تبرز من هذه الأبيات في وضوح وقوة وجمال.
الليل رهيب، ظلماته كالموج، اللجى؛ وقد أقبل على الشاعر، فأثار في نفسه الذكريات، وهاج كوامن الأحزان وبعث الهموم من مرقدها، وترك النفس موزعة حيرى مفزعة.
واستمرت صور الماضي وأحداث الحاضر تتراءى أمام عينيه يتذكرها ويذكرها، يتذكر حياته اللاهية العابثة في صباح، وهذه الآمال والآلام التي تعتلج في صدره وذكريات الحب والأحباب المؤثرة الباقية.
وطال الليل على الشاعر وطال، وامتد وامتد، فرسم لطوله هذه الصورة البارعة التي تجدها في البيت الثاني، فكأنه يتمطى بصلبة، وكأن أعجازه وأواخره يردف بعضها بعضًا، وكأنه يقع بصدره على المهمومين والمحزونين ليوسعهم ألمًا وشقاء.
ويتمنى الشاعر أن يذهب الليل بظلمته ورهبته؛ وأن يشرق الصبح بضوئه وجماله ولكنه يعود فيتذكر أن أحزانه كامنة في نفسه فلن يسري عنها إشراق الصباح ولا ضجيج الحياة في أول النهار.
وتستمر الصور والذكريات تطوف بخيال الشاعر وأمام عينيه اليقظتين والليل كما هو لم يذهب ولم يطلع الصباح الجميل، وكأنه لا يريد أن يذهب بل كأنه مشدود بحبال قوية شدت بصخرة من صخور هذا الجبل الغليظ.
صور جميلة لا يعدل جمالها جمال، وخيال يقظ مشبوب لا يماثله في استنباط دقائق التصوير خيال.
وهكذا كان امرؤ القيس وبحق ما كان زعيم الشعراء في الجاهلية.
ويرى الأصمعي أن أحسن الناس تشبيهًا امرؤ القيس في قوله:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
وفي قوله:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وفي قوله:
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
وفي قوله:
سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالًا على حال
وأن أبدع تشبيهاته قوله يصف فرسًا:
كأن تشوفه بالضحى ... تشوف أزرق ذي مخلب
إذا قرعته جلال له ... تقول سلبت ولم تسلب
فقال الرشيد للأصمعي: هذا حسن؛ وأحسن منه قوله:
فرحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طورًا وترتقي
واجتمع عبيد الأبرص وامرؤ القيس يومًا فقال عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال قل ما شئت تجدني كما أحببت. فقال عبيد:
ما حية ميتة قامت بميتتها ... درداء ما أنبتت نابًا وأضراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الشعير تسقى في سنابها ... قد أخرجت بعد طول المكث أكداسا
فقال عبيد:
ما السرد والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تمساسا
فقال امرؤ القيس:
تلك السحائب والرحمن أنشأها ... روى بها من محول الأبيض أبياسا
فقال عبيد:
1 / 8
ما مرتجات على هول مراكبها ... يقطعن بعد المدى سيرًا وأمراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في سواد الليل أقباسا
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرض لا أنيس بها ... تأتي سراعًا وما يرجعن أنكاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الرياح إذا هبت عواصفها ... كفى بأذيالها للترب كناسا
فقال عبيد:
ما الفاجعات جهارًا في علانية ... أشد من فيلق ملمومة باسا
فقال امرؤ القيس:
تلك المنايا فما يبقين من أحد ... يأخذن حمقًا وما يبقين أكياسا
فقال عبيد:
ما السابقات سراع الطير في مهل ... لا يشتكين ولو طال المدى باسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الجياد عليها القوم مذ نتجت ... كانوا لهن غداة الروع أحلاسا
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرض الجو في طلق ... قبل الصباح وما يسوين قرطاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الأماني يتركن الفتى ملكا ... دون السماء ولم ترفع له راسا
فقال عبيد:
ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر ... ولا لسان فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس
تلك الموازين والرحمن أرسلها ... رب البرية بين الناس مقياسا
ومما يتصل بشعر امرئ القيس ما يروى من أنه وصل إلى حضرة سيف الدولة رجل من أهل بغداد، وكان ينقر العلماء والشعراء بما لم يدفعه الخصم ولا ينكره الوهم. فتلقاه سيف الدولة باليمن، وأعجب به إعجابًا شديدًا، فقال يومًا: أخطأ امرؤ القيس في قوله:
كأني لم أركب جواد اللذة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروى ولم أقل ... لخيلي كرى كرة بعد إجفال
وهذا معدول عن وجهه ولاشك فيه.
فقيل: وكيف ذلك؟ قال إنما سبيله أن يقول:
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل ... لخيلي كرى كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروى للذة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
فيقترن ذكر الخيل بما يشاكلها في البيت كله، ويقترن ذكر الشراب واللهو بالنساء؛ ويكون قوله "للذة" في الشرب أطبع منه في الركوب! فبهت الحاضرون، واهتز سيف الدولة، وقال: هذا النهدي وحق أبي!. فقال له بعض الحاضرين من العلماء: أنت أخطأت وطعنت في القرآن إن كنت تعمدت!.
فقال سيف الدولة: وكيف ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى"، وعلى قياسه يجب أن يكون: إن لك أن تجوع فيها ولا تظمأ ولا تعرى فيها ولا تضحى! وإنما عطفه امرؤ القيس بالواو التي لا توجب تعقيبًا، ولا ترتب.. فخجل وانقطع!.
شرح المختار من شعر امرئ القيس
- ١ - قال امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي من معلقته المشهورة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمال
ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل
كأني غداة البين يوم تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفًا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معول
كدأبك من أم الحريثرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل
ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي مخملي
ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولاسيما يوم بدارة جلجل
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من كورها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معًا ... عقرت بعيري ياامرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخى زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلل
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم مخول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وشقى تحتها لم يحول
ويومًا على ظهر الكثيب تعذرت ... علي وآلت حلفة لم تحلل
أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
1 / 9
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا ... علي حراصًا لو يسرون مقتلي
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
فجئت وقد فضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فقالت يمين الله مالك حيلة ... وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
خرجت بها نمشي نجر وراءها ... على أثرينا ذيل مرط مرحل
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت ... علي هضيم الكشح ريا المخلخل
إذا التفتت نحوي تضوع ريحها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
وفرع يغشى المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلى ... تضل المذارى في مثنى ومرسل
وكشح لطيف كالجديل مخصر ... وساق كأنبوب السقي المذلل
وتغطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل
تضيء الظلام بالعشاء كأنها ... منارة ممسى راهب متبتل
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نئوم الضحى لم تنطق عن تفضل
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة ... إذا مااسبكرت بين درع ومجول
تسلت عمايات الرجال عن الصبا ... وليس صباي عن هواها بمنسل
ألا رب خصم فيك ألوى رددته ... نصيح على تعذاله غير مؤتل
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار القتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كنان إلى صم جندل
وقد اغتدى والطير في وكنانها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
كميت يزل اللبد عن حال متنه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غبارًا بالكديد المركل
على العقب جياش كأن اهتزامه ... إذا جاش فيه حميه غلا مرجل
يطير الغلام الخف عن صهواته ... ويلوى بأثواب العنيف المتبل
درير كخذروف الوليد أغره ... تقلب كفيه بخيط موصل
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
كأن على الكتفين منه إذا انتحى ... مداك عروس أو صلاية حنظل
وبات عليه سرجه ولجامه ... وبات بعيني قائمًا غير مرسل
فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في الملاء المذيل
فأدبرن كالجرع المفصل بينه ... بجيد معم في العشيرة مخول
فألحقنا بالهاديات ودونه ... جواجرها في صرة لم تزيل
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكًا ولم ينضح بماء فيغسل
وظل طهاة اللحم ما بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل
ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه ... متى ما ترق العين فيه تسفل
كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل
وأنت إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
أحار ترى برقًا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أهان السليط في الدبا والمفتل
قعدت له وصخبتي بين حامر ... وبين إكام بعد ما متأمل
وأضحى يسج الماء عن كل فيقة ... يكب على الأذقان دوح الكنهبل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أطمًا إلا مشيدًا بجندل
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثاء قلكة مغزل
1 / 10
كأن أبانا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل
وألقى بصحراء الغبيط بعاعه ... نزول اليماني ذي العياب المخول
كأن سباعًا فيه غرقى غدية ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
على قطن بالبشيم أيمن صوته ... وأيسره على الستار فيذبل
وألقى ببسيان مع الليل بركه ... فأنزل منه الغضم من كل منزل
تحليل القصيدة
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسيط الورى بين الدخول فحومل مطلع معلقة امرئ القيس الرائعة الشهرة، والتي تدل على شخصية صاحبها المرحة وروحه الموهوب، مجوته المأثور، وأسلوب القصيدة أسلوب جزل فيه أسر وقوة في عذوبة حينًا مع الجمال والصدق والتنقل في الخيال ومع سحر المطلع وفخامته.
ومعانيها قريبة لا تعقيد فيها تنكئ على الحسن والمشاهدات، فهو حين يتحدث عن الحب يصف جمال المرأة ومحاسنها، وحين يصف الفرس يتحدث عن ساقه ومتنه وشعره وحين يتحدث عن المطر يصف كثرته وأنه ألقى مياهه على جبل كذا وكذا ففزعت العصم وهدمت البيوت وسقطت جذوع النخل، دون أن يتحدث الشاعر عما وراء هذه الأوصاف الحسية في الخيل والمطر أو عن عواطفه الإنسانية في حبه وغزله.
وتمتاز المعلقة بأنها مظهر للبلاغة العربية، وبما فيها من أساليب البيان، ومناهج الأداء وصور التعبير، وألوان الرسم والخيال والتفكير، فيها تشبيهات بليغة عذبة كثيرة واستعارات جميلة بالغة، وكنايات أنيقة ساحرة، وسوى ذلك من أدوات التعبير والبيان. ولتفصيل ذلك كله نقول: للمعلقة مطلعها الساحر القوي وأسلوبها الجزل، وخيالها البدوي الموهوب وتشبيهاتها الحسية الساذجة المكرورة أحيانًا، وفيها فوق ذلك وبرغم الكثير من ألفاظها البدوية الجافة ورقة النسيب ودقة الوصف وتنوع الأغراض وبراعة التصوير والبيان، وفيها جل ما ابتكره امرؤ القيس من المعاني الشعرية التي فضل بها على غيره من الشعراء وعدبها أميرهم وقائدهم، ففيها بكاء للديار واستيقاف للصحب وتجويد في النسيب وتصوير لاستهتاره ومجونه، وقص لذكرياته وأيامه، وإبداع في وصف الليل وطوله "والفرس ومحاسنه، والبرق، والمطر وآثاره".
وفي المعلقة الكثير من التشبيهات الجميلة، كتشبيه موقفه حين رحيل أحبابه بموقف الحنظل، وغزارة ما ينهمر منهما من دموع، وكتشبيه عبق الرائحة من حبيبه بعبق رائة النسيم، قد جاء بريا القرنفل. وتشبيه شحم ناقته بهداب الدمقس المفتل، والثغر بالأقحوان المنور، وتعرض الثريا في السماء بتعرض أثناء الوشاح المفصل، وتشبيه ترائب المرأة بالمرآة المجلوة، وجيدها بجيد الظباء، وبنانها بأساريع الظبي، وجمالها المشرق بمنارة الراهب المتبتل، وتشبيه الليل بموج البحر واهتزام الفرس بغلي المرجل. فقد أخذ الحسن من جميع الحيوانات، أخذ من الظبي خاصرته، ومن النعامة ساقها، ومن الذئب والثعيلب مشيهما، فهو جواد ويا له من جواد ضافي الذيل مستقيم العسيب، لماع الظهر كما تلمع صلاية الحنظل مما يعلق بها من الدهن اللامع، أو صلاية عروس تدق فيها العطر والطيب، وكأن دماء هوادي فرائسه في نحره المخضوب عصارة حناء في شيب مسرح.
وتمتاز المعلقة بكناياتها الساحرة، كنؤوم الضحى في وصف المرأة بالترف والنعمة وقوله "لم تنتطق عن تفضل" في وصفها بأنها عزيزة منعمة لم تعز بعد ذل ولم تنعم بعد شقاء، وقوله "إذا ما اسبكرت بين درع ومجول" يريد إذا بلغت سن الشباب لأنه الدرع هو قميص المرأة والمجول ثوب تلبسه الفتاة وتجول فيه قبل أن تخدر، وقوله "قيد الأوابد" في وصف الفرس بسرعة العدو، وقوله: ولم ينضح بماء فيغسل في وصفه بالنشاط. ومنها كثير من المجازات الجميلة والاستعارات المبدعة كقوله "فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي" يريد بالثياب القلب أو الصداقة. وقوله "وبيضة خدر" يريد امرأة كريمة مخدرة. وقوله في وصف الليل بالطول "فقلت له لما تمطى بصلبه" وقوله "وتتقي بناظرة من وحش وجرة" وكذلك قوله "له أيطلا ظبي وساقا نعامة" من أساليب التجريد أو التشبيه الجميلة.
1 / 11
وقد تجد في المعلقة تنقلًا في الخيال وفي رسم الصور الشعرية، ولكن لا ضير في ذلك، لأن الشعر فن والفنون تأبى أن تخضع لقيود المنطق والفلسفة وحريتها في التعبير والتصوير هو سر جمالها وخلودها وفق ذلك فإن الشعر صورة للحياة العربية في سذاجتها وبساطتها فضلًا عن أثر الارتجال والبديهة في نظم الشعر وإنشاده وخاصة في العصر الجاهلي.
وفي المعلقة وصف لما يحبه العربي من مظاهر الجمال في المرأة وفي الفرس وفيها بيان مفصل لزينة المرأة وترفها وفيها نواة للقصص الشعري وخاصة في الغزل، مما نهج نهجه عمر بن أبي ربيعة ثم بشار وأبو نواس. وليس فيها أثر للمدح لأن شخصية امرئ القيس العظيمة أرفع من المدح، ولأن المعلقة لم تنظم إلا لوصف ذكرياته ولهوه وترفه ومجونه، مما يرجع أنها نظمت في أيام صبواته وشبابه قبل أن يحمل عبء الأخذ بثأر والده، حيث تجدها خالية من ذكر الأحداث التي طافت به بعد ذلك. وتعدد الأعراض والفنون في القصيدة يتفق ونهج العرب والشعراء الجاهليين في صياغة قصائدهم؛ حيث كانوا يروحون عن أنفسهم وسامعيهم بهذا الاستطراد الجميل وبتعدد نواحي القصيدة ومراميها حتى تكون أشد أثرًا وسحرًا.
وروح الشاعرية في المعلقة متحدة متناسقة إلا في أبيات يضيفها بعض الرواة إليها وهي:
وقربة أقوام جعلت عصامها ... على كاهلي مني ذلول مرحل
وما بعده من أبيات، مما تخالف روحها روح المعلقة. والصحيح أن هذه الأبيات لتأبط شرًا وأنكرها الكثير من الرواة، وقيل هي لامرئ القيس في عصر مشيبه وكهولته وأضيفت إلى المعلقة إضافة، فهي لا تمثل روحه في فترة شبابه اللاهية الماجنة التي نراها في معلقته.
وتمثل هذه المعلقة الحياة العربية في كثير من نواحيها المختلفة، كما تصور حياة امرئ القيس وترفه وروحه اللاهي المسرف في العبث والمجون أتم التصوير، فهي صورة جميلة واضحة لحياة الشاعر وقومه، وأثر أدبي كبير نستطيع أن نفهم منه الكثير من عادات العرب وأخلاقهم.
نشأ امرؤ القيس في بيت سؤدد ومجد ونعمة، فخب في سبل اللهو وذاق أفاويق الجمال والحب وقضى أيام شبابه في مغازلة الغيد الحسان؛ فكانت له معهن أيام وذكريات قص الكثير منها في هذه المعلقة، وما برح في لهوه ومجونه حتى ضاق به والده ذرعًا فأبعده عنه، فأقام مع أمثاله من أهل البطالة واللهو حتى قتل أبوه فذهبت سكرته وطالت حسرته، وهب للأخذ بثأره حتى قضى عليه أخيرًا إسرافه في الانتقام.
ذلك هو امرؤ القيس قائد الشعراء في الجاهلية، وحامل لواء الشعر في ذلك العصر البعيد، والمفتن في أبواب الشعر وأغراضه، والمجلى في بيان أسرار الجمال واللهو وفي رقة الأسلوب وسحره، وفي جزالة اللفظ وأسره، وفي روائع التشبيه وبدائع الخيال، وفي ابتداع الكثير من المعاني الشعرية الطريفة التي قلده فيها سواء من الشعراء وتتناول المعلقة كثيرًا من فنون الشعر، وتحوي الكثير من الأفكار المنوعة، ففيها بكاء لديار أحبابه في ثلاثة أبيات وتصوير لحيرته وذهوله يوم رحيلهن واستيقاف لأصحابه ليحملوا معه عبء الحزن والشجى في بيتين وفيها شرح للهوه وعبثه وقص لذكرياته وأشجانه مع محبوباته ووصف للجمال العربي وزينة المرأة في الجاهلية ولأثر الجمال وسحره في النفوس وذلك في عشرين بيتًا، وفيها مناجاة الليل وذكر لطوله وآلامه فيه في خمسة أبيات ووصف دقيق لفرسه في ثمانية عشر بيتًا، وللبرق والمطر ونشوة الطبيعة في عشرة أبيات فأبياتها تبلغ الستين أو تزيد وهي كلها في درجة عالية من الإحسان.
ويقول الزوزني في سبب إنشاد هذه القصة: "السبب في إنشادها هو قصة غدير دارة جلجل حيث كان امرؤ القيس يحب ابنة عمه عنيزة فتركها تستحم في هذا الغدير مع أتراب لها وجمع ملابسهن ثم لم يعطها لهن إلا بعد مرورهن أمامه عاريات، ثم ذبح لهن ناقته وقسم متاعه عليهن يحملنه وركب مع عنيزة في هودجها".
وقد بدأها ببكاء الديار بمطلع جميل ساحر ثم يستمر في وصف الديار وآثارها حتى يقول: وقوفًا بها صحبي على مطيهم.
ثم يصف ذكريات لهوه وعبثه وغزله. ثم يصف الليل وطوله، وطوله والفرس وقوته ويذكر الصيد الذي صاده وطهى الطهاة له وسط الصحراء ويصف البرق والمطر في عذوبة وسحر وجمال.
- ٢ - وقال أيضًا:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
1 / 12
وهل يعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وهل يعمن من كان أحدث عهده ... ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال
ديار لسلمى عافيات بذي خال ... ألح عليها كل أسحم هطال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا ... من الوحش أو بيضًا بميثاء شملال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ... بواد الخزامى أو على رس أو عال
ليالي سلمى إذ تريك منصبًا ... وجيدًا كجيد الرئم ليس بمعطال
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
ويا رب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال
يضيء الفراش وجهها لضجيعها ... كمصباح زيت في قناديل ذبال
كأن على لباتها جمر مصطل ... أصاب غضى جزلا وكف بأجذال
وهبت له ريح بمختلف الصوا ... صبًا وشمال في منازل قفال
ومثلك بيضاء العوارض طفلة ... لعوب تنسيني إذا قمت سربالي
إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... تميل عليه هونة غير مجبال
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه ... بما احتسبا من لين مس وتسهال
لطيفة طي الكشح غير مفاضة ... إذا انفلتت مرتجة غير متفال
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لفقال
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فقالت سباك الله، إنك فاضحي ... ألست ترى السماء والناس أحوالي
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال
فأبحت معشوقًا وأصبح بعلها ... عليه القتام سيئ الظن والبال
يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتال
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أعوال
وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال
أيقتلني وقد شغفت فؤادها ... كما شغف المهنوءة الرجل الطالي
وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعال
وماذا عليه أن ذكرت أوانسا ... كغزلان رمل في محاريب أقيال
وبيت عذارى يوم دحن ولجته ... يطفن بحباء المرافق مكسال
سباط البنان والعرانين والقنا ... لطاف الخصور في تمام وإكمال
نواعم يتبعن الهوى سبل الردى ... يقلن لأهل الحلم ضل بتضلال
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ... ولست بمقلي الخلال ولا قال
كأني لم أركب جوادًا للذة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
ولم أسبإ الزرق الروى ولم أقل ... لخليلي كري كرة بعد إجفال
ولم أشهد الخيل المغيرة بالضحى ... على هيكل عبل الجزارة جوال
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... لع حجبات مشرفات على الفال
وصم صلاب ما يقين من الوحي ... كأن مكان الردف منه على رال
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... لغيث من الوسمي رائده خال
تحاماه أطراف الرماح تحاميًا ... وجاد عليه كل أسحم هطال
بعجلزة قد أترز الجري لحمها ... كميت كأنها هراوة منوال
ذعرت بها سربًا نقيًا جلوده ... وأكرعه وشي البرود من الخال
كأن الصوار إذ تجهد عدوه ... على جمزى خيل تجول بأجلال
فجال الصوار واتقين بقرهب ... طويل الفرا والروق أخنس ذيال
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... وكان عداء الوحش مني على بال
كأني بفتحاء الجناحين لقوة ... صيود من العقبان طأطأت شملالي
تخطف خزان الشربة بالضحى ... وقد حجرت منها ثعالب أورال
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدي وكرها العناب والحشف البالي
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
1 / 13
وطر المرء مادامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي
- ٣ - وقال امرؤ القيس أيضًا:
خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
ألم ترياني كلما جئت طارقًا ... وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب
عقيلة أتراب لها لا دميمة ... ولا ذات خلق إن تأملت جأنب
ألا ليست شعري كيف حادث وصلها ... وكيف تراعى وصلة للتغيب
أقامت على ما بيننا من مودة ... أميمة أم صارت لقول المخبب
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فإنك مما أحدثت بالمجرب
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ... يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... سوالك نقبا بين حزمى شعبعب
علون بأنطاكية فوق عقمة ... كجرمة نخل أو كجنة يثرب
ولله عينًا من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب
فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع بحد كبكب
فعيناك غربًا جدول في مفاضة ... كمر الخليج في صفيح مصوب
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
وإنك لم تقطع لبانة عاشق ... بمثل غدو أو رواح مؤوب
بأدماء حرجوج كأن قتودها ... على أبلق الكشحين ليس بمغرب
يغرد بالأسحار في كل سدفة ... تغرد مياح الندامى المطرب
أقب رباع من حمير عماية ... يمج لعاع البقل في كل مشرب
بمحنية قد آزر الضال نبتها ... مجر جيوش الغانمين وخيب
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذنب
بمنجرد قيد الأوابد لاحه ... طراد الهوادي كل شأو مغرب
على الأين جياش كان سراته ... على الضمر والتعداء سرحة مرقب
يباري الخنوف المستاقل زماعه ... ترى شخصه كأنه عود مشحب
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وصهوة عير قائم فوق مرقب
ويخطو على ضم صلاب كأنها ... حجارة غيل وارسات بطحلب
له كفل كالدعص لبده الندى ... إلى حارك مثل الغبيط المذأب
وعين كمرآة الصناع تديرها ... لمحجرها من النصيف المنقب
له أذنان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب
ومستفلك الذفرى كأن عنانه ... ومثناته في رأس جذع مشذب
وأسحم ريان العسيب كأنه ... عثاكيل قنو من سميحة مرطب
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزير الريح مرت بأثأب
يدير قطاة كالمحالة أشرفت ... إلى سند مثل الغبيط المذأب
ويخضد في الاري حتى كأنما ... به غرة من طائف غير معقب
فيومًا على سرب نقي جلوده ... ويومًا على بيدانة أم تولب
فبينا نعاج يرتعين خميلة ... كمشي العذارى في الملاء المهدب
فكان تنادينا وعقد عذاره ... وقال صحابي قد شأونك فاطلب
فلأيًا بلأي ما حملنا غلامنا ... على ظهر محبوك السراة محنب
وولى كشؤبوب العشي بوابل ... ويخرجن من جعد ثراه منصب
فللساق ألهوب وللسوط درة ... وللزجر منه وقع أهوج منعب
فأدرك لم تجهد ولم يثن شأوه ... يمر كخذروف الوليد المثقب
ترى الفأر في مستنقع القاع لاجبًا ... على جدد الصحراء من شد ملهب
خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن ودق من عشي مجلب
فعادى عداءً بين ثور ونعجة ... وبين شبوب كالقضيمة قرهب
وظل لثيران الصريم غماغم ... يداعسها بالسمهري المعلب
فكاب على حر الجبين ومتق ... بمذرية كأنها ذاق مشعب
وقلنا لفتيان كرام ألا انزلوا ... فعالوا علينا فضل ثوب مطنب
وأوتاده ماذية وعماده ... ردينية فيها أسنة قعضب
وأطنابه أشطان خوض نجائب ... وصهوته من أتحمى مشرعب
فلما دخلناه أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاري جديد مشطب
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
ورحنا كأنا من جؤائي عشية ... نعالى النعاج بين عدل ومحقب
1 / 14
وراح كتيس الربل ينفض رأسه ... أذاة به من صائك متحلب
كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مخضب
وأنت إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأصهب
- ٤ - وقال أيضًا حين توجه إلى قيصر:
سما لك شوق بعدما كان أقصرا ... وحلت سليمى بطن قو فعرعرا
كنانية بانت وفي الصدر ودها ... مجاورة غسان والحي يغمرا
بعيني ظعن الحي لما تحملوا ... لدى جانب الأفلاج من جنب تيمرى
فشبهتهم في الآل لما تكمشوا ... حدائق دوم أو سفينًا مقيرا
أو المكرعات من نخيل ابن يامن ... دوين الصفا اللآلئ يلين المشقرا
سوامق جبار أثيث فروعه ... وعالين قنوانًا من البسر أحمرا
حمته بنو الربداء من آل يامن ... بأسيافهم حتى أقو وأوقرا
وأرضى بني الربداء واعتم زهوه ... وأكمامه حتى إذا ما تهصرا
أطافت به جيلان عند قطاعه ... تردد فيه العين حتى تحيرا
كأن دمى شغف على ظهر مرمر ... كسا مزبد الساجوم وشيًا مصورا
غرائر في كن وصون ونعمة ... يحلين ياقوتًا وشذرًا مفقرا
وريح سنًا في حقه حميرية ... تخص بمفروك من المسك أذفرا
وبانا وألويا من الهند ذاكيا ... ورندا ولبنى والكباء المقترا
غلقن برهن من حبيب به ادعت ... سليمى فأمسى حبلها قد تبترا
وكان لها في سالف الدهر خله ... يسارق بالطرف الخباء المسترا
إذ نال منها نظرة ريع قلبه ... كما ذعرت كأس الصبوح المخمرا
نزيف إذا قامت لوجه تمايلت ... تراشى الفؤاد الرخص ألا تخترا
أأسماء أمسى ودها قد تغيرا ... سنبدل إن أبدلت بالود آخرا
تذكرت أهلي الصالحين وقد أتت ... على خملي خوص الركاب وأوجرا
فلما بدا حوران والآل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
بسير يضج العود منه يمنه ... أخو الجهد لا يلوى على من تعذرا
ولم ينسى ما قد لقيت ظعائنا ... وخملا لها كالقر يوما مخدرا
كأثل من الأعراض من دون بيثشة ... ودون الغمير عامدات لغضورا
فدع ذا وسل اللهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
تقطع غيطانًا كأن متونها ... إذا أظهرت تكسى ملاء منشرا
بعيدة بين المنكبين كأنما ... ترى عند مجرى الضفر هرًا مشجرا
تطاير ظران الحصى بمناسم ... صلاب العجى ملثومها غير أمعرا
كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا
كأن صليل المروحين تشده ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا
عليها فتى لم تحمل الأرض مثله ... أبر بميثاق وأوفى وأصبرا
هو المنزل الآلاف من جونا عطٍ ... بني أسد حزنًا من الأرض أوعرا
ولو شاء كان الغزو من أرض حمير ... ولكنه عمدًا إلى الروم أنفرا
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وإني زعيم إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفرانق أزورا
على لاحبٍ لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
على كل مقصوص الذنابي معاود ... يريد السرى بالليل من خيل بربرا
أقب كسرحان الغضى متمطر ... ترى الماء من أعطافه قد تحدرا
إذا زعته من جانبيه كليهما ... مشى الهيدبى في دفه ثم فرفرا
إذا قلت زوحنا أرن فرانق ... على جلعد واهي الأباجل أبترا
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا
نشيم يروق المزن أين مصابه ... ولا شيء يشفي منك يا ابنة عفزرا
من القاصرات الطرف لو دب مخول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
أرى أم عمرو دمعها قد تحدرا ... بكاء على عمرو وما كان أصبرا
إذا نحن سرنا خمس عشرة ليلة ... وراء الحساء من مدافع قيصرا
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته ... وقرت به العينان بدلت آخرا
1 / 15
كذلك جدي ما أصاحب صاحبًا ... من الناس إلا خانني وتغيرا
وكنا أناسًا قبل غزوة قرمل ... ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت ... مرابطها في بربعيص وميسرا
ألا رب يوم صالح قد شهدته ... بتادف ذات التل من فوق طرطرا
ولا مثل يوم في قداران ظلته ... كأني وأصحابي على قرن أعفرا
ونشرب حتى نحسب الخيل حولنا ... نقادًا وحتى نحسب الجون أشقرا
- ٥ - قال أيضًا:
أعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيًا في شماريخ بيض
ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتعتاب الكسير المهيض
وتخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقى الفوز عند المفيض
قعدت له وصحبتي بين ضارج ... وبين تلاع يثلث فالعريض
أصاب قطاتين فسال لواهما ... فوادي البدي فانتحى للأريض
بلاد عريضة وأرض أريضة ... مدافع غيث في فضاء عريض
فأضحى يسح الماء عن كل فيقة ... يحوز الضباب في صفاصف بيض
فأسقى به أختي ضعيقة إذ نأت ... وإذ بعد المزار غير القريض
ومرقبة كالزج أشرفت فوقها ... أقلب طرفي في فضاء عريض
فظلت وظل الجون عندي بلبده ... كأني أعدي عن جناح مهيض
فلما أجن الشمس عني غيارها ... نزلت إليه قائمًا بالحضيض
يباري شباة الرمح خد مذلق ... كصفح السنان الصلبي النحيض
أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع عزفًا غير جاف غضيض
وقد أعتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد عبل اليدين قبيض
له قصريا عير وساقا نعامة ... كفحل الهجان ينتجى للعضيض
يجم على الساقين بعد كلاله ... جموم عيون الحسى بعد المخيض
ذعرت بها سربًا نقيًا جلودها ... كما ذعر السرحان جنب الربيض
ووالى ثلاثًا واثنتين وأربعًا ... وغادر أخرى في قناة الرفيض
فآب إيابًا غير نكد مواكل ... وأخلف ماء بعد ماء فضيض
وسن كسنيق سناء وسنما ... ذعرت بمدلاج الهجير نهوض
أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا ... كإحراض بكر في الديار مريض
كأن الفتى لم يغن في الناس ساعة ... إذا اختلف اللحيان عند الجريض
- ٦ - وقال أيضًا:
غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات
فغول فحليت فنفى فمنعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات
ظللت ردائي فوق رأسي قاعدًا ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي
أعني على التهمام والذكرات ... يبتن على ذي الهم معتكرات
بليل التمام أو وصلن بمثله ... مقايسة أيامها نكرات
كأني وردفي والقراب ونمرقي ... على ظهر عير وارد الخبرات
أرن على عقب حيال طروقة ... كذود الأجير الأربع الأشرات
عنيف بتجميع الضرائر فاحش ... شتيم كدلق الزج ذي ذمرات
ويأكلن بهمى جعدة حبشية ... ويشربن برد الماء في السبرات
فأوردها ماء قليلًا أنيسه ... يحاذرن عمرًا صاحب القترات
تلت الحصى لتًا بسمر رزينة ... موازن لا كزم ولا معرات
ويرخين أذنابًا كأن فروعها ... عرا خلل مشهورة ضفرات
وعنس كألواح الإران فسألتها ... على لاحب كالبرد ذي الخبرات
فغادرتها من بعد بدن ردية ... تغالى على عوج لها عود لها كدنات
وأبيض كالمخراق بليت حده ... وهبته في الساق والقصرات
- ٧ - وقال أيضًا يمدح غوير بن شجنة بن عطارد من بني تميم، وبني عوف رهطه:
ألا إن قومًا كنتم أمس دونهم ... هم منعوا جاراتكم آل غدران
عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في ليل البلايل صفوان
ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غران
هم أبلغوا الحي المضلل أهلهم ... وساروا بهم بين العراق ونجوان
فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبر بميثاق وأوفى بجيران
- ٨ - وقال أيضًا:
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عصيب بمان
ديار لهند والرباب وفرتني ... ليالينا بالنعف من بدلان
ليالي يدعوني الهوى فأجيبه ... وأعين من أهوى إلي رواني
1 / 16
فإن أمس مكروبًا فيا رب بهمة ... كشفت إذا ما اسود وجه الجبان
وإن أمس مكروبًا فيا رب قينة ... منعمة أعملتها بكران
لها مزهر يعلو الخميس بصوته ... أجش إذا ما حركته اليدان
وإن أمس مكروبًا فيا رب غارة ... شهدت على أقب رخو اللبان
على ربذ يزداد عفوًا إذا جرى ... مسح حثيث الركض والذألان
ويخدى على صم صلاب ملاطس ... شديدات عقد لينات المثاني
وغيث من الوسمي حو تلاعه ... تبطنته بشيظم صلتان
مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كتيس ظباء الحلب الغذوان
إذا ما جنبناه تأود متنه ... كعرق الرخامى اهتز في الهجلان
تمتع من الدنيا فإنك فاني ... من النشوات والنساء الحسان
من البيض كالآرام والأدم كالدمى ... حواصنها والمبرقات الرواني
أمن ذكر نبهانية حل أهلها ... بجزع الملا عيناك تبتدران
فدمعهما سكب وسح وديمة ... ورش وتوكاف وتنهملان
كأنهما مزادتا متعجن ... فريان لما تسلقا بدهان
- ٩ - وقال أيضًا:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... ورسم عفت آياته منذ أزمان
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان
ذكرت بها الحي الجميع فهيجت ... عقابيل سقم من ضمير وأشجان
فسحت دموعي في الرداء كأنها ... ثكلى من شعيب ذات سح وتهتان
إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان
فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني
فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعان فككت الغل عنه ففداني
وفتيان صدق قد بعثت بسخرة ... فقاموا جميعًا بين عاث ونشوان
وخرق بعيد قد قطعت نياطه ... على ذات لوث سهوة المشي مذعان
وغيث كألوان الفنا قد هبطته ... تعاون فيه كل أوطف حنان
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جرى غير كز ولا وان
كتيس الظباء الأعفر انضرجت له ... عقاب تدلت من شماريخ ثهلان
وخرق كجوف العير قفر مضلة ... قطعت بسام ساهم الوجه حسان
يدافع أعطاف المطايا بركنه ... كما مال غصن ناعم فوق أغصان
ومجر كغلان الأنيعم بالغ ... ديار العدو ذي زهار وأركان
مطوت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وحتى ترى الجون الذي كان بادنا ... عليه عواف من نسور وعقبان
- ١٠ - وقال أيضًا يمدح جارية بن مر أبا حنبل، ويذم خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني:
دع عنك نهبًا صبح في حجراته ... ولكن حديثًا ما حديث الرواحل
كأن دثارًا حلقت بلبونه ... عقاب تنوفي لا عقاب القواعل
تلعب باعث بذمة خالد ... وأودى عصام في الخطوب الأوائل
وأعجبني مشي الحزقة خالد ... كمشي أتان حلئت بالمناهل
أبت أجأ أن تسلم العام جارها ... فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
تبيت لبوني بالقرية أمنا ... وأسرحها غبًا بأكناف خائل
بنو ثعل جيرانها وحماتها ... وتمنع من رماة سعد ونائل
تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل
مكللة حمراء ذات أسرة ... لها حبك كأنها من وصائل
- ١١ - وقال أيضًا:
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبان ودود ... وأجرأ من مجلحة الذئاب
فبعض اللوم عاذلني فإني ... ستكفيني التجارب وانتسابي
إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي
ونفسي سوف يسلبها وجرمي ... فيلحقني وسيكا بالتراب
ألم أفض المطي بكل خرق ... أمق الطول لماع السراب
وأركب في اللهام المجر حتى ... أنال مآكل القحم الرغاب
وكل مكارم الأخلاق صارت ... إليه همتي وربه اكتسابي
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
أبعد الحارث الملك ابن عمرو ... وبعد الخير حجر ذي القباب
أرجي من صروف الدهر لينًا ... ولم تغفل عن الصم الهضاب
وأعلم أنني عما قريب ... سأنشب في شبا ظفر وناب
1 / 17
كما لاقى أبي حجر وجدي ... ولا أنسى قتيلا بالكلاب
- ١٢ - وقال:
أماوي هل لي عندكم من معرس ... أم الصرم تختارين بالوصل نيأس
أبيني لنا إن الصريمة راحة ... من الشك ذي المخلوجة المتلبس
كأني ورحلي فوق أحقب قارح ... بشربة أوطاف بعرنان موجس
تعشى قليلًا ثم أنحى ظلوفه ... يشير التراب عن مبيت ومكنس
يهيل ويذري تربها ويثيره ... إثارة نباث الهواجر مخمس
فبات على خد أحم ومنكب ... وضجعته مثل الأسير المكردس
وبات إلى أرطأة حقف كأنها ... إذا التقتها غبية بيت معرس
فصبحه عند الشروق غدية ... كلاب ابن مر أو كلاب ابن سنبس
مغرثة زرقا كأن عيونها ... من الذمر والإيحاء نوار عضرس
فأدبر يكسوها الرغام كأنها ... على الصمد والآكام جذوة مقبس
وأيقن إن لاقينه أن يومه ... بذي الرمث إن ماوتنه يوم أنفس
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدس
وغورن في ظل الغضى وتركنه ... كقرم الهجان القادر المتشمس
- ١٣ - وقال:
ألما على الربع القديم بعسعسا ... كأني أنادي أو أكلم أخرسا
فلو أن أهل الدار فيها كعهدنا ... وجدت مقيلًا عندهم ومعرسا
فلا تنكروني إنني أنا ذاكم ... ليالي حل الحي غولًا فألعسا
فإما تريثي لا أغمض ساعة ... من الليل إلا أن أكب فأنعسا
تأوبي دائي القديم فغلسا ... أحاذر أن يرتد دائي فأنكسا
فيا رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
ويا رب يوم قد أروح مرجلا ... حبيبًا إلى البيض الكواعب أملسا
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
وما خفت تبريح الحياة كما أرى ... تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا
فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
وبدلت قرحًا داميًا بعد صحة ... فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة ... وبعد المشيب طول عمر وملبسا
- ١٤ - وقال:
لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يومًا فيأتيني بقر
ألا إنما الدهر ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر
ليال بذات الطلح عند محجر ... أحب إلينا من ليال على أقر
أعادي الصبوح عند هر وفرتني ... وليدًا وهل أفنى شبابي غير هر
إذا ذقت فاه قلت طعم مدامة ... معتقة مما تجيء به التجر
هما نعجتان من نعاج تبالة ... لذي جؤذرين أو كبعض دمى هكر
إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريح من القطر
كأن التجار أصعدوا بسبيئة ... من الخص حتى أنزلوها على يسر
فلما استطابا صب في الصحن نصفه ... وشجت بماء غير طرق ولا كدر
بماء سحاب زل عن متن صخرة ... إلى بطن أخرى طيب ماؤها خصر
لعمرك ما إن ضرني وسط حمير ... وأقوالها إلا المخيلة والشكر
وغير الشقاء المستبين فليتني ... أجر لساني يوم ذلكم مجر
لعمرك ما سعد بخلة آثم ... ولا نأنإ يوم الحفاظ ولا حصر
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم ... مرابط للأمهار والعكر الدثر
أحب إلينا من أناس بقنة ... يروح على آثار شأنهم النمر
يفاكهنا سعد ويغدو لجمعنا ... بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر
لعمري لسعد حيث حلت دياره ... أحب إلينا منك فافرس حمر
وتعرف فيه من أبيه شمائلًا ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر
- ١٥ - وقال يجيب سبيع بن عوف بن مالك:
لمن الديار غشيتها بسحام ... فعمايتين فهضب ذي أقدام
فصفا الأطيط فصاحتين فغاضر ... تمشي النعاج بها مع الآرام!
دار لهند والرباب وفرتني ... وبليس قبل حوادث الأيام
عوجا على الطلل المحيل لاننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام
1 / 18
أو ما ترى أظعانهن بواكرًا ... كالنخل من شوكان حين صرام
حور تعلل بالعبير جلودها ... بيض الوجوه نواعم الأجسام
فظلت في دمن الديار كأنني ... نشوان باكره صبوح مدام
أنف كلون دم الغزال معتق ... من خمر عانة أو كروم شبام
وكأن شاربها أصاب لسانه ... موم يخالط جسمه بسقام
ومجدة نسأتها فتكمشت ... رتك النعامة في طريق حام
تخدى على العلات سام رأسها ... روعاء منسمها رثيم دام
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام
فجزيت خير جزاء ناقة واحد ... ورجعت سالمة القرا بسلام
وكأنما بدر وصيل كتيفة ... وكأنما من عاقل أرمام
أبلغ سبيعًا إن عرضت رسالة ... إني كهمك إن عشوت أمامي
أقصر إليك من الوعيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزامي
وأنا المنبه بعد ما قد نوموا ... وأنا المعالن صفحة النوام
وأنا الذي عرفت معد فضله ... ونشدت عن حجر ابن أم قطام
وأنازل البطل الكريه نزاله ... وإذا أناضل لا تطيش سهامي
خالي ابن كبشة قد علمت مكانه ... وأبو يزيد ورهطه أعمامي
وإذا أذيت ببلدة ودعتها ... ولا أقيم بغير دار مقام
- ١٦ - وقال:
يا دار ماوية بالحائل ... فالسهب فالخبتين من عاقل
صم صداها وعفا رسمها ... واستعجمت عن منطق السائل
قولا لدودان عبيد العصا ... ما غركم بالأسد الباسل
قد قرت العينان من مالك ... ومن بني عمرو ومن كاهل
ومن بني غنم بن دودان إذ ... نقذف أعلاهم على السافل
نطعنهم سلكي ومخلوجة ... لفتك لأمين على نابل
إذ هن أقساط كرجل الدبى ... أو كقطا كاظمة الناهل
حتى تركناهم لدى معرك ... أرجلهم كالخشب الشائل
حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل
- ١٧ - وقال:
رب رام من بني ثعل ... مثلج كفيه في قتره
عارض زوراء من نشم ... غير باناة على وتره
قد أتته الوحش واردة ... فتنحى النزع في يسره
فرماها في فرائصها ... بإزاء الحوض أو عقره
برهيش من كنانته ... كتلظي الجمر في شرره
راشه من ريش ناهضة ... ثم أمهاه على حجره
فهو لا تنمى رميته ... ماله لا عد من نفره
مطعم للصيد ليس له ... غيرها كسب على كبره
وخليل قد أفارقه ... ثم لا أبكي على أثره
وابن عم قد تركت له ... صفو ماء الحوض عن كدره
وحديث الركب يوم هنا ... وحديث ما على قصره
- ١٨ - وقال:
يا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا
مرسعة بين أرساغه ... به عسم يبتغي أرنبا
ليجعل في رجله كعبها ... حذار المنية أن يعطبا
ولست بخزرافة في القعود ... ولست بطياخة أحدبا
ولست بذي رثية إفر ... إذا قيد مستكرهًا أصحبا
وقالت بنفسي شباب له ... ولمته قبل أن يشجبا
وإذ هي سوداء مثل الفحيم ... تغشى المطانب والمنكبا
- ١٩ - وقال في قتل شرحبيل بن عمرو بن حجر عمه ويهجو البراجم من بني تميم ويربوعًا ودارما:
ألا قبح الله البراجم كلها ... وجدع يربوعًا وعفر دارما
وآثر بالملحاة آل مجاشع ... رقاب إماء يقتنين المفارما
فما قاتلوا عن ربهم وربيبهم ... ولا آذنوا جارًا فيظفر سالما
وما فعلوا فعل العوير بجاره ... لدى باب هند إذ تجرد قائما
- ٢٠ - وقال يمدح العوير بن شجنة وقؤمة بني عوف:
إن بني عوف ابتنوا حسبا ... ضيعه الدخللون إذ غدروا
إدوا إلى جارهم خفارته ... ولم يضع بالمغيب من نصروا
لم يفعلوا فعل آل حنظلة ... إنهم جير بئس ما ائتمروا
لا حميري وفي ولا عدس ... ولا أست عير يحكها النفر
لكن عوير وفي بذمته ... لا عور شانه ولا قصر
- ٢١ - وقال حين بلغه أن بني أسد قتلت أباه:
تالله لا يذهب سيخي باطلا
حتى أبير مالكًا وكاهلا
القاتلين الملك الحلاحلا
1 / 19
خير معد حسبًا ونائلا
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا
نحن جلبنا القرح القوافلا
يحملننا والأسل النواهلا
مستفرمات بالحصى جوافلا
تستنفر الأواخر الأوائلا
- ٢٢ - وقال لما ذهبت إبله:
ألا إلا تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
وجاد لها الربيع بواقصات ... فآرام وجاد لها الولي
إذا مشت حوالبها أرنت ... كأن الحي صبحهم نعي
تروح كأنها مما أصابت ... معلقة بأحقبها الدلي
فتوسع أهلها أقطًا وسمنًا ... وحسبك من غنى شبع وري
- ٢٣ - وقال حين غزا بني أسد فأخطأهم وأوقع ببني كنانة وهو لا يدري:
ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريصًا ... ولو أدركنه صفر الوطاب
- ٢٤ - وقال يمدح المعلى أحد بني تميم ب- ٢٤ -ن ثعلبة من جديلة طيئ وكان أجاره والمنذر بن ماء السماء يطلبه فمنعه ووفى له:
كأني إذ نزلت على المعلى ... نزلت على البواذخ من شمام
فما ملك العراق على المعلى ... بمقتدر ولا ملك الشآم
أشد نشاص ذي القرنين حتى ... تولى عارض الملك الهمام
أقر حشا امرئ القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظلام
- ٢٥ - وقال يمدح طريف بن مالك:
لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر
إذا البازل الكوماء راحت عشية ... تلاوذ من صوت المبسين بالشجر
- ٢٦ - وقال يصف تقلب الزمان ودورانه:
أبعد الحارث الملك بن عمرو ... له ملك العراق إلى عمان
مجاورة بن شمحى بن جرم ... هوانا ما أتيح من الهوان
ويمنعها بنو شمحى بن جرم ... معيزهم خانك ذا الحنان
- ٢٧ - وقال يصف الغيث
ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر
تخرج الود إذا ما أشجدت ... وتواريه إذا ما تشتكر
وترى الضب خفيفًا ماهرًا ... ثانيًا برثنه ما ينعفر
وترى الشجراء في ربقه ... كروس قطعت فيها الخمر
ساعة ثم انتحاها وابل ... ساقط الأكناف واه منهمر
راح تمريه الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منفجر
ثج حتى ضاق عن آذيه ... عرض خيم فجفاف فيسر
قد غدا يحملني في أنفه ... لاحق الإطلين محبوك ممر
- ٢٨ - وقال ينازع الحارث التوءم اليشكري قال امرؤ القيس: أحار ترى بريقًا حب وهنًا فقال الحارث بن التوءم: كنار مجوس تستعر استعارا ثم قال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح فقال الحارث: إذا ما قلت قد هدأ استطارا فقال امرؤ القيس: كان هزيزه بوراء غيب فقال الحارث: عشار وله لاقت عشارا فقال امرؤ القيس: فلما أن دنا لقفا أضاخ فقال الحارث: وهت أعجاز ريقه فحارا فقال امرؤ القيس: فلم يترك بذات السر ظبيا فقال الحارث: ولم يترك بجلهتها حمارا - ٢٩ - وقال:
أحار بن عمر وكأني خمر ... ويعدوا على المرء ما يأتمر
لا وأبيك ابنة العامر ... ي لا يدعي القوم أني أفر
تميم بن مر وأشياعها ... وكندة حولي جميعًا صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا عليك بأن تنتظر
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر
وفيمن أقام عن الحي هر ... أم الظاعنون بها في الشطر
وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر
رمتني بسهم أصاب الفؤاد ... غداة الرحيل فلم أنتصر
فأسبل دمعي كفض الجمان ... أو الدر رقراقه المنحدر
وإذ هي تمشي كمشي النزي ... ف يصرعه بالكثيب البهر
برهرهة رؤدة رخصة ... كخرعوبة البانة المنفطر
فتور القيام قطيع الكلا ... م تفتر عن ذي غروب خصر
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ... إذا طرب الطائر المستحر
فبت أكابد ليل التما ... م والقلب من خشية مقتشعر
فلما دنوت تسديتها ... فثوبًا نسيت وثوبًا أجر
1 / 20