توطئة
نوادر
نخبة من روايات كتاب الفرج بعد الشدة
نخبة من كتاب نوادر مخطوط
نخبة من كتاب المختار في كشف الأسرار
نخبة من كتاب فضائل الكلاب
أقاصيص قبائل الطاط
الفتية التوابون
ابن التلميذ الطبيب النصراني والأطباء
الجواد الكريم
مأثرة برمكية
الضيافة عند العرب
توطئة
نوادر
نخبة من روايات كتاب الفرج بعد الشدة
نخبة من كتاب نوادر مخطوط
نخبة من كتاب المختار في كشف الأسرار
نخبة من كتاب فضائل الكلاب
أقاصيص قبائل الطاط
الفتية التوابون
ابن التلميذ الطبيب النصراني والأطباء
الجواد الكريم
مأثرة برمكية
الضيافة عند العرب
أسباب الطرب في نوادر العرب
أسباب الطرب في نوادر العرب
جمع
لويس شيخو
توطئة
قد طبعت في هذه السنين الأخيرة عدة تآليف جليلة لقدماء كتبة العرب، بعضها في البلاد الأوروبية والبعض الآخر في جهات الشرق كسورية ومصر والهند والعجم. وكثير من هذه المطبوعات نادر الوجود، لا يحصل عليه القراء إلا في المكاتب الكبرى، فألحوا علينا غير مرة أن نجمع منها فصولا يجد فيها المطالعون تفكهة للألباب، ويتخذها أحداث الكتبة كقواعد للكتابة. فرأينا أن نلبي دعوتهم فنفرد لهذه المنتخبات بعض صفحات مجلتنا، فننشرها من وقت إلى آخر دون ترتيب كما عثرنا عليها في مطالعاتنا، وقد أضفنا إليها شيئا من مخطوطات مكتبتنا الشرقية النادرة، ثم هممنا بطبعها على حدة لتسهل مراجعتها على من يحب النظر فيها.
نوادر
آجر أو صابون؟
حكى أبو محمد عبد الله بن علي بن خشاب النحوي أن رجلا اشترى من عطار قطعة صابون، ومضى إلى النهر لغسل ثيابه، فلما وصل أخرجها فإذا هي قطعة آجر، فصعب الأمر عليه، وقال: هذا يبيع الناس آجرا أو صابونا؟! فمضى إليه ليردها، فلما وصل قال: ويحك، أتبيع الناس آجرا أو صابونا؟ قال: كيف أبيع آجرا؟ فأخرجها من كمه فإذا هي قطعة صابون، فاستحى ورجع إلى النهر، فأخرجها فإذا هي آجر، فعاد إليه ووبخه، وأخرجها فإذا هي قطعة صابون. فعاد مرة أخرى كذلك حتى ضجر، فقال له العطار: لا يضيقن صدرك، فإن لنا ولدا قد أخرجناه على الاحتيال فاعتاده، وإنك كلما مضيت فعل هذا، فإذا رآك قد عدت لردها أعادها في كمك، وأنت لا تعلم.
الأعرابي وهارون الرشيد
قال الرشيد لجعفر بن يحيى في سفرة له إلى الرقة: اعدل بنا عن غبار العسكر. فمالا عنه، فأصاب الرشيد جوع شديد، فعدل إلى خيمة أعرابي فاستطعم، فأتاه بكسيرات خبز يابس، فقال جعفر: لقد تبذل الأعرابي فيما قدم. فقال الأعرابي: مهلا ويحك، فإن الجود بذل الموجود، أما سمعت قول الشاعر:
ألم تر أن المرء من ضيق عيشه
يلام على معروفه وهو محسن
وما ذاك من بخل ولا من ضراعة
ولكن كما يزمر له الدهر يزفن
فقال الرشيد: صدق الأعرابي وأحسن. ثم أمر له بعشرة آلاف درهم.
صبيان المكتب
حكي عن الربيع بن خيثم، أنه مر على صبيان في المكتب يبكون، فقال: ما بالكم يا معشر الصبيان؟ قالوا: إن هذا اليوم الخميس يوم عرض الكتاب على المعلم، فنخشى أن يضربنا. فبكى الربيع، وقال: يا نفسي، كيف بيوم عرض الكتاب على الجبار؟
الأعمى المستقي والسراج
قال بعضهم: خرجت في الليل لحاجة، فإذا أعمى على عاتقه جرة، وفي يده سراج، فلم يزل يمشي حتى أتى النهر، وملأ جرته وانصرف راجعا، فقلت: يا هذا، أنت أعمى، والليل والنهار عندك سواء، فلم حملت السراج؟! فقال: يا فضولي، حملته لأعمى القلب مثلك، يستضيء به فلا يعثر بي في الظلمة، فيقع علي فيكسر جرتي. فكأنه ألقمني الحجر.
الثناء الباقي والعطاء البالي
امتدح نصيب الشاعر، وكان أسود عبد الله بن جعفر، فأمر له بخيل وأثاث ودنانير ودراهم، فقال له رجل: أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال؟! فقال عبد الله بن جعفر: إن كان أسود فإن شعره أبيض، وإن ثناءه لمروي، وقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثيابا تبلى، ومالا لا يغني ومطايا تنضى، وأعطانا مدحا يروى وثناء يبقى؟!
القاضي النبيه
كان بواسط قاض مشهور بالدين والذكاء، فجاءه رجل استودع بعض الشهود كيسا مختوما، ذكر أن فيه ألف دينار. فلما حصل الكيس عنده وطالت غيبة المودع ظن أنه قد مات، فهم بإنفاق المال، وخشي من مجيء صاحبه ففتق الكيس من أسفله، وأخذ الدنانير، وجعل مكانها دراهم، وأعاد الخياطة كما كانت، فقدر أن الرجل حضر إلى واسط، وطلب الشاهد بوديعته، فأعطاه الكيس بختمه، فلما حصل في منزله فض ختمه، فإذا في الكيس دراهم، فرجع إلى الشاهد وقال له: اردد علي مالي، فإني أودعتك دنانير، والذي وجدت دراهم، فأنكر. فاستدعى عليه القاضي المتقدم ذكره، فلما حضرا بين يديه قال القاضي للمستودع: منذ كم أودعك الكيس؟ قال: منذ خمس عشرة سنة. فقال الرجل لصاحب الكيس: أحضر لي الدراهم، فأحضرها. فقال الرجل للشهود: اعتبروا تواريخ الدراهم. فقرأوا سككها، فإذا منها ما له سنتان وثلاث سنين ونحو ذلك، فأمره أن يدفع له الدنانير فدفعها، وأطاف القاضي به البلد وأسقطه.
الحائك المتطبب
وروى أبو محمد الخشاب النحوي قال: جاز بعض الحاكة على طبيب، فرآه يصف لهذا النقوع ولهذا التمر الهندي، فقال: من لا يحسن مثل هذا؟ فرجع إلى زوجته فقال: اجعلي عمامتي كبيرة. فقالت: ويحك، أي شيء طرأ لك؟ قال: أريد أن أكون طبيبا. قالت: لا تفعل؛ إنك تقتل الناس فيقتلونك. قال: لا بد. فخرج أول يوم، فقعد يصف للناس، فحصل قراريط. فجاء وقال لزوجته: أنا كنت أعمل كل يوم بجبة، فانظري ما حصل لي! فقالت: لا تفعل. قال: لا بد. فلما كان في اليوم الثاني اجتازت جارية فرأته، فقالت لسيدتها - وكانت شديدة المرض: اشتهيت هذا الطبيب الجديد يداويك. قالت: ابعثي إليه. فجاء، وكانت المريضة قد انتهى مرضها ومعها ضعف، فقال: علي بدجاجة مطبوخة. فأكلت وقويت ثم استقامت، فبلغ هذا إلى صاحب البلد، فجاء به فشكى إليه مرضا يشتكيه، فاتفق أنه وصف له شيئا صلح به، فاجتمع إلى حاكم البلد جماعة يعرفون ذاك الحائك، فقالوا له: هذا رجل حائك لا يدري شيئا! فقال الحاكم: هذا قد صلحت على يديه وصلحت الجارية؛ فلا أقبل قولكم. قالوا: فنجربه بمسائل. قال: افعلوا.
فوضعوا له مسائل وسألوه عنها، فقال: إن أجبتكم عن هذه المسائل لم تعلموا جوابها؛ لأن الجواب لهذه المسائل لا يعرفه إلا طبيب، ولكن أليس عندكم مارستان؟ قالوا: بلى، فجاء إلى باب المارستان، وقال: اقعدوا، لا يدخل معي أحد. ثم دخل وحده ليس معه إلا قيم المارستان، فقال للقيم: إنك والله إن تحدثت بما أعمل صلبتك، وإن سكت أغنيتك. قال: ما أنطق. فأحلفه يمينا محرجة، ثم قال: عندك في هذا المارستان زيت؟ قال: نعم، قال: هاته. فجاء منه بشيء كثير، فصبه في قدر كبير ثم أوقد تحته، فلما اشتد غليانه صاح بجماعة المرضى، فقال لأحدهم: إنه لا يصلح لمرضك إلا أن تنزل في هذا القدر فتقعد في هذا الزيت. فقال المريض: الله الله في أمري. قال: لابد. قال: أنا قد شفيت وإنما كان بي قليل من الصداع. قال: أيش يقعدك في المارستان وأنت معافى؟ قال: دعني أخرج. قال: فاخرج وأخبرهم. فخرج يعدو ويقول: شفيت بإقبال هذا الحكيم، ثم جاء إلى آخر فقال: لا يصلح لمرضك إلا أن تقعد في هذا الزيت. فقال: الله الله، أنا في عافية. قال: لا بد. قال: لا تفعل، فإني من أمس أردت أن أخرج. قال: فإن كنت في عافية فاخرج وأخبر الناس بأنك في عافية. فخرج يعدو ويقول: شفيت ببركة الحكيم. وما زال على هذا الوصف حتى أخرج الكل شاكرين له.
السراج الوراق وزيت الاستصباح
حكي أن السراج الوراق جهز غلاما له؛ ليبتاع زيتا طيبا ليأكل به لفتا، فأحضره وقلبه فوجده زيتا حارا، فأنكر على الغلام ذلك، وأخذه وجاء إلى البياع، وقال له: لم تفعل مثل هذا؟ فقال له: والله يا سيدي ما لي ذنب؛ لأن غلامك قال: أعطني زيتا للسراج.
سوار صاحب الرحبة والأعمى
من غرائب الاتفاق والمكافأة عن الجميل ما أورده محمد بن القاسم الأنباري؛ قال: أخبر سوار صاحب «رحبة سوار» وهو من المشهورين؛ قال: انصرفت يوما من دار أمير المؤمنين المهدي، فلما دخلت منزلي دعوت بالطعام فلم تقبله نفسي، فأمرت به فرفع، ثم دعوت جارية أحدثها فلم تطب نفسي، فدخل وقت القائلة فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة لي فأسرجت وأحضرت فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه مال، فقلت: ما هذا؟ فقال: ألفا درهم، جئت بها من مستغلك الجديد. فقلت: أمسكها معك واتبعني. فأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر، ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة، وعلى الباب خادم، فعطشت، فقلت للخادم: أعندك ماء تسقينيه؟ قال: نعم. ثم دخل وأحضر قلة نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل، فناولني فشربت، وحضر وقت العصر، فدخلت مسجدا على الباب فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي إذا أنا بأعمى يتلمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد. قلت: فما حاجتك؟ فجاء حتى جلس إلى جانبي وقال: شممت منك رائحة طيبة، فظننت أنك من أهل النعيم، فأردت أن أحدثك بشيء. فقلت: قل. قال: ألا ترى إلى باب هذا القصر؟ قلت: نعم. قال: هذا قصر كان لأبي، فباعه وخرج إلى خراسان، وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها وعميت، فقدمت هذه المدينة فأتيت صاحب هذه الدار؛ لأسأله شيئا يصلني به فأتوصل إلى سوار، فإنه كان صديقا لأبي. فقلت: ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان. فعرفته وإذا هو كان أصدق الناس إلي، فقلت له: يا هذا، إن الله - تبارك وتعالى - قد أتاك بسوار، ومنعه من الطعام والنوم والقرار حتى جاء به فأقعده بين يديك. ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه، وقلت: إذا كان غد فسر إلى منزلي. ثم مضيت وقلت: ما أحدث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذا، فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي، فلما دخلت إليه حدثته بما جرى فأعجبه ذلك، وأمر لي بألفي دينار فأحضرت، فقال: ادفعها إلى الأعمى. فنهضت، فقال: اجلس. فجلست، فقال: أعليك دين؟ قلت: نعم. قال: كم دينك؟ قلت: خمسون ألفا. فحدثني ساعة، وقال: امض إلى منزلك. فمضيت إلى منزلي، فإذا بخادم معه خمسون ألفا، وقال: يقول لك أمير المؤمنين: اقض بها دينك. قال: فقبضت ذلك منه، فلما كان من الغد أبطأ علي الأعمى، وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئته، فقال: قد فكرت البارحة في أمرك فقلت: يقضي دينه ثم يحتاج إلى القرض أيضا، وقد أمرت لك بخمسين ألفا أخرى. (قال): فقبضتها وانصرفت. فجاءني الأعمى فدفعت إليه الألفي دينار، وقلت له: قد رزق الله - تعالى - بكرمه، وكافأك على إحسان أبيك، وكافأني على إسداء المعروف إليك. ثم أعطيته شيئا من مالي، فأخذه وانصرف.
قاضي الحاجتين بوقت واحد
روي في ربيع الأبرار أنه كان لرجل غلام من أكسل الناس، فأمره بشراء عنب وتين فأبطأ، ثم جاءه بأحدهما فضربه، وقال: ينبغي لك إذا ما استقضيناك حاجة أن تقضي حاجتين. ثم مرض فأمره بأن يأتي بطبيب فأتى به وبرجل آخر. فقال: من هذا الآخر؟ قال: حفار، وأنت أمرتني أن أقضي حاجتين بوقت واحد، فإن طبت فحسن، وإلا فيكون الحفار حاضر.
الأسف على الشباب
من ظريف ما جاء في النواعير قول أبي نواس يصف الدواليب التي تعمل في مدينة تستر ترفع الماء من قراره إلى البساتين المرتفعة:
ودولاب روض بعدما كان أغصنا
تميس فلما مزقته يد الدهر
فذكر عهدا بالرياض فكلها
عيون على أيام عصر الصبا تجري
الشفيع غير المردود
كتب رجل إلى يحيى بن خالد البرمكي رقعة فيها:
شفيعي إليك الله لا شيء غيره
وليس إلى رد الشفيع سبيل
فأمره بلزوم الدهليز، فكان يعطيه كل صباح ألف درهم، فلما استوفى ثلاثين ألف درهم ذهب الرجل إلى حال سبيله، فقال يحيى: والله لو أقام إلى آخر عمره ما قطعتها عنه.
كثرة السؤال
اشترى رجل من البخلاء دارا وانتقل إليها، فوقف ببابه سائل، فقال: فتح الله عليك. ثم وقف ثان وثالث فقال لهما مثل ذلك، ثم التفت إلى ابنته فقال لها: ما أكثر السؤال في هذا المكان! فقالت: يا أبت، ما دمت متمسكا لهم بهذه الكلمة ما نبالي أكثروا أم قلوا!
الفرسان والرجالة
قال الأصمعي: مررت بأعرابي في البادية، فرأيته يفلي ثوبه، فيلتقط البراغيث ويدع القمل، فقلت له في ذلك. فقال: أبدأ بالفرسان ثم أثني بالرجالة .
معلم الصبيان وعدته
أخبر الجاحظ قال: مررت بمعلم وعنده عصاة طويلة وصولجان وكرة وطبل وبوق، فقلت له: ما هذه العدة؟ قال: عندي صغار في المكتب، فأقول لأحدهم: «اقرأ لوحك» فيصفر لي فأضربه بالعصا القصيرة، فيتأخر فأضربه بالعصا الطويلة، فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه، فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح فأعلق الطبل في عنقي والبوق في فمي، فأضرب الطبل وأنفخ في البوق، فيسمع أهل الدرب ذلك فيسارعون إلي ويخلصوني منهم.
الفادي والديه بحياته
من ظريف ما قيل في موت صغير قول شهاب الدين الفزاري يرثي ولدا لبعض العظام:
عجبا لمولود قضى من قبل أن
يقضي لأيام الصبا ميقاتا
هجر الحياة وطلق الدنيا وقد
وافت بزخرفها إليه بتاتا
فكأنه من نسكه وصلاحه
وهب الحياة لوالديه وماتا
ذكاء ابن الزبير
مر عمر بن الخطاب بابن الزبير وهو صبي يلعب مع الصبيان ففروا ووقف، فقال له: ما لك لم تفر مع أصحابك؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك. فسر عمر من جوابه وألطفه.
اللصوص والحلوى
قال عبد الواحد بن نصر المخزومي؛ قال: أخبرني من أثق به أنه خرج في طريق الشام مسافرا، يمشي وعليه مرقعة، وهو في جماعة نحو الثلاثين رجلا كلهم على هذه الصفة، فصحبنا في بعض الطريق رجل مسن حسن الهيئة، معه حمار فاره يركبه، ومعه بغلان عليهما رحل وقماش ومتاع فاخر، فقلنا له: يا هذا، إنك لا تفكر في خروج اللصوص علينا، فإنه لا شيء معنا يؤخذ، وأنت لا تصلح لك صحبتنا مع ما معك. فقال: يكفينا الله. ثم سار ولم يقبل منا، وكان إذا نزل استدعى أكثرنا فأطعمه وسقاه، وإذا عي الواحد منا أركبه على أحد بغليه. وكانت جماعة تخدمه وتكرمه، ونتدبر برأيه، إلى أن بلغنا موضعا، فخرج علينا نحو ثلاثين فارسا من اللصوص فتفرقنا عليهم ومانعناهم. فقال الرجل: لا تفعلوا. فتركناهم، ونزل فجلس وبين يديه سفرته ففرشها، وجلس يأكل، وأظلتنا الخيل، فلما رأوا الطعام دعاهم إليه، فجلسوا يأكلون ، ثم حل رحله، وأخرج منه حلوى كثيرة، فتركها بين أيدي اللصوص، فلما أكلوا وشبعوا جمدت أيديهم وخدرت أرجلهم ولم يتحركوا، فقال لنا: إن الحلوى مبنجة، أعددتها لمثل هذا، وقد تمكنا منهم وتمت الحيلة، ولكن لا يفك البنج إلا أن تصفعوهم فافعلوا، فإنهم لا يقدرون لكم على ضرر حتى نسير. ففعلوا فما قدروا على الامتناع، فعلمنا صدق قوله، وأخذنا أسلحتهم، وركبنا دوابهم، وسرنا حواليه في موكب ورماحهم على أكتافنا وسلاحهم علينا، فما نجتاز بقوم إلا يظنونا من أهل البادية، فيطلبون النجاء منا حتى بلغنا مأمننا.
نخبة من روايات كتاب الفرج بعد الشدة
الناجي من الجب والأفعى ( 2 : 83-85)
حدثني عبيد الله بن محمد بن الصروي (؟) قال: كنت أتصرف مع المختار بن الغيث بن حمران أحد قواد بني عقيل، فسار وأنا في جملته مع دكين الشيرازي لما تغلب على الموضع يطلب ناصر الدولة، وصار العسكر منتشرا سائرا بعجلة، وكان تحتي حجرة، فصرت في أخريات الناس، ثم انقطعت عن العسكر حتى صرت وحدي، ثم وردت الدابة ماء كان في الطريق وحمر ولم يمكنه أن يسير خطوة واحدة؛ فخفت أن يدركني من يأسرني، فنزلت عنها أمشي وفي عنقي سيف بحمائل والمقرعة في يدي، فسرت فراسخ حتى صعدت جبل سنجار، وكنت أحتاج أن أمشي فيه نحو الفرسخ، ثم أنزل إلى سنجار. فاحتبسني الليل، واستنفد المشي جلدي، فخفت الوحوش في الجبل، فطلبت موضعا أسكن فيه ليلتي فلم أجد، ورأيت جبابا منقورة في الجبل فطلبت أقربها قعرا ورميت فيه بحجر، فظننت أن قعره قامة أو نحوها، فرميت بنفسي فيه، وكان البرد شديدا، فنمت ليلتي لا أعقل من التعب والجوع.
فلما كان من الغد انتبهت وعندي أن الجب محفور كالآبار، وأني أضع رجلي في جوانبه فأتسلق وأطلع، فتأملت، فإذا هو محفور كالتنور رأسه ضيق وأسفله شديد السعة وجوانبه منقوشة، فقمت في وسط الجب، فإذا هو أعلى من قامتي، فتحيرت في أمري، ولم أدر كيف السبيل إلى الصعود، وطلعت الشمس وأضاء الجب، وإذا فيه أفعى مدور كالطبق بين حجرين، وقد سدر من شدة البرد فليس ينتشر، ولم يتحرك من مكانه. وهممت أن أجرد السيف وأقطعه به، ثم قلت: أتعجل شرا لا أدري عاقبته ولا منفعة لي في قتله؛ لأني سأتلف في هذه البئر، وهي قبري، فما معنى قتل الأفعى؟ أدعه فلعله أن يبتدئ بالنهش فأتعجل التلف، ولا أرى نفسي تخرج بالجوع والعطش، فأقمت يومي كله على ذلك، والأفعى لم تتحرك، وأنا أبكي وأنوح على نفسي، وقد يئست من الحياة. فلما كان من الغد أصبحت وقد ضعفت، فحملني حب الحياة على الفكر في الخلاص، فقمت وجمعت من الحجارة الرقيقة شيئا كثيرا، ووضعتها في وسط الجب وعلوتها؛ لتنال يدي طرف البئر، فأحمل نفسي إلى رأسها، فحين وضعت رجلي على الحجارة انهالت لرقتها وملاستها، فلم أعد عملها، وأمضيت يومي كله وأنا مشتغل البال، وجاء الليل، فلم يمكني أن أقوم من الجوع والضعف، ثم غلبني النوم.
فلما كان من الغد فكرت في حيلة أخرى، ووقع لي أن شددت المقرعة التي معي بعلاقتها في حمائل السيف، ودليت المقرعة إلى داخل البئر، وقد أمسكت بإحدى يدي فحصل جفن السيف فوق الجب معترضا لرأسه وهي مدلاة إلي، ثم سللت السيف. ولم أزل أقلع من أرض البئر ما يمكن نحته وقلعه من تراب قليل، ثم غيبت ذلك الرضراض، وتعلقت على السيف المعترض، وظفرت وصار السيف معترضا في جفنه تحت صدري، وظهرت يداي فوق البئر فحصل جوانبها تحت إبطي، واستللت نفسي، فإذا أنا قد خرجت منها، بعد أن اعوج السيف وكاد يندق ويدخل في بطني لثقلي عليه، فوقعت خارج البئر مغشيا علي من هول ما نالني، ووجدت أسناني قد اصطكت، وقوتي قد بطلت عن المشي، فما زلت أحبو، وأطلب المحجة، حتى وقفت عليها، ورآني قوم مجتازون فأخذوا بيدي وقوي قلبي، فمشيت حتى دخلت سنجار آخر النهار وقد بلغت روحي إلى حد التلف، فدخلت مسجدا فطرحت نفسي فيه وأنا لا أشك في الموت. وحضرت صلاة المغرب، واجتمع أهل المسجد فيه، وسألوني عن خبري، فلم يكن في مقدرة على الكلام، فحملوني إلى بيت أحدهم، ولم يزالوا يصبون على حلقي الماء ثم المرق والثريد إلى أن فتحت عيني بعد العتمة، فتكلمت وبت ليلتي بحال عظيم من الألم.
فلما كان من الغد، دخلت الحمام، وأقمت عندهم أياما حتى برئت، وأخرجت نفقة كانت في وسطي، فاستأجرت منها مركوبا، ولحقت بأصحابي. وسلم الله - عز وجل.
إبراهيم الخواص والفيل (2 : 73-74)
عن إبراهيم الخواص، قال: ركبت البحر مع جماعة من الصوفية، فكسر المركب بنا، فنجا منا قوم على خشب من خشب المركب، فوقعنا إلى مكان لا ندري أي مكان هو، فأقمنا فيه أياما لا نجد ما نقتاته، فأحسسنا بالموت، فقال بعضنا لبعض: تعالوا، حتى نجعل الله على أنفسنا أن ندع له شيئا، فلعله يرحمنا فيخلصنا من هذه الشدة. فقال بعضنا: لا أفطر الدهر. وقال بعضنا: أصلي كل يوم كذا وكذا ركعة. وقال بعضنا: أدع اللذات. إلى أن قال كل منا شيئا، وأنا ساكت، فقالوا لي: قل شيئا. فلم يجئ على لساني إلا أن قلت: لا آكل لحم فيل أبدا. فقالوا: الهزل في مثل هذا الحال! فقلت: والله ما تعمدت الهزل، ولكني منذ بدأتم وأنا أعرض على نفسي شيئا أدعه لله - عز وجل - فلا تطاوعني، ولا يخطر على قلبي غير الذي لفظت به، وما أجري هذا على لساني ولا ألهمه قلبي إلا لأمر.
فلما كان بعد ساعة قال بعضنا: لم لا نطوف في هذه الأرض متفرقين فنطلب قوتا، فمن وجد شيئا أنذر به الباقين، والموعد هذه الشجرة. قال: فتفرقنا في الطرق، فرجع أحدنا بولد فيل صغير، فلوح بعضنا لبعض فاجتمعنا، فأخذه أصحابنا واحتالوا فيه حتى شووه، وقعدوا يأكلون، وقالوا: تقدم. فقلت: أنت تعلمون أنني منذ ساعة تركته لله - عز وجل - وما كنت لأرجع في شيء تركته له؛ لعله جرى ذلك على لساني لأجل موتي من بينكم؛ لأني ما أكلت شيئا منذ أيام، وما أطمع في شيء آخر، وما يراني الله أنقض عهده ولو مت، واعتزلتهم، وأكل أصحابي، وأقبل الليل، وتفرقنا إلى مواضعنا التي كنا فيها نبيت، وأويت إلى أصل شجرة كنت أبيت عندها، فلم يكن إلا لحظة، فإذا بفيل عظيم قد أقبل وهو ينعر، والصحراء تتدكدك بنعيره وشدة شغبه، وهو يطلبنا، فقال بعضهم: قد حضر الأجل فاستسلموا وتشهدوا. وأخذنا في الاستغفار والتسبيح، وطرح القوم نفوسهم على وجوههم، فجعل الفيل يقصد واحدا واحدا فيشمه من أول جسده إلى آخره، فإذا لم يبق فيه موضع إلا شمه شال إحدى قوائمه فوضعها عليه وفسخه، فإذا علم أنه قد أتلفه قصد آخر ففعل به مثل فعله في الأول، إلى أن لم يبق غيري، وأنا جالس منتصب أشاهد ما جرى، وأستغفر الله وأسبحه.
فقصدني الفيل، فحين قرب مني رميت نفسي على ظهري، ففعل بي من الشم كما فعل بأصحابي، ثم أعاد شمي مرتين أو ثلاثا، ولم يكن فعل بأحد منهم ذلك، وروحي في خلال ذلك تكاد تخرج فزعا، ثم لف خرطومه علي فشالني في الهواء، فظننته يريد قتلي بقتلة أخرى، فجهرت بالاستغفار، فما نحى خرطومه حتى جعلني فوق ظهره، فانتصبت جالسا واجتهدت في حفظ نفسي بموضعي. وانطلق الفيل يهرول تارة، ويسعى أخرى، وأنا تارة أحمد الله - عز وجل - على تأخير الفيل وأطمع في الحياة، وتارة أتوقع أن يثور بي فيقتلني فأعاود الاستغفار، وأنا أقاسي في ذلك وأتجرع من الألم الشديد لسرعة سير الفيل أمرا عظيما، فلم أزل على ذلك إلى أن طلع الفجر واشتد ضوؤه، فإذا به قد لف خرطومه علي، فقلت: قد حضر الأجل. فاستكثرت من الاستغفار، فإذا به قد أنزلني من ظهره وتركني على الأرض، ورجع إلى الطريق التي جاء منها وأنا لا أصدق، فلما غاب عن عيني ولم أسمع له حسا خررت ساجدا لله - سبحانه - فما رفعت رأسي حتى أحسست بالشمس، فإذا أنا على ظهر محجة عظيمة، فمشيت عليها نحوا من فرسخين، فانتهيت إلى بلد كبير، فدخلته فعجب أهله مني وسألوني عن حالي، فأخبرتهم بالقصة، فزعموا أن الفيل سار في هذه الليلة مسيرة أيام واستظرفوا سلامتي، وأقمت عندهم حتى صلحت من تلك الشدائد التي قاسيتها، وتندى بدني، ثم سرت مع التجار إلى بلد على شاطئ البحر، فركبته ورزقني الله السلامة إلى أن عدت إلى بلدي.
الأصمعي وتقربه من الخلفاء (2 : 19-20)
وجدت في بعض الكتب عن الأصمعي قال: كنت بالبصرة أطلب العلم وأنا مقل، وكان على بابنا بقال إذا خرجت بكرة يقول لي: إلى أين؟ فأقول: إلى فلان المحدث. وإذا عدت المساء يقول لي: من أين؟ فأقول: من عند فلان الإخباري واللغوي. فيقول: «يا هذا، اقبل وصيتي؛ أنت شاب، فلا تضيع نفسك، واطلب معاشا يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب واطرحها في هذا الدن، وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة وانبذه وانظر ما يكون منه، والله لو طلبت مني بجميع ما لديك من الكتب جوزة ما أعطيتك.» فيضيق صدري بمداومة الكلام، حتى كنت أخرج من بيتي ليلا وأدخله ليلا، وحالي في خلال ذلك يزداد ضيقا حتى أفضيت إلى بيع آجر أساسات داري، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يوم، وطال شعري وأخلق ثوبي واتسخ بدني، وأنا كذلك متحير في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان، قال: أجب الأمير. فقلت: ما يصنع الأمير برجل قد بلغ الفقر إلى ما ترى؟!
فلما رأى سوء حالي وقبيح منظري رجع فأخبر الأمير بخبري، وعاد إلي ومعه تخوت ثياب ودرج فيه بخور وكيس فيه دنانير، وقال: قد أمرني الأمير أن أدخلك الحمام، وألبسك من هذه الثياب، وأدع باقيها عليك، وأطعمك من هذا الطعام، (وإذا بخوان كبير فيه صنوف الأطعمة)، وأبخرك؛ لترجع إليك روحك ثم أطلعك عليه، فسررت بذلك سرورا شديدا، ودعوت له، فقمت وعملت ما قال. ومضيت معه حتى دخلت على محمد بن سليمان، فسلمت عليه، فقربني ورفعني، ثم قال: يا عبد الملك، قد اخترتك لتأديب ولدي أمير المؤمنين، فاعمل على الخروج إلى بابه، وانظر كيف يكون، فشكرته ودعوت له، وقلت: سمعا وطاعة، سأخرج شيئا من كتبي وأتوجه. فقال: ودعني وكن على الطريق. فقبلت يده، وأخذت جميع ما احتجت إليه من كتبي، وجعلت باقيها في بيت، وسددت بابه، وأقعدت على الدار عجوزا من أهلنا تحفظها ، وباكرني رسول محمد بن سليمان، وأخذني إلى زلال (؟) قد اتخذ لي، وفيه ما أحتاج إليه، وجلس معي ينفق علي حتى وصلت إلى بغداد، ودخلت على أمير المؤمنين فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال: أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي؟ قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين ابن قريب الأصمعي. قال: اعلم أن ولد الرجل مهجة قلبه وثمرة فؤاده، وهو ذا أسلم إليك ابني محمدا بأمانة الله، فلا تعلمه ما يفسد عليه دينه؛ فلعل أن يكون للمسلمين إماما. قلت: السمع والطاعة.
وأخرجه إلي، وتحولت معه إلى دار قد أخليت لنا لتأديبه فيها، وبها من أصناف الخدم والفرش ما يسر، وأجرى علي في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر بأن يخرج إلي في كل يوم مائدة، فلزمته وكنت مع ذلك أقضي حوائج الناس، وآخذ عليها الرغائب، وأنفذ جميع ما يجتمع أولا فأولا إلى البصرة، فأبني داري وأشتري ضياعا وعقارا، فأقمت معه حتى قرأ القرآن، وتفقه في الدين، وروى الشعر واللغة، وروى أيام الناس وأخبارهم، واستعرضه الرشيد فأعجب به، وقال: يا عبد الملك، أريد أن يصلي بالناس إماما في يوم جمعة، فاختر له خطبة وحفظه إياها. فحفظته عشرا، فخرج وصلى بالناس وأنا معه، فأعجب الرشيد به، وأخذه نثار الدراهم والدنانير من الخاصة والعامة، وأسنيت الجوائز والصلات علي من كل ناحية، فجمعت مالا عظيما، ثم استدعاني الرشيد فقال: يا عبد الملك، قد أحسنت الخدمة فتمن. فقلت: ما عسيت أن أتمنى وقد حزت آمالي! فأمر لي بمال عظيم وكسوة كثيرة، وطيب فاخر وعبيد وإماء، وظهر وفرش وآلة. فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي بالإلمام (؟) إلى البصرة، والكتابة إلى عامله بها أن يخاطب الناس الخاصة والعامة بالسلام علي ثلاثة أيام وإكرامي بعد ذلك، فكتب لي عنه بما أردت.
وانحدرت إلى البصرة وداري قد عمرت، وضيعي قد كثرت، ونعمتي قد فشت، فما تأخر عني أحد، فلما كان في اليوم الثالث تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال وعليه عمامة وسخة ورداء نظيف وجبة قصيرة وقميص طويل في رجله جرموقان، وهو بلا سراويل، فقال لي: كيف أنت يا عبد الملك؟ فاستضحكت من حماقته وخطابه لي بما كان يخاطبني الرشيد، فقلت: «بخير، وقد قبلت وصيتك، وجمعت ما عندي من كتب العلم وطرحتها في الدن كما أمرت، وصبيت عليه من الماء للعشرة أربعة، فخرج ما ترى.» ثم أحسنت إليه بعد ذلك، وجعلته وكيلي.
الهميان الضائع (2 : 11-13)
حدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله العبقسي، قال: حدثني بعض تجار أهل الكرخ ببغداد، عن صديق له قال: كنت أعامل رجلا من الخراسانية أبيع له في كل سنة متاعا يقدم به، فأنتفع من سمسرته بألوف كثيرة، فلما كان سنة من السنين تأخر عن الحج، فأثر ذلك في حالي، ثم توالت علي محن، فأغلقت دكاني، وجلست في بيتي مستترا من دين ركبني ثلاثا أو أربع سنين، فلما كان في وقت ورود الحجاج، تتبعت نفسي لأعرف خبر الخراساني طمعا لإصلاح حالي بوروده، فمضيت إلى سوق يحيى فلم أعط له خبرا. ورجعت فنزلت إلى الجزيرة وأنا تعب مغموم، وكان يوما حارا، ونزلت إلى دجلة فسبحت وصعدت وأنا رطب فابتل موضع قدمي، وخطوت فعلقت برجلي قطعة رمل، فانكشف سير، فلبست ثيابي، وغسلت رجلي وجلست مفكرا، أولع بالسير فانجر، فلم أزل أجره حتى بان لي هميان من جلد فأخرجته، فإذا هو مملوء، فأخفيته تحت ثيابي، وجئت إلى منزلي ففتحته فإذا فيه ألف دينار عينا، فقويت نفسي به قوة شديدة، وقلت: اللهم لك علي أني متى صلحت حالي بهذه الدنانير وعادت أن أتحرى خبر هذا الهميان، فمن علمت أنه له رددته عليه بقيمة ما فيه من الدنانير، واحتفظت بالهميان، وأصلحت أمري مع غرمائي، وفتحت دكاني وعدت إلى رسمي في التجارة والسمسرة، فما مضت علي إلا ثلاث سنين حتى صار في ملكي عين وورق بألوف دنانير، وجاء الحجاج فتبعتهم لأعرف خبر الهميان، فلم يعطني أحد خبره.
فصرت إلى دكاني، فأنا جالس وإذا برجل قائم حيال دكاني أشعث أغبر، وافي السبال في خلقة سؤال الخراسانية وزيهم، فظننته سائلا فأومأت إلى دريهمات لأعطيه فأسرع الانصراف، فارتبت به وقمت فلحقته فتأملته، فإذا هو صاحبي الذي كنت أنتفع من سمسرته في كل سنة، فقلت له: ما الذي أصابك؟ وبكيت رحمة له فبكى، وقال: حديثي طويل. فقلت: البيت البيت. فحملته فأدخلته الحمام، وألبسته ثيابا نظافا، وأطعمته ثم سألته عن خبره، فقال: أنت تعرف حالي ونعمتي، وإني أردت الخروج إلى الحج بعد آخر سنة جئت إلى بغداد، فقال لي أمير بلدي: عندي قطعة ياقوت أحمر كالكف لا قيمة لها عظما وجلالة ولا تصلح إلا للخليفة، فخذها معك وبعها لي ببغداد، واشتر لي بها متاعا طلبه من عطر وظرف بكذا وكذا، واحمل الباقي مالا. فأخذت القطعة وهي كما قال، فجعلتها في هميان من صفته كيت وكيت (قال: ووصف الهميان الذي عندي)، وجعلت في الهميان ألف دينار عينا من مالي، وجعلته على وسطي، فلما جئت إلى بغداد نزلت أسبح في الجزيرة بسوق يحيى، وتركت الهميان وثيابي بحيث ألاحظهما، فلما صعدت من دجلة لبست ثيابي وقد غربت الشمس وأنسيت الهميان فلم أذكره إلا من غد، فغدوت لطلبه وكأن الأرض قد ابتلعته، فهونت على نفسي المصيبة، وقلت: لعل قيمة الحجر خمسة آلاف دينار أغرمها. فخرجت إلى الحج، وقضيت حجي، ورجعت إلى بلدي فأنفذت إلى الأمير ما جملته به، وأخبرته بخبري، وقلت له: خذ مني تمام الخمسة آلاف دينار. فطمع وقال: قيمة الحجر خمسون ألف دينار. وقبض على جميع ما أملكه من مال ومتاع، وأنزل صنوف المكاره بي، وحبسني سبع سنين كنت أتردد فيها في العذاب، فلما كان في هذه السنة، سأله الناس في أمري فأطلقني، فلم يمكنني المقام في بلدي وتحمل شماتة الأعداء، فخرجت على وجهي أعالج الفقر بحيث لا أعرف، وجئت مع الخراسانية أمشي أكثر الطريق، ولا أدري ما أعمل؛ فجئت لأشاورك في معاش أتعلق به.
فقلت: يا هذا، قد رد الله - عز وجل - عليك ضالتك، هذا الهميان الذي وصفته عندي، وقد كان فيه ألف دينار أخذتها، وعاهدت الله - عز ذكره - أني ضامنها لمن يعطيني صفة الهميان، وقد أعطيتني صفته، وعلمت أنه لك. وقمت فجئت بكيس فيه ألف دينار. فقلت: خذها وتعيش بها ببغداد، فإنك لا تعدم خيرا إن شاء الله - تعالى. فقال لي: يا سيدي، الهميان بعينه عندك لم يخرج عن يدك؟ قلت: نعم. فشهق شهقة، ظننت أنه قد تلف منها، وخر ساجدا فما أفاق إلا بعد ساعة، ثم قال: ائتني بالهميان. فجئته به، فقال: سكين. فأعطيته، فخرق أسفله واستخرج منه حجر ياقوت أحمر كالكف، فأشرق البيت منه، وكاد أن يأخذ بصري شعاعه، وأقبل يشكرني ويدعو لي، فقلت: خذ دنانيرك. فحلف بكل يمين أنه لا يأخذ منها شيئا إلا ثمن ناقة ومحمل ونفقة تبلغه خراسان، فاجتهدت به، فبعد جهد أخذ ثلاثمائة دينار، وأحلني من الباقي.
فلما كان في العام الماضي جاءني بقريب مما كان يجيئني به سالفا، فقلت: خبرك؟ فقال: مضيت، وشرحت لأهل البلد خبري، وأريتهم الحجر، فجاء معي وجوههم إلى الأمير، وأعلموه القصة وخاطبوه في إنصافي، فأخذ الحجر ورد علي جميع ما كان أخذه مني من مال وعقار وضياع وغير ذلك، ووهب لي مالا من عنده وقال: اجعلني في حل مما عذبتك به. فأحللته، وعادت نعمتي على ما كانت عليه، وعدت إلى تجارتي ومعاشي، وكل هذا بفضل الله - عز وجل - وبركتك، فعل الله بك وصنع. (قال): وكان يجيئني في كل سنة إلى أن مات.
الدراهم المنتثرة (1 : 60-61)
لما خرج طاهر بن الحسين إلى محاربة علي بن موسى بن ماهان جعل ذات يوم في كمه دراهم يفرقها على الفقراء، ثم أسبل كمه ناسيا، فانتفضت الدراهم فتطير من ذلك واغتم، فانتصب له شاعر فقال:
هذا تفرق جمعهم لا غيره
وذهابه منه ذهاب الهم
شيء يكون الهم نصف خروفه
لا خير في إمساكه في الكم
فسلا همه وما به، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
راكب الأسد (2 : 75-88)
حدثني أبو جعفر أصبع بن أحمد بن شبح، وكان يحجب أبا محمد المهلبي - رحمة الله عليه - قبل وزارته، فلما ولي الوزارة كان يصرفه في الاستحثاث على العمال وفي الأعمال التي يتصرف فيها العمال الصغار، (قال ): كنت بشيراز مع أبي الحسن علي بن خلف بن طبات (؟) وهو يتولى عمالتها يومئذ، فجاء مستحثا من الوزير يطالبه بحمل الأموال، وكان أحد الغلمان الأكابر قد كوتب بإكرامه، فأحضره أول يوم طعامه وشرابه فامتنع من مؤاكلته، وذكر أن له عذرا. فقال: لا بد أن تأكل. فأكل بأطراف أصابعة، ولم يخرج يده من كمه، وكاد كمه يدخل في الغضائر، ويناله الغمر.
فلما كان من غد، قال علي بن خلف: ليدعه كل يوم واحد منكم. فكانوا يدعونه ويدعون بعضهم بعضا، فتكون صورته في الأكل واحدة، فنقول: لعل به برصا أو جذاما. إلى أن بلغت النوبة إلي، فدعوته ودعوت الحاشية، وجلسنا نأكل وهو يأكل معنا على هذه الصورة، فسألته إخراج يده والانبساط في الأكل، فامتنع من إخراج يده، فقلت له: يلحقك تنغيص بالأكل هكذا، فأخرجها على أي شيء كان بها، فإنا نرضى به. (قال): فإذا فيها وفي ذراعه ضربات بعضها فيه بقيه أدوية يابسة، وهي على أقبح ما يكون من المنظر، فأكل معنا غير محتشم، وقدم الشراب فشربنا، فلما أخذ منا الشراب سألته عن سبب تلك الضربات، فقال: هو أمر ظريف أخاف أن لا أصدق فيه، ولا يجمل بي الحديث به. فقلت: لا بد أن تتفضل.
قال: كنت عام أول بقريب من هذا الوقت قائما بحضرة الوزير، فسلم إلي كتابا إلى عامل دمشق ومنشورا، وأمرني بالتوجه إليه وإزهاقه بالمطالبة بحمل المال، ورسم أن أخرج على طريق السماوة لأتعجل، وكتب إلى عامل هيت بإنفاذي مع خفارة، فلما حصلت هيت استدعى العامل جماعة من أحياء العرب، وضمني إليهم، وأعطاهم مالا على ذلك، وأشهد عليهم بتسلمي، واحتاط في أمري. وكانت هناك قافلة تريد الخروج منذ مدة وتتوقى البرية، فأنسوا بي، وسألوني أن آخذ لنفسي مالا وللأعراب مالا وأوصلهم في الخفارة ويسيرون معي، ففعلت ذلك، فصرنا قافلة عظيمة، وكان معي من غلماني من يحمل السلاح، وهم يقربون من العشرين غلاما، وفي حمالي القافلة والتجار جماعة يحملون السلاح أيضا، فرحلنا عن هيت، ودخلنا في البرية ثلاثة أيام بلياليها .
فبينما نحن نسير، إذ لاحت لنا خيل، فقلنا للأعراب: ما هذه الخيل؟ فتسرع منهم قوم ثم عادوا كالمنهزمين، وقالوا: قوم من بني فلان بيننا وبينهم دم، ونحن طلبتهم ولا ثبات لنا معهم، ولا يمكننا خفارتكم منهم. وركضوا متفرقين، وبقينا نحن متحيرين، ولم نشك أنهم كانوا بعض أهلهم، وأن ذلك فعل على مواطأة، فجمعت القافلة وطفت بها أنا وغلماني ومن كان منهم يحمل السلاح متساندين كالدائرة، وقلت لمن كان معي: لو كان هؤلاء يأخذون أموالنا ويدعون جمالنا لننجو عليها كان هذا أسهل، ولكن الجمال والدواب أول ما تؤخذ، ونتلف في البرية ضعفا وعطشا فاعملوا على أن نقاتل، فإن هزمناهم سلمنا، وإن قتلنا كان أسهل. فقالوا: نفعل. وقدم القوم، فقتلنا لهم عدة خيل، وجرحنا منهم غير جريح، وما ظفروا منا بعود، فباتوا قريبا منا حنقين علينا، وتفرق الناس للأكل والصلاة، فاجتهدت بهم أن يجتمعوا ويبيتوا تحت السلاح، فخالفوني وكانوا قد أمنوا ونام بعضهم، فغشينا الخيل، فلم يكن عندنا ممانعة، فوضعوا فينا السيوف، وكنت أنا المطلوب خاصة؛ لما شاهدوه من تدبير القوم برأيي، وعلموه من أني رئيس القافلة، فقطعوني بالسيوف ولحقتني هذه الجراحات، وفي بدني أضعاف أضعافها. (قال): وكشف لنا عن أكثر جسده فإذا به أمر عظيم لم ير مثله في بشر قط. (قال): وكان في أجلي تأخير، فرميت نفسي بين القتلى لا أشك في تلفي.
قال: فلما كان بعد ساعة أفقت، فوجدت في نفسي قوة والعطش بي شديد، فلم أزل أتحايل حتى قمت أطلب من القافلة قدح ماء لأشرب منها، فلم أجد أحدا، ورأيت من القتلى والمجروحين الذين هم في آخر رمق، وسمعت من أنينهم ما أضعف نفسي وأيقنت بالتلف، وقلت: غاية ما أعيش إلى أن تطلع الشمس. فملت أطلب شجرة أو محلا؛ لأجعله ظلا لي من الشمس إذا طلعت، فإذا بي قد عثرت بشيء عظيم لا أدري ما هو من الظلمة، وإذا أنا منبطح عليه بطولي وطوله، فثار من تحتي، فحسست عليه، وكنت قدرته رجلا من الأعراب، فإذا هو أسد، فحين علمت ذلك طار عقلي، وقلت: إن استرخيت افترسني؛ فعانقت رقبته بيدي، ونمت على ظهره، وألقيت بطني بظهره، وجعلت رجلي تحت بطنه، وكانت دمائي تجري. فحين دخلني ذلك الفزع الشديد رقأ دمي وعلق شعر الأسد بأفواه الجروحات، فصار سدادا لها وعونا على أن أمسك نفسي فوقه، وورد على الأسد مني أظرف مما ورد علي منه؛ فأقبل يجري كما تجري الفرس على طريق واحد، وأنا أحس بروحي وأعضائي تتقصف من شدة جريه، فلم أشك في أنه يقصد أجمته فيلقيني إلى لبؤته فتفترسني، إلا أني ضبطت نفسي وأنا أؤمل الفرج وأدافع الموت، وكلما هم الأسد أن يربض ضربت بطنه برجلي فيطير، وأنا أعجب من نفسي ومطيتي وأدعو الله - عز وجل - وأرجوه.
وما زلت على ذلك إلى أن ضربني نسيم السحر فقويت نفسي، وأقبل الفجر يضيء، فتذكرت طلوع الشمس فجزعت، ودعوت الله - عز وجل - فما كان أسرع من أن سمعت صوتا ضعيفا لا أدري ما هو، ثم قوي فشبهته بناعورة. (قال): والأسد يجري، وقوي الصوت فلم أشك في أنه ناعورة، ثم صعد بي الأسد إلى تل، فرأيت منه بياض ماء الفرات وهو جار، وناعورة تدور، والأسد يمشي على شاطئ الفرات برفق إلى أن وجد شريعة، فنزل منها إلى الماء وأقبل يسبح ليعبر، فقلت في نفسي: ما قعودي؟ لئن لم أتخلص هنا ما تخلصت أبدا، فما زلت أرفق حتى خلصت شعره من أفواه جراحاتي، وسقطت وسبحت منحدرا، وأقبل الأسد يشق الماء عرضا.
فينما أنا أسبح نظرت جزيرة فقصدتها، وحصلت فيها، وقد بطلت قوتي، وذهب عقلي، وطرحت نفسي عليها كالتالف، فلم أحس إلا بحرارة الشمس قد نبهتني، فرجعت أطلب شجرة رأيتها في الجزيرة؛ لأستظل بها، فرأيت السبع مقعيا على ذنبه بشاطئ الفرات، فقل فزعي منه، وأقمت مستظلا بالشجرة أشرب من ذلك الماء إلى العصر، فإذا أنا بزورق منحدر، فصحت به، وحلفت لهم أن ما بالجزيرة أحد سواي، وأومأت لهم إلى الأسد، وقلت لهم: قصتي ظريفة طويلة وإن تجاوزتموني كنتم أنتم قد قتلتموني، فالله الله في. فرقوا لي، ودخلوا إلي يحملوني، فلما صرت في الزورق ذهب عقلي، فما أفقت إلا في اليوم الثاني فإذا علي ثياب نظاف، وقد غسلت جراحاتي، وجعل فيها الزيت والأدوية، وأنا بصورة الأحياء، فسألني أهل الزورق عن حالي فحدثتهم.
وبلغنا إلى هيت، فأنفذت إلى العامل من عرفه خبري، فبعث لي من يحملني إليه، فتوجع لي، وقال: ما أظن أنك أفلت فالحمد لله. فحدثته كيف نجيت، فعجب وقال: بين الموضع الذي حملك أهل الزورق منه مشاق أربعين فرسخا على غير محجة. فأقمت عنده أياما، ثم أعطاني نفقة وثيابا وزورقا، فجئت إلى بغداد، فكنت أتعالج عشرة أشهر، حتى صرت هكذا، ثم خرجت وقد افتقرت وأنفقت جميع ما كان في بيتي، فلما أقمت بين يدي الوزير رق لي، وأطلق لي مالا، وأخرجني إليكم.
الطفل المقمط (2 : 85)
عن ديسم بن إبراهيم بن شاذلويه المتغلب، كان بأذربيجان لما ورد حضرة سيف الدولة يستنجده على المرزبان محمد بن مسافر السلار لما هربه عنها، قال: إن بناحية أذربيجان واديا يقال له الرأس، شديد جرية الماء جدا، وفي أرضه حجارة كثيرة بعضها ظاهر من الماء، وبعضها مغطى بالماء، وليس للسفن فيه مسلك، وله أجراف هائلة، وبه قنطرة يجتاز عليها المارة، قال: كنت مجتازا عليها في عسكري، فلما صرت في وسط القنطرة رأيت امرأة تمشي وتحمل ولدا طفلا في القماط، فزاحمها بغل محمل، فطرحت نفسها على القنطرة فزعا، فسقط الطفل من يدها إلى النهر، فوصل إلى الماء بعد ساعة؛ لبعد ما بين القنطرة وصفحة الماء، ثم غاص، وارتفعت الضجة في العسكر.
ثم رأينا الصبي قد طفا على وجه الماء، وقد سلم من تلك الحجارة، وكان الموضع كثير العقبان، ولها أوكار في أجراف ذلك النهر، ومنها يصاد أفراخها، (قال): فحين ظهر الطفل في قماطه صادف ذلك عقابا طائرا، فرآه فظنه طعمة، وانقض عليه وشبك مخالبه في القماط وطار به، وخرج إلى الصحراء، فطمعت في تخليص الطفل، فأمرت جماعة أن يركضوا وراء العقاب ففعلوا، وتبعتهم بنفسي لمشاهدة الحال، فإذا العقاب قد نزل إلى الأرض، وابتدأ يمزق قماط الصبي ليفترسه، فحين رأوه صاحوا بأجمعهم، وقصدوه ومنعوه عن الصبي فطار، وتركه على الأرض، فلحقنا الصبي فإذا هو سالم ما وصل إليه جرح، وهو يبكي، فقيأناه حتى خرج الماء من جوفه، وحملناه سالما إلى أمه.
نجاة ابن أبي قبيصة من الأسر والقتل (1 : 111-113)
حدثني جماعة من ثقات أهل الموصل أن فاطمة بنت أحمد بن علي الكردي زوجة ناصر الدولة أم أبي تغلب اتهمت عاملا كان لها يقال له ابن أبي قبيصة من أهل الموصل بخيانة في مالها، فقبضت عليه وحبسته في قلعتها، ثم رأت أن تقتله، فكتبت إلى المتوكل بالقلعة بقتله، فورد عليه الكتاب، وكان لا يحسن أن يقرأ ولا يكتب، وليس عنده من يقرأ ويكتب إلا ابن أبي قبيصة، فدفع الموكل بالقلعة الكتاب إليه، وقال له: اقرأ. فلما رأى فيه الأمر بقتله قرأ الكتاب بأسره إلا حديث القتل، ورد الكتاب عليه. وقال ابن أبي قبيصة: ففكرت وقلت: أنا مقتول ولا آمن أن يرد كتاب آخر في هذا المعنى، ويتفق حضور من يقرأه غيري فينفذ الأمر في، وسبيلي أن أحتال عليه بحيلة، فإن تمت سلمت، وإن لم تتم فليس يلحقني أكثر من القتل الذي أنا حاصل فيه.
فتأملت القلعة فإذا فيها موضع يمكن أن أطرح نفسي منه إلى أسفل، إلا أن بينه وبين الأرض أكثر من ثلاثة آلاف ذراع، وفيه صخر لا يجوز أن يسلم معه من يقع عليه. (قال): فلم أجسر. ثم ولد لي الفكر أني تأملت الثلج قد سقط عدة ليال قطعا فغطى تلك الصخور، فصار فوقها أمر عظيم يجوز إن سقطت عليه وفي أجلي تأخير أن ينكسر بعض بدني وأسلم. (قال): وكنت مقيدا، فقمت لما نام الناس فطرحت نفسي من الموضع قائما على رجلي، فحينما حصلت في الهواء ندمت، وأقبلت أستغفر الله وأتشهد، وغمضت عيني حتى لا أرى كيف أموت، وجمعت رجلي بعض الجمع؛ لأني كنت سمعت قديما، أن من اتفق عليه أن يسقط قائما من مكان عال إذا جمع رجليه ثم أرسلها إذا بقي بينه وبين الأرض قدر ذراع أو أكثر؛ أمكنه أن يسلم، وينكسر حد السقطة، ويصير كأنه بمنزلة من سقط من ذراعين، (قال): ففعلت ذلك.
فلما سقطت إلى الأرض ذهب عني أمري، وزال عقلي ثم آب إلي، فلم أجد ما كان ينبغي أن يلحقني من ألم السقوط من ذلك الموضع، فأقبلت أجس أعضائي شيئا فشيئا فأجدها سالمة، وقمت وقعدت وحركت يدي ورجلي، فوجدت ذلك كله سالما، فحمدت الله - تعالى - على تلك الحال، وأخذت صخرة، وكان الحديد الذي قد صار في رجلي كالزجاج لشدة البرد. (قال): فضربته ضربا شديدا فانكسر، فطن حتى ظننت أنه سيسمعه من في القلعة لعظمه فينتبهون إلي، فسلم الله - عز وجل - من هذا أيضا، وقطعت تكتي، وشددت ببعضها القيد على ساقي، وقمت أمشي في الثلج، فمشيت طويلا ثم خفت أن يروا آثاري من غد في الثلج على المحجة فيتبعوني فلا أفوتهم؛ فعدلت عن المحجة إلى نهر يقال له الخابور، فلما وصلت إليه وصرت إلى شاطئه نزلت في الماء إلى ركبتي، وأقبلت أمشي كذلك فرسخا حتى انقطع أثري، ثم خرجت لما كادت أطرافي تسقط من البرد فمضيت على شاطئه، ثم عدلت أمشي فيه وربما حصلت في موضع لا أقدر على المشي فيه؛ لأنه يكون جرفا فأسبح، واستمريت على ذلك أربعة فراسخ حتى حصلت في خيم فيها أقوام، فأنكروني وهموا بي، فإذا هم أكراد، فقصصت عليهم قصتي، واستجرت بهم فرحموني، وأوقدوا بين يدي وأطعموني وستروني، وانتهى الطلب من غد إليهم، فما أعطوا خبري أحدا. فلما انقطع الطلب سيروني حتى دخلت الموصل مستترا، وكان ناصر الدولة ببغداد إذ ذاك، فانحدرت إليه، وأخبرته بخبري كله، فعصمني من زوجته، وأحسن إلي وصرفني.
ابن جصاص وأعدال الخيش (1 : 113-114)
حدثني أبو علي بن عبيد الله الحسين بن عبد الله الجصاص الجوهري قال: سمعت أبي يحدث قال: لما نكبني المقتدر، وأخذ مني تلك الأموال العظيمة، أصبحت آيسا من الفرج، فجاءني خادم فقال: البشرى. فقلت: ما الخبر؟ قال: قم قد أطلقت، فقمت معه فاجتاز بي في بعض طرق دور الخليفة ، يريد إخراجي إلى دار السيدة؛ لتكون هي التي تطلقني؛ لأنها هي التي شفعت في، فوقعت عيني في اجتيازي على أعدال خيش لي أعرفها كان مبلغها مائة عدل، فقلت للخادم: أليس هذا من الخيش الذي حمل من داري؟ فقال: بلى. فتأملته فإذا هو بشده وعلاماته، وكانت هذه أعدالا قد حملت إلي من مصر، كل عدل منها فيه ألف دينار من مال كان لي هناك، كتبت بحمله فخافوا عليه من الطريق، فجعلوه في أعدال الخيش؛ لأنها مما لا تكاد أن ينهبه اللصوص، وإن وقعوا به لا يفطنون لما فيه؛ فوصلت سالمة، ولاستغنائي عنها وعن المال لم أخرجه من الأعدال، وتركته بحاله في بيت في داري، وأقفلت عليه، وتوخيت بذلك أيضا سر حديثه فتركته شهورا على حاله؛ لأنقله كما أريد في أي وقت أرى.
ولما حبست أخذ الخيش في جملة ما أخذ من داري، ولخسته عندهم تهاونوا به، ولم يعرف أحد ما فيه؛ فطرح في تلك الدار، فلما رأيته عندهم طمعت في خلاصه والحيلة في ارتجاعه فسكت، فلما كان بعد أيام من خروجي، راسلت السيدة وشكوت حالي إليها، وسألتها أن تدفع لي ذلك الخيش؛ لأنه لا قدر له عندهم وأنا أنتفع بثمنه. (قال): فاستحمقتني وقال: وأي قدر لهذا الخيش؟ ردوه عليه، فسلم إلي بأسره. ففتحته وأخذت منه المائة ألف دينار ما ضاع منها دينار واحد، وأخذت من الخيش ما احتجت إليه، وبعت باقيه بجملة وافرة، وقلت في نفسي: إنه قد بقيت لي بقية إقبال جيدة.
نخبة من كتاب نوادر مخطوط
أكل السم والحيات
إن الحمل الشاعر كان صاحب نادرة، فرآه صديق له يأكل سمنا فقال له: يا ابن عبد الله، لا تأكل السمن؛ فإنه سم زيدت فيه نون. فقال له: وينبغي لك أن تأكل الحية؛ لأنها حياة سقط منها الألف.
الفضولي المخذول
ويحكى أن رجلا صادف جارية ومعها طبق مغطى، فقال لها: يا جارية، ما في هذا الطبق؟ فقالت: والله يا سيدي، ما غطيناه إلا حتى لا يعرف فضولي مثلك ما فيه!
الأسماء الحصينة
من نوادر الأعراب ما أخبر عن رجل منهم، أنه وقف على قوم فسأل عن أسمائهم، فقال أحدهم: اسمي محرز. وقال آخر: اسمي وثيق. وقال آخر: اسمي منيع. وقال آخر: اسمي ثابت. فقال الأعرابي: ويحكم، والله ما أظن الأقفال عملت إلا من أسمائكم.
اللص المستخدم
دخل لص إلى دار وصاحبها منتبه، فلم يجد في البيت شيئا، فلما خرج قال له صاحب الدار: رد الباب من البرد. فقال اللص: إي والله، من كثرة ما أخذت لك تستخدمني.
اللص السكران
وقيل إن صاحب الشرطة أتي بلص، وقالوا: هذا وجدناه سرق جملا. فقلت له: فعلت ذلك؟ فقال: كنت سكران وقد حملني عليه. فقال له: لم لا سرقت كلبا؟ قال: خشيت أن يعضني. فضحك منه وتركه.
الصبي المتأنق في أكله
قال بعضهم: رأيت بالكوفة صبيا ومعه قرصة، وهو يكسر لقمة، ويدخلها إلى شق في حائط يخرج منه دخان ويأكلها، (قال): فبقيت أتعجب منه إذ وقف عليه أبوه يسأله عن خبره. فقال الصبي: هؤلاء (وأشار إلى أصحاب الحائط) قد طبخوا سكباجة حامضة كثيرة التوابل فأنا أتأدم برائحتها، (قال): فصفعه أبوه صفعة كاد يقلع بها رأسه، وقال له: ويحك! أتريد أن تعود نفسك من اليوم أن لا تأكل الخبز إلا بأدم.
الدعاء الصالح
قيل لرجل اشتكى عينيه: بماذا تداويهما؟ قال: بدعاء الوالدة - أبقاها الله - الكثيرة الصوم والعبادة. فقيل له: منذ كم تشتكي عينيك؟ قال: منذ سنة. فقال له صديق: أحب أن تخلط مع دعاء الوالدة قليلا من العنزروت، فإنه أسرع للإجابة.
الصوفي المجاب الدعوة
حكي أن بعض الصوفيين حمل يوما على رأسه حنطة، وأتى بها طحانا ليطحنها لعياله، فقال له الطحان: أنا مشغول. فقال: اطحنها وإلا دعوت عليك وعلى حمارك ورحالك فيبطل. قال: أوأنت مجاب الدعوة؟ قال: نعم. قال: فادع الله أن يصير حنطتك دقيقا، فهو أنفع لك وأسلم لدينك.
المغفل واللصوص
اجتاز بهلول بسوق البزازين، فرأى الناس اجتمعوا على باب ينظرون إلى نقب قد نقب على بعضهم، فاطلع على النقب ثم قال: ويحكم! ألا تعلمون ذا عمل من؟ قالوا: لا. قال: فإني أعلم من هو. فقال الناس: هذا بهلول يرى اللصوص بالليل ولا يتحاشونه، فأنعموا له القول لعله يخبر بذلك. فسألوه أن يخبر فقال: إني جائع، فهاتوا أربعة أرطال رقاق ورأسين. فأحضروا له ذلك وأكل، فلما استوفاه قال: أشتهي فالوذجا. فأحضروا له رطلي فالوذج فأكله وفرغ منه، وقام وتأمل النقب ثم قال: أوصحيح أنكم لا تعلمون؟ قالوا: لا. قال: هو من عمل اللصوص، وعدا.
المتنبئ النازل عن رتبته
وقيل ادعى رجل النبوة، فأمر الحاكم بضرب عنقه، فلما حضر السياف ولم يبق إلا أن يضرب قال: لم تقتلوني؟ قيل له: لأنك تدعي النبوة. فقال: لست مدعيها. قيل له: فأي شيء أنت؟ قال: صديق. قال الحاكم: اضربوه بالسياط، فلما أحضروا السياط ليضربوه قال: لأي شيء تضربوني؟ قيل له: لأنك تدعي أنك صديق. قال: لا أدعي ذلك. قيل له: فمن أنت؟ قال: من التابعين. فقال الحاكم: اضربوه بالدرة وعزروه. فلما أرادوا ذلك قال: ولم؟ قيل له: لادعائك ما ليس لك. فقال: ويحكم! من ساعة كنت نبيا، أتريدون أن تجعلوني في ساعة واحدة من آحاد الناس، وتحطوني من النبوة إلى منزلة العوام؟! أمهلوني إلى الغد أصير معكم إلى ما شئتم، فضحكوا وأطلقوا سبيله.
الدينار المفرخ
ومن نوادر أشعب أن جارية أودعت عنده دينارا، فقال لها: دعيه تحت الفراش. فلما مضت وضع معه درهما، ثم جاءته بعد ذلك، وطلبت منه الدينار، فقال لها: خذيه بيدك من موضع وضعتيه - وضعته. فمدت يدها لتأخذه فوجدت معه الدرهم فقالت: ما هذا؟ قال: «يا جارية، لا أستحل لك شيئا، هو دينارك ولد عندنا درهما، فخذيه وولده، وإن تركته فهو قد استأنس بالمكان، ويلد كل يوم درهما.» فتركته وذهبت، فأخذه، فجاءت له بعد ذلك تطلبه، فتلقاها بالبكاء، فقالت له: ما القضية؟ قال: مات دينارك في النفاس. قالت: ويحك! الدينار يموت؟! قال: ويحك! تصدقين بالولادة ولا تصدقين بالموت؟!
السائل الثقيل
ويحكى أن بعضهم وقع من دابة فانصدعت رجله، فجعل الناس يدخلون عليه للسلام، ويسألونه: كيف وقعت ؟ فلما أكثروا عليه وضجر كتب قصته في رقعة، وطرحها بين يديه، فكان إذا دخل عليه عابر وسأله عن سبب وقوعه دفع إليه القصة المكتوبة، فدخل عليه فيمن دخل بعد ذلك رجل، فسأله عن حاله فأعطاه القصة، فشرع يسأله، فقال: إنما كتبناها لأجل ترك الكلام. فجعل يلومه على عدم تحرزه عن الوقوع. فقال: حتى نستريح ها نحن نجيب عن هذه الأسئلة على الحاشية، ودعنا من إلحاحك.
العطف بعد التصغير
عمل بعض النحويين كتابا في التصغير، وأهداه إلى رئيس كان يختلف إليه، فنقص عطيته، فصنف كتابا في العطف وأهداه إليه، وكتب معه: رأيت باب التصغير وأهديته إلى الرئيس فصغرني، وأرجو أن يعطفه علي باب العطف.
القالي وكتاب الجمهرة
حدث يحيى بن علي السريري قال: كان للقالي اللغوي نسخة من الجمهرة بخط حسن، فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضي بستين دينارا، وتصفحها فوجد في أثنائها مكتوبا بخط القالي:
أنست بها عشرين حولا وبعتها
فقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان عندي أنني سأبيعها
ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية
صغار عليهم تستهل عيوني
فقلت ولم أملك سوى فيض عبرة
مقالة مكوي الفؤاد حزين
وقد تحوج الحاجات يا أم مالك
كرائم من رب بهن متين (كذا) (قال): فأمر الشريف المرتضي وكيله بحمل النسخة إلى القالي وإبقاء الثمن له.
أثر بعد عين
وحكى إبراهيم بن المهدي قال: قدم المأمون مدينة السلام من خراسان فأمن الناس غيري، فتواريت واختليت اختلاء شديدا، فقالت لي عجوز من الأزد وكانت تخدمني: سأحتال لك في أن يصل إليك مال. فركبت زورقا فلما جاءت المأمون في قصره صاحت: صاحبة نصيحة. فأمر بها فأدخلت عليه، فقالت له: إن دللتك يا أمير المؤمنين على إبراهيم المهدي فما تجعل لي؟ قال: مائة ألف درهم. قالت: وجه معي رسولا، وادفع إليه ألف دينار، ومره أن يدفعها إلي عندما أريه وجه إبراهيم، فوجه المأمون حسين الخادم ودفع إليه الدنانير، وأمره بما قالت، فجاءت مع حسين الخادم حتى دخلت مسجدا فيه صندوق فاتت بحمال فحمله، فجعلت تطوف به في الأسواق والشطوط فمرة يسمع صوت الباعة ومرة صوت الملاحين، فلما أظلم الليل أدخلته دارا، وفتحت عنه فإذا بمجلس عظيم في صدره إبراهيم بن المهدي يشرب، وبين يديه جوار يغنين، فانكب حسين على رجل إبراهيم يقبلها، فسأله إبراهيم عن المأمون، وتناولت منه المرأة الدنانير. قال له إبراهيم: كل عندي لقمة، واشرب عندي قدحا، وتحمل عني رسالة، وامض محفوظا. قال: أفعل. فقدم إليه طعاما فأكل ثم سقي شرابا فيه بنج فشربه فسكر، وأدخل الصندوق وأقفل عليه، وحمل حتى أتي باب العامة، فلما أصبح الناس رأوا الصندوق ليس معه أحد، فأنهوا خبره إلى صاحب الحرس، فكتب الخبر إلى المأمون، فأحضر وفتح فإذا حسين الخادم مسبوت، فعولج حتى أفاق. فقال له المأمون: رأيت إبراهيم؟ قال: إي والله. قال: أين هو؟ قال: لا أدري. وحدثه بالقصة، فقال المأمون: خدعنا والله وذهب المال. قال إبراهيم: فتفرجت بالألف دينار مديدة.
نخبة من كتاب المختار في كشف الأسرار
القرد المسحور «قال الجوبري»: رأيت بخراسان - ويروى: بحران - سنة (613ه/1217م) رجلا من بني ساسان أخذ قردا وعلمه السلام على الناس والتسبيح والسواك والبكاء، ثم رأيت من هذا القرد من الناموس ما لا يقدر عليه أحد من الناس، فإذا كان يوم الجمعة جاء عبد هندي لطيف الملبوس حسن الشمائل إلى الجامع ومعه سجادة حسنة فيفرشها عند المحراب، فإذا كانت الساعة الرابعة جاء القرد بملبوس عظيم من ملابس الملوك وفي وسطه حياصة ذهب مرصعة بأنواع الجواهر، وقد طيبه بأنواع الطيب، وأركبه بغلة بقماش فاخر وركابات محلاة بالذهب، ثم يمشي في خدمته ثلاثة عبيد هنود بأفخر ما يكون من الملبوس، الواحد يحمل وطاءه، والثاني تاسومته - ويروى: سرموزته - والثالث يمشي قدامه كالحاجب له. وهذا القرد لا يمر على أحد إلا سلم عليه طول الطريق.
فإذا وصل إلى باب الجامع نزل، فيقدمون له التاسومة - السرموزة - فيلبسها ثم يعضده العبد إلى أن يصل إلى الموضع الذي فيه السجادة، وهو مطرق بالهيبة والسكون، وكل من سأل عنه يقال له: هذا ابن الملك الفلاني من أكبر ملوك الهند وهو مسحور، ثم يفرش له العبد الوطاء فوق السجادة، ويحط له مسبحة وسواكا، فيقلع القرد بيده منديلا من وسطه من الحياصة ويضعه قدامه، ثم يتناول المسواك فيستاك به، ويصلي ركعتين تحية المسجد، ثم يأخذ المسبحة ويسبح.
فإذا فعل ذلك قام العبد الكبير وسلم على الناس، وقال: يا أصحابنا، من أصبح معافى فليشكر الله على ما أنعم عليه، واعلموا أن بني آدم هدف للبلايا، فمن ابتلي فليصبر ومن عوفي فليشكر، واعلموا أن هذا القرد الذي ترونه بينكم لم يكن والله في زمانه أحسن منه شبابا، وهو ابن الملك الفلاني صاحب الجزيرة الفلانية، فسبحان من سلب منه الحسن والملك، ومع ذلك فإنه لم ير في الناس أرحم منه قلبا ولا أروع منه، وإنما هذه الدنيا كثيرة المحن، فكان من القضاء المقدور أن أباه زوجه بابنة الملك الفلاني، فأقامت معه كذا وكذا سنة، ثم نقلوا إليها أنه عشق غيرها، فهربت إلى بيت أهلها، ولما حصلت عند أمها سحرته أمها، فصار قردا كما ترون. فلما علم والده بذلك أمر السحرة والأطباء والحكماء أن يردوه إلى صورته، فعجزوا عن ذلك فأمر بإخراجه من الإقليم لما لحقه من العار بين الملوك، وقد سألنا زوجته فيه غير مرة أن تعيده إلى حالته الأولى فامتنعت، وقالت إنها تركت عنده أثاثا قيمته مائة ألف دينار، وحلفت لا ترده إلى صورته إلا بها، وقد درنا به البلاد، وتعصبت له الملوك والتجار، فجمعنا له تسعين ألف دينار وبقي عشرة آلاف دينار، فمن يساعده بشيء من ذلك ويعينه على ما قضي عليه ويرحم هذا الذي عدم شبابه وملكه وأهله ووطنه؟ فإذا سمع القرد ذلك وضع المنديل على وجهه وبكى أمر بكاء بدموع كالمطر، فترق له القلوب، وما من الحاضرين إلا ومن يردفه بشيء، فما يخرج من الجامع إلا بشيء كثير، وهم يدورون به البلاد على هذه الصفة، فاعلم ذلك.
المكدي المحتال «قال الجوبري»: ومن ذلك أني كنت في قونية من بلاد الروم سنة (616ه/1220م )، فمررت في بعض الشوارع ، فرأيت إنسانا عليه ثياب خلقة، وهو ملقى على جنبه، ورأسه معصب بخرقة، وهو يئن أنين الضعيف، ويقول: من يقضي شهوتي برمانة؟ فلما نظرت إليه قلت: وعزة الله، من بني ساسان، ولا بد ما أبصر ماذا ينتهي إليه أمره. فجلست قريبا منه بحيث أراه ولا يراني، فصارت الدراهم تتساقط عليه مع القطع والفلوس والخبز وغيره، فلم يزل كذلك إلى وقت القائلة حتى خفت الناس عنه الرائح والجائي، فلما رأى ذلك التفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا، فوثب مثل البعير المنشط إذا فك من عقاله، وجعل يخترق الأزقة والشوارع وأنا خلفه، إلى أن انتهى إلى زقاق غير نافذ أمام باب دار حسنة البنيان بمساطب وفانوس معلق، فرقي العتب وطرق الباب، ففتح له وهم بالعبور فأدركته وقلت: السلام عليك. فقال: وعليك السلام، من تكون؟ فقلت: ضيف. فقال: مرحبا بالضيف. ثم أخذ بيدي وقال: خير مقدم، ادخل. فدخلت قاعة واسعة فيها من البسط والفرش والمساند واللحف ما لا يوجد إلا عند الأكابر من أبناء الدنيا، فقال لي: اصعد. فصعدت على طراحة حسنة، وأما صاحبي فإنه رمى من رقبته مزودا فيه مقدار عشرة أرطال خبز، وفيه دراهم وفلوس شيء كثير، ثم شد وسطه بفوطة تساوي دينارين، وخلع ذلك الخلق، فقدمت له الجارية ماء سخينا وطشتا ليتغسل، ثم لبس بدلة قماش فاخرة، وشم ماء ورد ممسكا وتطيب، فرأيت له شعرا طويلا، وطلع فجلس إلى جانبي، وقال لي: والله هذا نهار مبارك برؤيتك. فقلت: بارك الله فيك وأعانك على ما أنت بصدده. ثم قال: يا حرير - وهو اسم جاريته - هاتي ما عندك برسم ضيفنا. فما أدري إلا والجارية قد أحضرت مائدة عليها أربع زبادي صيني، في كل واحدة لون فاخر طعام خاص وخبز خاص وبقل من جميع البقول، ثم أحضرت سكردانا عليه حريف ومالح وحامض، فصار يأكل ويلقمني ويؤانسني بالحديث، وأنا أعمل باليدين، إلى أن اكتفينا، وغسلنا أيدينا، فقال لي: إليك المعذرة، جئتنا على غير وعد، لكن الكريم يسامح. ثم تحدثنا ساعة، ونادى : يا حرير، هاتي لنا ما نتحلى به، فأحضرت أنواعا من الحلوى لم تحصل إلا عند الأغنياء الكبار، فأكلنا منها حسب الكفاية.
هذا وأنا في غاية التعجب ثم قلت له: لو فتحت لك دكان بزلكان - ويروى: بزاركان - لكان خيرا لك من هذه الحرفة التي تعانيها، فتبسم ثم قال لي: كم يكون مكسب التاجر كل يوم لو كان رأس ماله خمسة آلاف دينار؟ قلت: لعله يكسب نصف دينار. فقال: أنا يقع لي كل يوم خمسة عشر درهما وأكثر وأقل فائدة بغير رأس مال، فماذا أصنع بالدكان؟! مع أن التاجر لا يخلو من الخسارة في بعض الأوقات، وعليه كلف، أما أنا فربح بلا خسارة. فقلت له: ماذا تصنع بالخبز الذي يصل لك كل يوم؟ قال: نيبسه ونعمله فتيتا، فتجيء تجار أنطاكية يشترونه لسفر المراكب في البحر المالح، فيحصل لنا منه كل سنة مئونة أهل البيت وكسوتهم. فتعجبت من ذلك.
ثم قال لي بعد ذلك: وما تقول في الخمر؟ أتستعمل شيئا منها؟ قلت: أرضى بها وبكل ما ينتهي إليها. فنادى الجارية بإحضار المدام، فأحضرت سفرته وآنيته وأحضرت شرابا عتيقا لم أشرب منه إلا عند الأكابر والرؤساء، فشربنا ثم قال: يا حرير، خلي أختك تنزل فتطيب عيشنا. فنزلت جارية من أحسن ما يكون من الجواري ومعها عود، فلعبت به ساعة ثم ألقته وأخذت الجنك، فضربت عليه ساعة، ولم تزل تبدل الملاهي حتى انتصف الليل، فلما أردنا النوم قال: وا لك يا فلانة، افرشي لسيدك في المخدع الفلاني، وأوقدي له قنديلا، ثم أتتني بطشت ومنشفة فاغتسلت ثم نمت، ولم أزل نائما إلى بكرة النهار، فانتبهت، فإذا به قد دخل علي وقال لي: يا سيدي، الضيافة ثلاثة أيام، فلا تبرح من مكانك حتى أعود إليك، ثم قال للجارية: هاتي العدة. فأتته بذلك الخلق والمزود والعصابة فعصب رأسه، وخبأ شعره ولبس ذلك الخلق، ثم أتته بمخلاة فيها تراب، فجعل ينفض عليه حتى غبر وجهه وثيابه، ثم إنه ودعني وخرج.
ولم تزل الجارية تتفقدني بالشراب الطيب والطيبات من المآكل إلى وقت الظهر، فإذا به قد جاء وفعل كما فعل بالأمس، فأقمت عنده إلى يوم الجمعة، فقال للجارية: خذي سيدك إلى الحمام وقولي لفلان البلان: سيدي يسلم عليك ويقول لك: اخدم هذا الرجل. ثم قال لي: أريد منك أن لا تصلي اليوم إلا عند المنبر فإن لي في ذلك غرضا، ثم تعود بعد الصلاة إلى ها هنا. ثم لبس آلته وخرج.
فقامت الجارية وأخذت بساطا اقصرابيا (كذا) وطاسات نحاس وكفتا ومئزرا ملطيا ومناشف رومية في نهاية الحسن، مبخرة مطبقة، وعبت آلة الحمام كما ينبغي، وراحت بها إلى الحمام، ثم عادت إلي وقالت لي: بسم الله، يا سيدي، أسرع فإن البلان في انتظارك. فقمت إلى الحمام وخلعت قماشي، ودخلت والبلان قدامي إلى المقصورة، فخدمني أحسن خدمة، ثم جاءني بالمناشف فتنشفت، وخرج خلفي بالطاسة، فصعدت وجلست، وصب الماء على رجلي، ثم جاءتني الجارية بقدح شراب فشربته، ورجعت إلى الدار والجارية قدامي، ثم جاءتني بمسلوق فأكلت.
فلما جاء وقت الصلاة قالت لي الجارية: بسم الله إلى الجامع. ثم حملت معي سجادتي، وخرجنا إلى الجامع، فبسطت سجادتي تحت المنبر كما قال لي صاحبي، وفي أثناء ذلك أذن المؤذن وخرج الخطيب ورقي المنبر، فلم أشعر إلا وصاحبي قد أقبل يخرق الصفوف، وهو بذلك الخلق، ثم صعد إلى الخطيب على المنبر وأخرج من عبه كيسا من الحرير الأطلس المعدني، فقال للخطيب: يا سيدي، أنا رجل فقير ولي عائلة، ووالله، لنا يومان ما أكلنا شيئا وقد مضنا الفقر. فلما كان اليوم قالت لي العائلة: اليوم يوم الجمعة، قم إلى الجامع لعل الله يفتح لك بشيء فقد هلكنا من الجوع. فخرجت طالبا الجامع وأنا في الشارع الفلاني وقد تضورت من الجوع إذ عثرت رجلي بهذا الكيس ولا أعلم ما فيه، فسولت لي نفسي أن آخذه وأرجع إلى منزلي فقلت: يا نفس، يا ملعونة، تريدين أن تجرئيني على أكل الحرام، والله لا وافقتك في ذلك أبدا ولو مت جوعا، وما عند الله خير وأبقى، وقد حملته إليك فافعل به ما ترى.
ثم دفع الكيس للخطيب ففتحه، وإذا فيه حلي تساوي خمسمائة دينار، فتعجب الخطيب من أمانته مع ما هو فيه من الفقر والحاجة، ثم أشار إلى الناس وقال: يا قوم، هل يكون في الوجود مثل هذا في دينه وأمانته وعفته مع فقره! فكيف يكون لو كان غنيا غير محتاج، فوالله مثل هذا لا يصلح أن يكون فقيرا بين ظهور المسلمين، فالواجب على كل مسلم إعانته وبره، فليعطه كل واحد منكم شيئا، وأغنوا فقره، كل على قدره، فصارت الدراهم وقطع الذهب تنهال عليه من كل جهة إلى أن قدرت أنه حصل له مائتا دينار. هذا وأنا ألومه في نفسي وأقول: قد حصل له شيء يساوي ألف دينار فباعه بهذا القدر!
فلما انقضت الصلاة ونحن في السنة سمعت الضجة قد قامت في الجامع، فنظرت وإذا بامرأة عجوز، وهي تصيح وتقول: يا مسلمون، والله ما أملك قوتي في هذا اليوم، وقد ضاع لي حلي حملته من ناس إلى ناس فوقع مني. فبلغني أنه وصل إلى الخطيب، وأنا مستجيرة بالله - تعالى - وبه، فجعل الناس يقولون لها: طيبي خاطرك، فقد رده الله إليك. ولم تزل تخترق الصفوف حتى وصلت إلى الخطيب، فخرت مغشيا عليها، ثم أفاقت فقالت: يا مولاي، العفو لا تؤاخذني، وارحمني لله - تعالى. فقال لها الخطيب: على مهلك، ما الذي عدم منك؟ فقالت: كيس صفته كذا، وشرابته كذا، وفيه كيت وكيت من الحلي، وكذا قطعة بلخش، وأسورة كذا، وخواتم كذا. ولم تزل تعدد الأعيان التي ضمنه بحضور الملأ وقدام جماعة من العدول، وكلما ذكرت شيئا أخرجه الخطيب، إلى أن وصفت جميع ما فيه، وصح ما قالت، فسلم إليها الكيس، فأخذته وانصرفت، والخلق يدعون لصاحبي ويتعجبون من دينه وأمانته.
ثم إني جئت إلى الدار كما أوصاني، فوجدته جالسا يزن ما تحصل له، وإذا به مقدار ما قدرته في خاطري، فلما دخلت وجلست قال لي: هل رأيت ما فعلت اليوم؟ قلت: نعم، وأنا ألومك على ذلك. قال: لم؟ قلت: لأنه كان قد حصل لك شيء يساوي خمسمائة دينار فبدلته بهذا القدر. فقال: هل تعرف الكيس والمرأة التي أخذته؟ قلت: إذا أبصرتهما عرفتهما. فقال: يا حرير، خلي العجوز تجيء بالكيس. فنزلت والكيس في يدها. فقال: هذا الكيس، وهذه العجوز حماتي، والحلي لابنتها، وأنا الذي سيرتها بهذه الحيلة، فلو أقمت طول النهار كم كان يحصل لي؟ فلما أن وعيت ذلك تعجبت منه كل العجب، ثم انصرفت من عنده، وأنا ألعن صنعة المحتالين ومكايدهم.
الدمشقي المغفل (قال): ومن ذلك أني رأيت بمدينة دمشق رجلا نصرانيا يعرف بابن ميسرة صائغا، فبينما هو يوما في الدكان إذ أتى إليه رجل وناوله سبيكة فضة مقدارها ثلاثمائة درهم وقال له: ادفع هذه السبيكة للدلالين ليبيعوها لي. فقال الصائغ: على الحمى تبيع؟ قال: وعلى الروباص. فأعطاها لمناد فباعها المائة بمائة وعشرة. هذا وقد أقعده الصائغ على الدكان إلى جانبه، فلما قبض الثمن دفع للمنادي أجرة وافرة، ثم رمى بخمسة دراهم وقال للصائغ: أرسل أحد صبيانك؛ ليشتري لنا شيئا نتملح به. وحلف بالحرم إنه لا بد أن يفعل ذلك. فأرسل من اشترى، وأكلوا، ثم جلسا ساعة يتحدثان، ثم قام ونزل من الدكان وقد وضع تحت نطع الصائغ عشرة دراهم.
ثم إنه عاد بعد مدة، وصعد فجلس على دكان الصائغ ففرح به وتحدثا ساعة، ثم أطلع سبيكة أكبر من الأولى، فدفعها للمنادي، فجاءت المائة بمائة وخمسة عشر، فالتفت إلى الصائغ وقال له: إن كان لك بها حاجة فخذها وزنا بوزن. فأخذها ثم عمل كالمرة الأولى فمنعه عن ذلك وقال: يا فلان، أيش تخاف علي؟ هذه المائة تقوم علي بدرهم أو درهم ونصف فما عسى أن يروح منها؟ فلما سمع الصائغ عظم الشيخ في نفسه. ثم انصرف وغاب أياما، ثم جاء ولم يصحب معه سبيكة، فسلم وصعد وجلسا يتحدثان، وصار كلما مر شيء من الحلوى أو من المآكل قال: حط، زن. فيشتري ويأكل هو والصائغ وكل من في الدكان والجيران، وأقام أياما يتردد، ولم يصحب معه شيئا من السبائك، فسأله الصائغ عن سبب تأخير السبائك ، فقال: والله، كنت قد عملت إكسيرا ففرغ. فلما سمع الصائغ ارتبط ثم تحدث معه ساعة، فقال له الصائغ: أشتهي أن تأكل معي في بيتي خبزا وملحا لتجبر قلبي. فقال: أنا ما أريد أن أكلفك. فأقسم عليه، فقال: إن كان لا بد منه فهذه عشرون درهما، اعمل لنا بها شيئا نأكله، والتزم بالحرام إنه لا بد من ذلك. ثم تواعدا إلى يوم معلوم.
فلما كان ذلك اليوم، جاء الرجل إلى الدكان فوجد ابن الصائغ ينتظره فأخذه وتوجه به إلى الدار، فلما استقر بهما الجلوس قدم الصائغ شيئا فأكلاه، ثم أحضر حلوى فتحليا، ثم جلسا يتحدثان، فقال الصائغ: لم لا تعمل الإكسير؟ فقال: يا ولدي، إن عندي الساعة ما أنفقه فلست أنا محتاجا إلى عمله. ثم لم أجد في هذه البلدة مكانا ولا صاحبا أركن إليه، وأنا وحدي لا أقدر أن أدبر شيئا. فقال له الصائغ: يا سيدي هذه القاعة ملكي، وما لي فيها أهل، وإنما هي برسم صاحب أو صديق، فأخليها لك، وأنا أخدمك وابني يكون في الدكان، ومهما احتجت إليه أنا أحضره لك. فقال: «أما الإكسير فما نصرف عليه أكثر من عشرة دراهم، وإذا صار الإكسير نعمل منه قناطير إلا أنه يريد تعبا كثيرا وطول روح، وأنا اليوم ما لي همة للعمل، وعندي ما أنفقه عشرين سنة.» وصار يمتنع وصاحب البيت يسأله ويتضرع إليه ويحلف عليه أن يبيت عنده تلك الليلة، ولم يزل ملحا عليه حتى رضي وتقرر الحال معه، ثم تحالفا على وفاء العهد، وزاد الصائغ أنه يقنع من الإكسير باليسير، فقال له الشيخ: بل إنما أقنع منه بمثقال، وخذ أنت الباقي. ففرح الصائغ بكلامه، وطمع أن يتعلم الإكسير، ثم توافقا على يوم معلوم وتفرقا.
ولما كان اليوم الموعود، اشترى الشيخ الحوائج، ولم يكلف الصائغ بشيء، فلما سحق من الحوائج ما يمكن سحقه منها ونقع ما ينقع، قال للصائغ: أتريد أن تعمل إكسير ذهب أو فضة؟ قال: من هذا شيئا ومن هذا شيئا. فقال: اقسم هذه الحوائج نصفين، ثم هات ما أمكنك من الفضة والذهب حتى ننقعهما في الماء أسبوعا ثم نسقي بهما هذه الأدوية. فأحضر له الصائغ ستمائة دينار ذهبا وألفا وخمسمائة درهم فضة، ووضع ذلك بين يديه، فصر ذلك في صرتين ووضعهما في إنائين وسكب عليهما ماء، ثم أقاموا سبعة أيام يخدمون تلك الحوائج، ثم قال للنصراني: اطلع إلى جبل المزة، اجمع لنا من الحصا الذي يعرف ببزاق القمر مقدار رطل واحد، فقام الصائغ وتوجه إلى الجبل، وعمد الرجل إلى الصرتين، فأخذ ما كان فيهما ووضع في إحداهما فلوسا ونحاسا وفي الأخرى رصاصا، فلما جاء الصائغ بالذي طلب منه قال له: هذا يريد يتكلس في أتون الزجاج ليلة كاملة ثم يخدم نصفه بماء الذهب ونصفه بماء الفضة، فإذا تكلس اقسمه ثم اخدمه، وخرج لصلاة الجمعة فاستقبل الدرب ولم يطلع له خبر.
فأقام الصائغ ينتظره مدة ولم يفتح صرة الذهب ولا الفضة، فقال له ابنه: لا يكون أخذ الذهب والفضة وراح. فقال الصائغ: ما أجهلك وحق المسيح، إنه يقدر أن يجمع خزائن أموال فكيف هو محتاج إلى ذهبنا! فقال له ابنه: كن عاقلا وافتقد الذهب وخل عنك الطمع. فلم يفعل، وقال: أنت قصدك أن تفسد علينا الشغل. فعاوده ابنه في ذلك فلم يفعل، فقام ابنه خفية وفتح صرة الذهب فوجدها فلوسا وكذلك الفضة رصاصا، فلطما الرءوس حتى ذهبت منهما النفوس. فانظر إلى هذا الدهاء والمكر.
العجمي والملك العادل نور الدين
ومن أعظم ما وقفت عليه، وأظرف ما جرى للسلطان الملك العادل نور الدين بن زنكي - رحمه الله - وهو حديث يصلح أن يكتب بماء الذهب، وذلك أن بعض الأعاجم جاء إلى دمشق، فأخذ ألف دينار مصرية فبردها برادة ناعمة، ثم أخذ دق الفحم وأضاف إليه عقاقير مجمعة، وطحن الجميع وعجنه بغراء السمك، ثم جعله بنادق وجففها تجفيفا ناعما، ثم لبس دلقا وتزيا بزي الفقراء، وجعل تلك البنادق في مخلاة، ثم أتى إلى بعض العطارين فقال له: أتشتري مني هذا؟ فقال له العطار: ولأي شيء ينفع هذا؟، قال: ينفع من السموم القاتلة، ويدخل بجميع الأدوية التي تنفع للأخلاط، وله نفع عظيم غير هذا، ولولا أني قد أدركني الحج وما أقدر على حمله ما بعته، فإنه يساوي الذهب وزنا بوزن عند من يعرفه، فقال العطار: وبكم هو؟ فقال: بعشرة دراهم. فاتفقا على خمسة دراهم، فأخذ العجمي الدراهم، وجعل العطار الطبرمك
1
الخراساني في علبة عتيقة. فانظر إلى هذا الرجل ما أجسره؛ باع ألف دينار بخمسة دراهم، لقد قالوا في المثل: من خاطر بنفيس ظفر بنفيس.
فلما انفصل من عند العطار جاء إلى منزله، ولبس أحسن ما يكون من ملابس الوزراء والملوك، وجعل خلفه مملوكا، واكترى دارا حسنة تصلح للوزراء، وصار يخرج إلى الجامع، ويتعرف بالأكابر من أهل البلد، ويعمل السماعات ويصرف جملة في كل ليلة، ويدعي الوصول في علم الصناعة - أي الكيميا - وأنه يقدر يعمل في يوم واحد جملة من المال.
وشاع ذلك عنه في دمشق، فسأله الكبراء أن يعمل عندهم فامتنع، وقال: «ما أنا محتاج إلى أحد؛ فإني في يوم واحد أعمل بمقدار نعمة من يريد أن أعمل عنده، فإن كان لأجل ملك أو بستان فأنا أقدر أشتري عشرة بساتين ومثلها دورا، وإن كان لأجل جاه فأنا ما أعمل شيئا علي دركه فإن الذي أعمله ما فيه غش ولا زغل حتى أطلب فيه جاه أحد، هذه صنعة إلهية، وقد آليت على نفسي أن لا أعمل بها إلا لملك بعد أن يعاهدني أنه لا ينفق منه شيئا إلا في سبيل الله، فإن حصل هذا الشرط عملت، وإلا فلا سبيل لعمل شيء على غير هذا الوجه.»
فلما سمع الوزير ذلك قال: والله، هذه سعادة للمسلمين وللسلطان، والآن هذه البلاد كلها للفرنج إلى بانياس، وكل يوم تصل الغارات إلى ديارنا - ويروى: إلى داريا - فإذا عمل شيئا نفتح به البلاد فهذه نعمة عظيمة. ثم قال للرجل: أعرف السلطان بالأمر؟ قال: نعم، لكني أريد أن لا تجمع بيني وبينه إلا بعد أن تستوثق منه باليمين، فقال: نعم.
ثم ركب الوزير من الغد إلى الخدمة فخلا بالسلطان ، وعرفه بأمر العجمي، فقال : والله، إن لي أياما أفكر في شيء يكون فيه قلع هؤلاء الملاعين من هذه البلاد، ثم رسم للوزير بإحضاره في غاية الكرامة، فأحضر له بغلة خاصة، ثم دخل على السلطان وقبل الأرض لدى الحضرة الشريفة، فأجلسه السلطان وأكرمه وحادثه، ثم قال له: أصحيح ما قال الوزير عنك؟ فقال: نعم يا مولانا السلطان، لكن على الشرط الذي تقرر مع الوزير. فقال السلطان: قبلنا بالشرط. ثم قال العجمي: يا مولانا، إن جميع من يدعون الصناعة كذابون دكاكون، وأنا شرطي معكم أني لا أمس شيئا بيدي بل أكون بعيدا وأقول: افعلوا كذا وكذا، ومولانا السلطان يفعل بيده أو يأمر من يفعل بحضوره. فقال السلطان: رضينا أيضا بهذا الشرط.
فأخذ العجمي ورقة، وكتب فيها أسماء الحوائج، وذكر أجزاء من عقاقير شتى، ثم قال: ومن الطبرمك الخراساني مائة مثقال. ثم دفع الورقة إلى استدار السلطان، فقال السلطان للوزير: أحضر هذه الحوائج. فأحضر الوزير جميع الحوائج وعجز عن الطبرمك الخراساني فلم يجده، فقال: إنه ما يوجد إلا في البيمارستان. فقال السلطان: اطلبوه من البيمارستان والحكماء. فطلبوه فلم يجدوه، فقال السلطان للعجمي: أليس شيء يغني عن الطبرمك؟ قال: لا، ولكن ما أظن أن دمشق تخلو من هذا العقار، والذي أراه أن مولانا يرسم للمحتسب أن يركب في الغد والمملوك في خدمته ومعنا شاهدان من العدول وندور على دكاكين العطارين الذين بالمدينة فنفتشها دكانا دكانا، فلعلنا نجد عند أحد شيئا منه. فقال: الوزير: رأي مليح حسن. وكان المحتسب يقال له القائد، فأرسلوا إلى القائد أن يفعل ذلك.
فلما كان الغد ركب الوزير والعجمي والقائد والعدول، وسبروا الدكاكين دكانا دكانا حتى انتهوا إلى دكان العطار الذي باعه العجمي الطبرمك، فجعل صاحب الدكان يقدم لهم برنية بعد برنية حتى أتاهم بالبرنية التي فيها الدكة التي باعها من العجمي وسماه بالطبرمك الخراساني، فلما رآها العجمي تهلل وجهه بالفرح، واشتراها منه بشيء يسير، ثم قال العجمي: اختموا على هذه البرنية بختمكم، وابعثوا بها إلى السلطان. ثم جاءوا إلى السلطان، فقال الأعجمي: أريد من الآلات كذا وكذا. فأحضر له جميع ما أراد من الآلات، ثم جلس السلطان وحده في صفة، وجلس العجمي ناحية ثم قال: يا مولانا السلطان، زن من العقار الفلاني كذا وكذا، ومن الشيء الفلاني كذا. ثم قال: ومن الطبرمك مائة مثقال. ولا زال يقول افعلوا كذا واصنعوا كذا مدة أيام إلى أن قال للسلطان: إن الإكسير قد انتهى شغله، فأحضروا لنا بودقة وفحما ومنفاخا. فأحضروا له ذلك، ثم قال للسلطان: حط بيدك هذه الحوائج، فأخذ السلطان يعبي في البودقة من ذلك الدواء، وصار العجمي ينفخ النار إلى أن دار الذهب، فقال للسلطان: اقلب على بركة الله - تعالى. فقلب، فنزلت سبيكة ذهب مصري لا يكون أحسن منها شيء، ولا زال يقلب سبيكة بعد سبيكة حتى فرغ الدواء، ثم اعتبروا ذلك فوجدوه ألف دينار، ففرح السلطان بذلك فرحا شديدا، وأكرم العجمي إكراما زائدا.
ثم قال السلطان: أما تعمل لنا من هذا شيئا آخر؟ فقال: السمع والطاعة، أحضر لي من هذه العقاقير، وأنا أعمل ما أراد مولانا السلطان. فطلبوا الطبرمك فلم يجدوه، فسأل السلطان عنه العجمي فقال: «إنه نبات ينبت بأراضي خراسان - ويروى أنه معدن في الجبل في مغارة - وهو رخيص الثمن جدا، فإذا رسم مولانا السلطان أن يحمل له ألف حمل وجد ذلك، وأنا دخلت إليها وحملت من ذلك شيئا كثيرا، وعندي في داري نحو قنطار.» فلما سمع السلطان قال: والله ما نجد من يروح يحضر لنا من هذا العقار أخبر منك، وإن تعذر تحصيل ذلك من منابته ومظانه حضرت لنا الذي عندك، وأنا أكتب معك إلى سلطان خراسان بمساعدتك، ومنع من يتعرض إليك. فتمنع العجمي، وقال: إن رأى مولانا السلطان أن يبعث غيري فليفعل؛ فإن نفسي قد طابت في دمشق وفي خدمة الحضرة الشريفة. فقال: لا بد من رواحك فإن لك في ذلك أجرا عظيما. ولم يزل يسأله حتى أنعم بالسفر، فجهزه بستين حمل قماش منها شرب - أي كتان - عمل تنيس ودمياط، ومنها عمل الإسكندرية، وغير ذلك ، وأعطاه خيما ومطبخا وفراشين ونفقة إلى بغداد، وأوصاه إذا وصل إليها أن يبيع ما معه ويتسفر إلى العجم، وكتب معه كتبا إلى سائر البلاد بالكرامة والخدمة، وراح في نهاية ما يكون من التعظيم، وخرج معه السلطان وجميع أرباب الدولة فودعوه، وسافر وقد ظفر بالإكسير الأعظم، ولم يطلع من بعدها له خبر. فانظر إلى مكر هؤلاء القوم، وكيف يتوصلون إلى أخذ أموال الناس بالحيل. أبعدنا الله وإياكم عنهم وعن هذه الأفعال، وأجارنا الله وإياكم من الفتن والأحوال.
ومن أظرف ما في هذه القصة، أنه كان بمدينة دمشق رجل يكتب أسماء المغفلين والمحارفين، فسمع بهذه القضية وعلم باطنها، فلما تحققها كتب على رأس جريدته: «نور الدين محمود بن زنكي رأس المحارفين.» فشاع ذلك في دمشق، ولم يعلم أحد باطن الأمر إلا أنهم يقولون إن فلانا كتب عن السلطان كيت وكيت، فاتصل خبره بالسلطان فقال: وما حمله على أن يكتب اسمي مع المغفلين؟! هاتوه. فنزلت الجنادرة وقالوا له: كلم مولانا السلطان. فأخذ الجريدة في كمه ومشى معهم، فلما وقف قدام السلطان قال له: أنت فلان؟ قال: نعم. قال: وأنت تكتب أسماء المحارفين؟ قال: نعم. قال: وكتبتني في جريدتك؟ قال: نعم وهذا اسمك. ثم أخرج الجريدة فأراه اسمه فيها، فقال السلطان: وما الذي رأيت من حرافي حتى كتبتني؟ فقال: كيف لا أكتبك وقد جاء رجل نصاب، غشك ودك عليك ألف دينار أخذ بها أموال المسلمين، وراح ليجيء لك بالطبرمك؛ فهل يكون حراف أبلغ من ذلك. فلما سمع السلطان كلامه قال له: كأنا به وقد جاء ومعه الطبرمك فيعمل منه أموالا لا تحصى. فقال: يا مولانا السلطان، إن جاء محوت اسمك وكتبت اسمه. فضحك السلطان ورسم له بنفقة وراح، فكان كلما أفلس أخذ الجريدة ووقف على باب القلعة، فإذا ركب السلطان فتح الجريدة، فيقول: ما جاء العجمي وهذا اسم مولانا السلطان. فيضحك السلطان ويرسم له بشيء، فيأخذه ويروح، وأقام على ذلك مدة حياة السلطان، وما جاء الطبرمك!
قصة الصيرفي الهندي المحتال
ومن أعجب ما جرى لي في البلاد الهندية ، أني رأيت هناك رجلا صيرفيا يدعى عفيف الدين، كان عليه من الحشمة أمر عظيم، وجميع التجار ترد عليه، وتودعه أموالها وتستدين منه، فترقبت حركاته وسكناته، فرأيت أنه صنع شيئا لم يسبق إليه، وذلك أنه اتخذ خاتما بفص عليه نقش، فداومت الجلوس عنده، وأطلت النظر إلى ذلك الخاتم، فرأيته إذا قبض الذهب من التاجر جعل فص الخاتم من وراء لسان الميزان من جهة الصنج، وإذا دفع إلى التاجر ذهبه حول الخاتم إلى قدام اللسان، واللسان يلعب لعبا زائدا كلما قرب الخاتم إليه، فعلمت أن في الخاتم شيئا من الدك، ولم أزل أذكر ذلك وأتعجب منه وأفكر فيه، فلم يظهر لي وجه الحق، حتى كان يوم من الأيام وأنا عنده إذ تطاير شيء من فص الخاتم، فنظرته فإذا هو من حجر المغناطيس، فقلت: هذا دك لم يسبق إليه. فإن الصيرفي كان إذا قبض الذهب أدار الخاتم إلى ناحية الصنج؛ فيأخذ لسان الميزان إليه ويمنعه من الزوال بمقدار ما يحب من جذب الحجر، فيكون في الوزنة زيادة مثقال وأكثر، فلما علمت ذلك خلوت بالرجل وقلت له: «والله قد درت البلاد وكشفت أسرار الناس فلم أجد أحدا سبقك إلى هذا يا عفيف الدين، ولكن بئس العفيف أنت.» فلما علم أني كشفت سره خجل وخاف، وقال لي: سيدي، الحر من ستر عيوب الناس، ومن شيم الكرام كتمان السر، وإن لهذا الخاتم في يدي منذ خمس وعشرين سنة وما علم سره غيرك، فها هو مني هبة إليك. فقلت: لا أطلع عليه أحدا في هذا الإقليم. وتمثلت بقول الحريري (في مقامته السمرقندية): «فنزلته منزلة الفضيل، وسدلت الذيل على مخازي الليل.» فعند ذلك تهلل وجهه فرحا، ومال إلى صندوق فأخرج منه صرة، وقال لي: يا سيدي، أشتهي أن تقبل مني هذه النفقة تستعين بها في هذا الوقت، وقسم بالله أن لا بد من ذلك، فأخذتها على وجه الهدية. ولما رجعت إلى منزلي فحصت الصرة فإذا فيها خمسون مثقالا - ويروى: خمسون دينارا مسعوديا - وصرت أتردد إليه، وبقيت عنده أعز من أصحابه، وعرفني بكبار البلد، فصرت كواحد منهم.
نخبة من كتاب فضائل الكلاب
لأبي بكر علي بن المرزبان المتوفى سنة (369ه/979م)
بئر الكلب
أنشد أبو عبيدة لبعض الشعراء:
يعرج عنه جاره وشقيقه
وينبش عنه كلبه وهو ضاربه
قال أبو عبيدة: قيل هذا الشعر في رجل من أهل البصرة خرج إلى الجبان ينظر ركابه، فتبعه كلب له فضربه وطرده وكره أن يتبعه فرماه بحجر فأدماه، فأبى الكلب إلا أن يتبعه، فلما صار إلى الموضع وثب به قوم كانت له عندهم طائلة، وكان معه جار له وأخ فهربا عنه وتركاه وأسلماه، فجرح جراحات كثيرة ورمياه في بئر وحثي عليه التراب حتى واروه، ولم يشكوا في قلوبهم أنه قد مات، والكلب مع هذا يهر عليهم وهم يرجمونه، فلما انصرفوا أتى الكلب إلى رأس البئر، فلم يزل يعوي، ويبحث في التراب بمخالبه حتى ظهر رأسه، وفيه نفس يتردد، وقد كان أشرف على التلف، ولم يبق فيه إلا حشاشة نفسه ووصل إليه. فبينما هو كذلك إذ مر أناس فأنكروا مكان الكلب، ورأوه كأنه يحفر قبرا، فجاءوا، وإذا هم بالرجل على تلك الحال فاستخرجوه حيا، وحملوه إلى أهله، فزعم أبو عبيدة أن ذلك الموضع يدعى بئر الكلب، وهذا الأمر يدل على وفاء طبيعي وإلف غريزي ومحاماة شديدة، وعلى معرفة وصبر وكرم وغناء عجيب ومنفعة تفوق المنافع.
الكلب والسلطان
حدث عبيد الله بن محمد الكاتب؛ قال: مر رجل على بعض السلاطين، وكان معه عامل أرمينية منصرفا إلى منزله، فمر في طريقه بمقبرة، وإذا قبر عليه قبة مبنية مكتوب عليها: هذا قبر الكلب، فمن أحب أن يعلم خبره فليمض إلى قرية كذا وكذا؛ فإن فيها من يخبره. فسأل الرجل عن القرية، فدلوه عليها، فقصدها، وسأل أهلها فدلوه على شيخ، فبعث إليه وأحضره، وإذا شيخ قد جاز المائة سنة فسأله، فقال: نعم، كان في الناحية ملك عظيم الشأن، وكان مشتهرا بالنزهة والصيد والسفر، وكان له كلب قد رباه وسماه باسم، لا يفارقه حيث كان ، فإذا كان في وقت غدائه وعشائه أطعمه مما يأكل، فخرج يوما إلى بعض متنزهاته، وقال لبعض غلمانه: قل للطباخ يطبخ لنا ثردة لبن فقد اشتهيتها فأصلحوها، فمضى إلى متنزهه، فوجه الطباخ، فجاء بلبن وصنع له ثردة عظيمة، ونسي أن يغطيها بشيء، واشتغل بطبيخ أشياء أخر، فخرج من بعض شقوق الحيطان أفعى فكرع في ذلك اللبن، ومج في الثردة من سمه، والكلب رابض يرى ذلك كله، ولو كان له في الأفعى حيلة لمنعه، ولكن لا حيلة للكلب في الأفعى، وكان عند الملك جارية خرساء زمنة قد رأت ما صنع الأفعى، وأوفى الملك من الصيد في آخر النهار، فقال: يا غلمان، أول ما تقدمون لي الثردة. فلما وضعت بين يديه أومأت الخرساء إليه، فلم يفهم ما تقول، ونبح الكلب وصاح، فلم يلتفت إليه، ولج في الصياح، فلم يعلم مراده، ثم رمى إليه بما كان يرمى إليه في كل يوم، فلم يقتربه ولج في الصياح، فقال للغلمان: نحوه عنا فإن له قصة. ومد يده إلى اللبن، فلما رآه الكلب يريد أن يأكل طفر إلى وسط المائدة، وأدخل فمه في الغضارة، وكرع من اللبن فسقط ميتا وتناثر لحمه، وبقي الملك متعجبا منه ومن فعله، فأومأت الخرساء إليهم فعرفوا مرادها بما صنع الكلب، فقال الملك لندمائه وحاشيته: إن شيئا فداني بنفسه لحقيق بالمكافأة، وما يحمله ويدفنه غيري. ودفنه بين أبيه وأمه، وبنى عليه قبة، وكتب عليها ما قرأت. فهذا ما كان من خبره.
الطفل الرضيع وخلاصه على يد كلبة
ذكر أبو عبد الله بن أبي عبيدة النحوي وهو حديث مشهور: أن الطاعون الجارف أتى على أهل دار، فلم يشك أحد من أهل المحلة أنه لم يبق فيها صغير ولا كبير. وقد كان بقي في الدار صبي يرضع، يحبو ولا يقوم، فعمد من بقي من أهل تلك المحلة إلى باب الدار فسدوه، فلما كان بعد ذلك بأشهر تحول إليها بعض ورثة القوم، ففتح الباب، فلما أفضى إلى عرصة الدار إذا هو بصبي يلعب مع جري كلبة كانت لأصحاب الدار، فلما رآها الصبي حبا إليها فأمكنته من لبنها، فعلموا أن الصبي بقي في الدار وصار منسيا، واشتد جوعه ورأى جراء الكلبة ترضع فعطف عليها، فلما سقته مرة أدامت له، وأدام هو الطلب.
الأسير والكلب
حدث محمد بن حسين الشداد قال: ولاني القسم خلافة أحمد بن ميمون بشايرزان، فقصدت علي بن أحمد الراسبي إلى دور الراسبي، فنزلت في بعض منازلها، فوجدت في جواري جنديا من أصحابه يعرف بنسيم كان برسم لطيف غلامه، وإذا كلب يخرج بخروجه ويدخل بدخوله، وإذا جلس على باب قربه وغطاه بدواج كان عليه، فسألت الراسبي عن محل الغلام، وكيف يقنع الأمير منه بدخول الكلب عليه، ويرضى منه بذلك، وليس بكلب صيد زئتي، قال الوليد: سله عن حديثه، فإنه يخبرك بشأنه. فأحضرت الغلام فسألته عن السبب الذي استحق هذه المنزلة منه، فقال: هذا خلصني بعد الله - عز وجل - من أمر عظيم. فاستبشعت هذا القول وأنكرته عليه، فقال لي: اسمع حديثه فإنك تعذرني: كان يصحبني رجل من أهل البصرة يقال له محمد بن بكر لا يفارقني، ويؤاكلني ويعاشرني على النبيذ وغيره منذ سنين، فخرجنا نقاتل أهل الدينور، فلما رجعنا وقربنا من منزلنا كان في وسطي هميان فيه جملة دنانير، ومعي متاع كثير أفدته من الغنيمة قد وقف عليه بأسره، فنزلنا في موضع فأكلنا وشربنا، فلما عمل الشراب في عمد إلي فشد يدي إلى رجلي، وأوثقني كتافا ورمى بي في واد، وأخذ كل ما كان معي، وتركني ومضى، وأيست من الحياة، وقعد هذا الكلب معي، ثم تركني ومضى، فما كان بأسرع من أن وافاني ومعه رغيف فطرحه بين يدي فأكلته، ولم أزل أحبو إلى موضع فيه فشربت، ولم يزل الكلب معي باقي ليلتي يعوي إلى أن أصبحت فحملتني عيني، وفقدت الكلب، فما كان أسرع من أن وافاني ومعه رغيف أكلته، وفعلت فعلي في اليوم الأول. فلما كان في اليوم الثالث غاب عني، فقلت: مضى يجيئني بالرغيف. فلم ألبث أن جاء ومعه الرغيف، فرمى به إلي فلم أستتم أكله إلا وابني على رأسي يبكي ، وقال: ما تصنع ها هنا، وأيش قصتك؟ ونزل فحل كتافي وأخرجني، فقلت له: من أين علمت بمكاني، ومن دلك علي؟ قال: كان الكلب يأتينا في كل يوم فنطرح له رغيفا على رسمه فلا يأكله، وقد كان معك فأنكرنا رجوعه وليس أنت معه، فكان يحمل الرغيف في فيه ولا يذوقه ويخرج يعدو، فأنكرنا أمره، فاتبعته حتى وقفت عليك. فهذا ما كان من خبري وخبر الكلب، فهو عندي أعظم مقدارا من الأهل والقرابة. قال: ورأيت أثر الكتاف في يديه قد أثر أثرا قبيحا.
حديث اللص التائب مع كلب العجوز
وحدثني لص تائب قال: دخلت مدينة (قد ذكرها لي)، فجعلت أطلب شيئا أسرقه فلم أصب، فوقعت عيني على صيرفي موسر، فما زلت أحتال حتى سرقت كيسا له، وانسللت فما جزت غير بعيد، وإذا بعجوز معها كلب قد وقعت في صدري تبوسني وتلزمني، وتقول: يا بني، فديتك. والكلب يبصبص بي ويلوذ بي، ووقف الناس ينظرون إلينا، وجعلت المرأة تقول: بالله، انظروا إلى الكلب كيف قد عرفه! فعجب الناس من ذلك، وتشككت أنا في نفسي، وقلت: لعلها أرضعتني وأنا لا أعرفها. وقالت: «هلم» معي إلى البيت أقم عندي. فلم تفارقني حتى مضيت معها إلى بيتها، وإذا عندها جماعة أحداث يشربون، وبين أيديهم من جميع الفواكه والرياحين، فرحبوا بي وقربوني وأجلسوني معهم، ورأيت لهم بزة حسنة وضعت عيني عليها، فجعلت أسقيهم ويشربون وأرفق بنفسي إلى أن ناموا ونام كل من في الدار، فقمت وكورت ما عندهم وذهبت أخرج، فوثب علي الكلب وثبة الأسد، وصاح وجعل يتراجع وينبح إلى أن أنبه كل نائم، فخجلت واستحييت، ولما كان النهار فعلوا مثل فعلهم أمس، وفعلت أيضا أنا بهم مثل ذلك، وجعلت أوقع الحيلة في أمر الكلب إلى الليل فما أمكنتني فيه حيلة، فلما ناموا رمت الذي رمته، فإذا الكلب قد عارضني بمثل ما عارضني به، فجعلت أحتال ثلاث ليالي، فلما أيست طلبت الخلاص منهم بإذنهم وقلت: أتأذنون - أعزكم الله - فإني على وفاء؟ فقالوا : الأمر إلى العجوز. فاستأذنت، فقالت: هات ما معك الذي أخذته من الصيرفي وامض حيث شئت، ولا تقم في هذه المدينة، فإنه لا يتهيأ لأحد يعمل فيها لأحد معي عملا. فأخذت الكيس وأخرجتني، ووجدت أنا أيضا مناي أن أسلم من يدها، فكان قصاراي أن أطلب منها نفقة فدفعت إلي، وخرجت معي حتى أخرجتني عن المدينة، والكلب معها، حتى جزت حدود المدينة ووقفت ومضيت والكلب يتبعني حتى بعدت، ثم تراجع ينظر إلي وأنا أنظر إليه حتى غاب عني.
الكلب والأسود (الأفعى)
حدثني بعض أصدقائي قال: خرجت ليلة وأنا سكران، فقصدت بعض البساتين لأمر من الأمور ومعي كلبان لي كنت ربيتهما، ومعي عصا، فحملتني عيني، فإذا الكلبان ينبحان ويصيحان، فانتبهت بصياحهما فلم أر شيئا أنكره، فضربتهما وطردتهما ونمت، ثم عاودا الصياح والنباح فأنبهاني، فوثبت وطردتهما، فما حسست إلا وقد سقطا علي يحركاني بأيديهما وأرجلهما كما يحرك اليقظان النائم لأمر هائل، فوثبت فإذا بأسود سالخ قد قرب مني فوثبت إليه وقتلته، ثم انصرفت إلى منزلي؛ فكان الكلبان - بعد الله عز وجل - سبب خلاصي.
قتيل أمانته
وحدثني صديق لي أنه كان له صديق ماتت امرأته وخلفت صبيا، وكان له كلب قد رباه، فترك يوما ولده في الدار مع الكلب، وخرج لبعض الحوائج، وعاد بعد ساعة، فرأى الكلب في الدهليز وهو ملوث بالدم ووجهه وبوزه كله، فقدر الرجل أنه قد قتل ابنه وأكله، فحمل إلى الكلب فقتله قبل أن يدخل الدار، ثم دخل الدار فوجد الصبي نائما في مهده وإلى جانبه بقية من أفعى قد قتله الكلب وأكل بعضه، فندم الرجل على قتله أشد ندامة ودفن الكلب.
الكلب شاكر المعروف
أخبر أبو العلاء بن يوسف القاضي، قال: حدثني شيخ كان مسنا صدوقا أنه حج سنة من السنين، (قال): برزنا أحمالنا إلى الياسرية، وجلسنا على قداح نتغدى، وكلب رابض حذاءنا، فرمينا إليه من بعض ما نأكل، ثم إنا ارتحلنا ونزلنا بنهر الملك، فلما قدمنا السفرة إذا الكلب بعينه رابض كاليوم الأول، فقلت للغلمان: قد تبعنا هذا الكلب ، وقد وجب حقه علينا، فتعاهدوه. فنفض الغلمان السفرة بين يديه فأكل، ولم يزل تابعا لنا من منزل إلى منزل على تلك الحال، لا يقدر أحد أن يقترب من جمالنا ولا محاملنا إلا صاح ونفح، فكنا قد أمنا من سلال وغيره إلى مكة، وعزمنا على الخروج في عمل إلى اليمن فكان معنا إلى أرض قباء، ورجعنا إلى مدينة السلام وهو معنا.
الكلب الساعي
حدث أبو عبد الله قال: حدثني أبو الحسن محمد بن الحسين بن شداد قال: قصدت دير مخارق إلى عبد الله بن الطبري النصراني، الذي كان يتقلد النزل للمعتضد بالله، فسألته إحضاري وكيلا له يقال له إبراهيم بن داران، وطالبته بإحضار الأدلاء لمساحة قرية تعرف بباصري السفلى، فقال لي: يا سيدي، قد وجهت في ذلك. فقلت له: أنا على الطريق جالس، وما اجتاز بي أحد. فقال لي: أما رأيت الكلب الذي كان بين أيدينا؟ قد وجهت به. فغلظ ذلك علي من قوله، وأمرت به، ونلته بما أنا أستغفر الله - جل وعز - منه. فقال: إن لم يحضر القوم الساعة فإن دمي في حل. فما مكث بعد هذا القول إلا ساعة حتى وافى القوم مقبلين والكلب معهم، فسألته كيف يحمله الرسالة، فقال: أشد في عنقه رقعة بما أحتاج إليه وأطرحه على المحجة، فيقصد القوم وقد عرفوا الخبر، فيقرأون الرقعة فيمتثلون ما فيها.
الكلب النبيه
أخبر بعض الفيوج
1
من أهل الجبل قال: كنت أنا مع جماعة خارجين إلى أصبهان، فلما صرنا إلى بعض الطريق مررنا بخان خراب ليس فيه أحد، وإذا صوت كلب ينبح، وإذا حركة شديدة فدخلنا بأجمعنا الخان، فإذا بصاحب نعرفه من الفيوج كان معه كلب لا يفارقه حيث كان، وإذا بعض المبنجين قد وقع عليه، وكان الفيج فطنا، فلما رأى المبنج أن حيلته ليس تنفذ له عليه طرح في حلقة وترا ليخنقه به، فلما رأى الكلب ذلك صار إلى المبنج فخمش وجهه وعض قفاه وطرح منه قطعة لحم، فسقط المبنج مغشيا عليه، فلخصنا من حلق صاحبنا الوتر، وكان قد أشرف على التلف، وقبضنا على المبنج ، وكتفناه بوتره ودفعناه إلى السلطان.
وهذا بعض ما قيل في وصف الكلاب؛ قال بعض الشعراء:
أيها الشانئ الكلاب أصخ لي
منك سمعا ولا تكونن حبسا
إن في الكلب فاعلمن خصالا
من شريف الخصال يعددن خمسا
حفظ من كان محسنا ووفاء
للذي تتخذه حربا وحرسا
واتباع لرحله وإذا ما
صار نطق الشجاع للخوف همسا
فهو عون لنابح من بعيد
مستخير بقربه حين أمسى
وقال آخر:
إن قوما رأوك شبها لكلب
لا رأوا للظلام صبحا مضيا
أنت لا تحفظ الذمام لخلق
وهو يرعى الذمام رعيا وفيا
يشكر النزر من كريم فعال
آخر الدهر لا تراه نسيا
ويناديه محسنا من بعيد
ويرى منه طائعا مستحيا
إن سؤلي وبغيتي ومنائي
أن أراك الغداة كلبا سويا
قال الحسن بن عبد الوهاب لرجل يذم صديقا له، ويمدح كلبا:
تخيرت من الأخلا
ق ما ينفى عن الكلب
فإن الكلب مجبول
على النصرة والذب
وفي يحفظ العهد
ويحمي عرصة الدرب
ويعطيك على اللين
ولا يعطي على الضرب
ويشفيك من الغيظ
وينجيك من الكرب
فلو اشبهته لم ت
ك كانونا على القلب
وقال آخر:
شيمة الكلب حفظه لولي
وعن الحي في دجى الليل ذب
يحفظ الجار للجوار ويمشي
ساهر المقلتين يحنوه سغب
يرقد النائمون أمنا ويمسي
خائفا هلكهم يخاليه صب
وترى الكلب في المهامه عونا
ويجيب اللهيف والنار تخبو
وتراه ينابح القوم خوفا
وإلى الصوت في دجى الليل يصبو
فلماذا بخسته الحظ قل لي
ولما شتمه وما فيه سب
أقاصيص قبائل الطاط
انتقاها الأديب ر. بيليون
في القفقاز قبائل متفرقة من المسلمين، منها إيرانية، ومنا ترترية، ومنها منغولية أو تركمانية، ولكل هذه القبائل لغات شتى، يسعى في يومنا علماء الروس في درسها وتعريف خواصها، فمما درسوه آخرا لغة قبيلة تدعى الطاط، يسكن ذووها في جهات باقو، ولغتهم من فروع اللغة الإيرانية، ومن مميزاتها أنها حافظة كثيرا من خواص الفارسية القديمة، والدكتور ميلر
1
قد ألف في هذه اللغة كتابا، جمع فيه نصوصا متعددة نقلها عن لسان أصحابها ورتب مفرداتها على شكل معجم، ونشرها في جملة مطبوعات مكتب لازاريف في القسم 24 منها. وليس في فكرنا أن نشرح هنا خواص تلك اللغة الطاطية، وإنما ننقل عن كتاب الدكتور ميلر بعض الأقاصيص التي رواها؛ ليرى القراء العلاقة بينها وبين الحكايات الدارجة في هذه البلاد.
الحكاية الأولى
كان بهلول رجلا حكيما يقصده العلماء لحكمته وعلمه، وكان يسكن في بيت شاهق ذي أربع طبقات، فكان لا يصعد إلى سطحه الأعلى إلا بعد شق النفس، فيوما ما نزل المطر وتوكف السطح فعلاه بهلول؛ ليصلحه بالمحالة - المحدلة - وإذا بفقير في أسفل الدار يصرخ إلى بهلول: هلم انزل فإن لي إليك كلاما. فظن بهلول أن لمستدعيه سرا يطلعه عليه، فنزل كاسف البال، وتقدم إلى الفقير، فلما رآه هذا قال: أرجوك حبا بالله أن تكرم علي بدانق لأبتاع لي خبزا؛ فإني جائع، وليس في يدي ما أسد به رمقي هذه الليلة. فسكت بهلول ثم كر راجعا على عقبه، وصعد إلى السطح فلما بلغه أدخل يده في جيبه كأنه يطلب ما يتصدق به على الفقير، ثم دعاه قائلا: هلم ارتق إلى السطح. فصعد الفقير متثاقلا، حتى إذا قرب من بهلول قال له: ما الأمر؟ فأجاب بهلول: لا شيء معي، فالله يعطيك. فلما سمع الفقير هذا القول غضب، ثم التفت إلى بهلول قائلا: ويلك! أما كان يمكنك أن تقول لي من السطح «الله يعطيك» ولا تحوجني إلى هذه الطلعة المتعبة؟ أجاب بهلول: وأنت، أما كنت تستطيع أن تطلب حاجتك من أسفل الدار دون أن تضطرني إلى النزول؟ فاذكر المثل «ما يزرعه المرء يحصده». فخجل الفقير، وذهب إلى سبيله.
بهلول ويحيى البرمكي
خرج الوزير يحيى البرمكي يوما إلى أرباض البلد لترويح البال، فسار حتى بلغ مكانا قفرا فرأى وإذا بهلول جالس وحده على الرمل وأمامه ثلاث جثى من التراب، فسأله يحيى: ما هذا؟ وما معنى هذه الأكوام؟ قال بهلول: هذه كوم من الرمل عبأتها. - ولأي سبب؟ - لي فيها حاجة. - وما حاجتك؟ - هذا سر لا أقوله. - ناشدتك الله إلا قلته. - كل كومة حكمة لا أبوح بها إلا بمائة دينار، فإن شئت أدني حقها.
وكان الوزير يحيى يعلم بأن حكم بهلول نافعة، قد اختبر مفعولها غير مرة، فقال له: دونك مائة دينار واذكر الحكمة الأولى. فخرب بهلول إحدى الكوم وقال: لا تكشفن سرك إلى امرأة. ثم دفع له الوزير مائة دينار أخرى وقال له: خذ هذه أيضا وأفدني الحكمة الثانية. فأخذ بهلول الدراهم وقال: لا تثق بمالك البتة. ثم أعطاه الوزير ثالثة مائة دينار وطلب الحكمة الثالثة، فقال بهلول: إياك إياك أن تركن إلى خدمة الملوك. قال هذا ثم أخذ الدراهم وألقاها في الماء. أما الوزير فإنه عاد إلى بيته، وبقي مدة، حتى إذا كان أحد الأيام وهو في حديقة الملك رأى بين ماشيته تيسا كبيرا، فأخذه وأتى به بيته وأخبر امرأته بما فعل، ثم ذهب سرا وابتاع له جديا، ولم يخبر امرأته به، فبعد أيام عمد الوزير إلى الجدي فذبحه وألقى برأسه وأطرافه في النهر، وأتى بلحمه إلى البيت، وأوهم امرأته أنه التيس، فطلب منها أن تصلحه وتشويه؛ لأنه قرم إلى لحم التيس، ففعلت المرأة، وأكلا اللحم وشبعا، وفي أثر ذلك بأيام حصل بين الوزير وامرأته نفور فتخاصما، فصرخت المرأة: بئس الرجل أنت، وقد سرقت تيس الملك. فسمع الجيران كلامها، وأخبروا الشرط الذين كان الملك أمرهم بطلب تيسه، وأعلم الشرط الملك بسارق التيس، فاستدعى الملك وزيره وبكته على فعله، وأمر الجلاد بقطع رأسه، فجعل يحيى يبكي، ويستغفر الملك إلى أن قال له: أبقني أبقاك الله، وها إني أترك لك كل مالي وثروتي بدلا من التيس. لكن الملك لم يرض بذلك، وصمم نيته بقتله إن لم يرجع ما سرقه. فقال الوزير: أيها الملك، إن كان قلبك تغير علي فاطردني من خدمتك، ولكن لا تقتلني في حق تيس واحد. فقال الملك: كلا، إما التيس وإما رأسك، لا مناص من أحد الأمرين. فقام الوزير حينئذ وقال: أبقى الله رأس الملك، إن التيس لا يزال حيا فأرسل من يأخذه، وأنا أشكر الله الذي أثبت لي صحة ما قاله لي بهلول الحكيم: إياك أن تسلم بسرك إلى امرأة، ولا تثقن بمال، ولا تركن إلى خدمة الملك.
بهلول والتاجران
قدم يوما أحد التجار على بهلول فقال له: أيها الحكيم، هبني مشورة صالحة أنتفع بها. فقال له بهلول: اذهب وابتع لك ملحا تنل به ربحا. فجرى التاجر على مشورته وما لبث ثمن الملح أن تصاعد حتى إن التاجر باع ملحه بأربعة أضعاف ثمنه واغتنى به، فعرف بالأمر تاجر آخر، فجاء إلى بهلول - وهو يعده كمجنون - فقال له: يا بهلول الأحمق، أعطني أنا أيضا مشورة صالحة تجديني نفعا. فأجابه بهلول: اذهب وابتع لك بصلا، واحفظه إلى الربيع فتبيعه. ففعل الرجل وأودع البصل في دهليز وأقفل بابه إلى أن جاء الربيع، فنزل الدهليز، وإذا ببصله قد أنبت ولم يعد يصلح لشيء، فذهب من ساعته إلى بهلول وشكا إليه حاله قائلا: ما لك أشرت على رفيقي بمشورة صالحة نال منها ربحا طائلا، وأنا بئس النصيحة أعطيتنيها خسرت بسببها مالي؟ فقال له: استجهلتني وعيرتني حمقي فوزنت لك بوزنك، اعلم بذلك أن المرء بالكيل الذي يكيل لغيره يكال له.
بهلول والسارق
تعدى يوما أحد الأشقياء على بهلول، فأخذ منه قبعته، وهرب منحدرا إلى جهة النهر، فسكت بهلول، وسار في وجهه إلى أعلى التل حيث كانت المقبرة فجلس على بابها. وفيما هو هناك رآه قوم فقالوا له: ويحك! إن الذي سلب قبعتك هرب إلى أقصى البلد منحدرا، وأنت صعدت إلى هنا! فاذهب في أثره واسترد مالك. فقال بهلول: كلا، بل أنتظره في باب المقبرة؛ إذ لا بد له عاجلا أو آجلا ينقل إليها، فأسترجع منه مالي.
لص الليل
جاء لص إلى بيت بهلول ليلا، وكان بيته خاويا خاليا لا شيء فيه، فلما دخل البيت وهو يؤمل غنيمة واسعة، مد بساطا كان معه؛ ليضم فيه ما ينهبه، فسمعه بهلول وهو راقد على الحضيض فتناوم، ثم اندس رويدا رويدا إلى البساط فاتخذه له فراشا، أما اللص فكان يفتش في البيت عما يسرقه ، ولم يجد شيئا حتى أسرج سراجا ، فرأى أن البيت أنقى من راحة، وأجرد من صخرة، ونظر إلى البساط وإذا صاحب البيت نائم عليه، فخاف أن يوقظه فيعلم الناس بأمره، وهم أن يخرج فالتفت إليه بهلول قائلا: ما لك لا تحمل حملك؟ قال اللص: ويلك! ما أصنع بك وأنت أفقر من العريان! قال بهلول: أرجوك إذن إن أتيت بيتي مرة أخرى أن تكرم علي بغطاء كما وهبتني هذه المرة بساطا، فيكمل بذلك معروفك.
قلنسوة نصر الدين
تقلنس نصر الدين بقلنسوة جديدة ابتاعها بثلاثين درهما، وخرج إلى شغله، فرآه رجل واستظرف قلنسوته وقال: بالله عليك يا مولاي، كم اشتريت هذه القلنسوة؟ فأجابه على سؤاله، ثم سار بضع خطوات، وإذا بثان ثم ثالث ثم رابع، وكل يسأله عن ثمن القلنسوة، فاستثقل الأمر وأخذ قلنسوته بيده، ثم سار إلى السوق وجعل يصرخ بأعلى صوته: يا قوم، هلموا إلى ساحة المدينة، فإن لنائب الملك كلاما يريد تبليغه إلى مسامعكم. فتقاطر الناس وتزاحموا في الساحة، فجاء نصر الدين وصعد على صقالة، ثم كشف قلنسوته عن رأسه وقال: يا ناس، اعلموا وتحققوا أن القلنسوة التي ترونها في يدي يساوي ثمنها ثلاثين درهما. فاستغرق السامعون من الضحك وعادوا إلى شغلهم، وتخلص نصر الدين من لجاج السائلين.
نصر الدين والقدر الميتة
دخل نصر الدين على أحد جيرانه، فاستقرض منه قدرا يطبخ فيها طعامه، فأعطاه الجار بعد العنت قدرا وسطا، فلما انتهى نصر الدين من عمله أخذ قدرا صغيرة وجعلها في بطن القدر المستعارة فأعادها إلى صاحبها، فقال هذا: ويلك! أقرضتك قدرا واحدة فما هذه القدر الصغرى؟ قال نصر الدين: اعلم يا صاح أن قدرك قد خلفت فأتيتك بها وبصغيرها. ففرح الرجل وأخذ القدرين، وبعدها بأيام جاء نصر الدين إلى جاره وطلب منه قدرا كبيرة، فأسرع إلى قضاء حاجته بكل فرح، وهو يؤمل أن يكون مولودها أكبر، ثم بقي ينتظر يوما ويومين، فلم يعد نصر الدين، فذهب إلى بيته يطلب قدره فقال نصر الدين: وا أسفاه على قدرك، فإنها ماتت . قال الرجل: ويلك! أتموت القدر؟! قال نصر الدين: وما لها لا تموت؟ ألم تصدق بولادتها لما خلفت، فكيف لا تصدق بموتها؟
حمق الذئب
أصاب الجوع ذئبا فسار في غابة يطلب قوته، وإذا هناك حمار يرعى، فقال له الذئب: أبشر أيها الحمار، فإني إلى لحمك قرم. قال الحمار: نعما، ولكن كيف تجهل أن لحم الحمار يضر آكله إلا إذا أكل عند الصباح بعد النوم والحمية؛ فهذا قول الأطباء قد أيده الاختبار مرارا. قال الذئب: صدقت، واذهب وائتني بفراش حتى أنام إلى الصباح ثم آكلك فيهنأ لي طعامي. قال الحمار: لبيك سيدي. ثم فر من بين يديه شاكرا ربه على خلاصه من ذلك الوحش الضاري. أما الذئب فانتظر ساعات عود الحمار إلى أن تحقق بأنه خدعه وأفلت من يده، فامتعض من صنعه، وسار في طريقه يطلب رزقه من وجه آخر، وكاد الجوع يقتله، فرأى في طريقه جديا، فصرخ به عن بعد: هلم أيها الجدي، فإني في حاجة إلى لحمك.
قال الجدي: إنك تشرفني بأكلك لي، ولكن تذكر أن لحم الجدي أطيب ما يكون أن يؤكل ببقول ومخللات، فدعني آتيك بشيء منها، فيصبح طعامك مريئا.
قال الذئب: نعم هذا صحيح، وقد سمعت به غير مرة، فاذهب وائتني بشيء من الخضر فتكون كأدم أئتدم به مع لحمك، ولكن إياك أن تتأخر عن المعاد، وإلا دعوت عليك كل دعوة سوء. قال الجدي: هيهات سيدي أن يطول انتظارك وأفرغ صبرك. قال هذا ثم عاد مسرعا إلى حظيرة الغنم تحت رعية الرعاة وفي حراسة الكلاب، فبقي الذئب ينتظر، وهو يبصر تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال حتى عيل صبره وعرف بخدعة الجدي، فقال في نفسه: ما أسوأ حظي، وها إني قد خدعت مرتين؛ أفلت الحمار من يدي وها أنذا بالجدي قد ضحك مني ومكر بي، فماذا يقول عني رفقتي؟ والله لا أدع مرة أخرى وحشا يخاتلني ويغشني. ثم جرى في طريقة وهو ساغب غرثان يضمر السوء لمن يلقاه من إنس أو جان حتى وصل إلى شط البحر ، وإذا هناك جاموس في مقصبة غائص في الحمأة، فصرخ الذئب صرخة ارتعدت منها فرائص الجاموس، فعلم أنه ميت لا محاله إن لم يجد حيلة للخلاص، فقال له الذئب: ائتني مسرعا فآكلك، وإلا هجمت عليك فقطعتك شذر مذر. قال الجاموس: إن عبدك بين يديك، فها أنذا مطاوع لأمرك، ولكن تبصر سيدي بثوبي كيف هو متسخ بالحمأة والأقذار، أفتأكلني هكذا وتضر نفسك بوخامة المآكل؟ فإن كنت عاقلا تركتني أدخل البحر فأغسل بدني، ثم أعود إليك نظيفا، فتأكلني هنيئا مريئا. - نعم الرأي رأيك، فاغتسل واخرج سريعا. فطفر الجاموس في البحر، وجعل الذئب ينتظره، فبعد ساعة صرخ إليه: ويلك متى تنتهي من الاستحمام؟ قال الجاموس: إن اغتسالي طويل فتمهل. فبعد ساعة أخرى صاح وضج بالصياح، لكن الجاموس لم يبد حراكا، فأراد الذئب أن ينزل إليه في الماء فقلبته موجة على وجهه فخاف من الغرق، ونكص على أعقابه، ولعن الجاموس، وارتحل متنمرا من الغيظ متضورا كاد الجوع يصرعه، فانتهى إلى مرج وانطرح عليه ليأخذ نصيبا من الراحة، وإذا بفرس قدم إلى ذلك المكان، فاستبشر به الذئب وعده الطعام المرسل له من الله لسد جوعه، فقال للفرس: وحق السماء لن تنجو من يدي. ثم هم بالوثوب على غنيمته، لكن الفرس سبقه وخر على قدميه قائلا: أنا أطعمك، ولن أرضى بغير بطنك لي قبرا، ولكن أرجوك قبل أن تتهنأ بأكلي أن تقرأ لي ما كتبه أبواي على حافري، فإنهما جعلا وصيتهما لي عليهما يوم وفاتهما، وأنت تعلم حرمة وصية الوالدين. قال الذئب: أما هذا فصواب، فأرني حافرك. فدار الذئب خلف الفرس؛ ليطلع على ما كتب تحت حافره، فرفع الفرس قائمتيه، وبكل قوته ضربهما في وجه الذئب، فسقط صريعا ميتا، وسار الفرس إلى صاحبه سالما.
الفتية التوابون
نقلا عن أحد مخطوطات المكتبة الشرقية
ذكر عيسى بن داب
1
أن هؤلاء الفتية كانوا عشرة نفر، وهم: سليمان بن عمرو القرشي، وأخوه يحيى بن عمرو، وهارون بن الحصين التميمي، وأخوه أحمد بن الحصين، ومحمد بن زرعة العبدي، وأحمد بن محمد اليشكري ، وبشر بن مطر الأزدي، وسعيد بن إسماعيل الأسدي، ويعقوب بن عبد الكريم الطائي، وعبد الله الأنصاري. قال عيسى بن داب: وكان السبب في توبة هؤلاء القوم أنهم كانوا في مدينة على أمر من الأمور التي لا يحبها الله - تعالى. وكان هؤلاء الفتية العشرة في كل نعمة سابغة لا يأتي عليهم يوم من الأيام إلا وهم أشد سرورا وأطول حبورا من يومهم الذي مضى، إلى أن أراد الله - عز وجل - هدايتهم إلى الخير، وأن ينقذهم من ظلمة المعاصي إلى نور الطاعة.
فأول من ارتدع منهم ودعته نفسه إلى التوبة والإنابة إلى الله يحيى بن عمرو القرشي، فعزم على ذلك وجعل يسره في نفسه، ولا يذكر لإخوانه شيئا مما عزم عليه، وهو مع ذلك يجالسهم ويحادثهم، فبينما هم ذات يوم في شرابهم ولهوهم، إذ أخذوا شيئا من نشائد الأشعار التي قد أحدثوها بينهم، فجعل كل واحد منهم يقول شيئا، ويحيى بن عمرو القرشي ساكت لا ينطق بشيء، حتى فرغوا من نشيدهم، فأحب أن يلقي إليهم شيئا مما عزم عليه من أمر التوبة ونزوعه عما هو عليه، فأنشد يقول:
قالت سلوت فقلت لست بجاحد
آي المهيمن ذي الجلال الواحد
وسلخت ودك من فؤادي مثلما
سلخ النهار من الظلام الراكد
قالت أعد فالعود عندي أحمد
فأجبتها هيهات لست بعائد
إني أخاف عذاب رب سرمد
تبدو نصائحه فلست ببائد (قال): فلما سمع القوم من يحيى بن عمرو هذه الأبيات أنكروا ذلك منه إنكارا شديدا، ثم إنهم عذلوه، وأكثروا من عذله ولومه، ثم قالوا: يا هذا، لقد سمعنا منك شيئا نخاف أن يكون فيه تفريق جماعتنا وتشتيت ألفتنا، وإنا نناشدك الله في ذلك. فتبسم يحيى بن عمرو وحرك رأسه، وقال هذه الأبيات:
إن في اللهو ما علمت سرورا
لم يوق حوادث الأقدار
غير أني تركت ذلك خوفا
وحذارا من شر عار ونار
فأنيبوا إلى الإله وتوبوا
كم إلى كم نقيم في الإصرار (قال): فلما سمع القوم ذلك أقبل إليه أخوه سليمان بن عمرو، وقال له: والله يا أخي، ما عدا جميع ما تكلمت به سويداء قلبي، ولقد أخذ بمجامع عقلي ولبي، حتى لقد غلب على سمعي وبصري، وأحال بيني وبين لذاتي، ولقد علمت أن الأمر كما ذكرت، وأن الرغبة فيما رغبت. ثم أنشأ سليمان بن عمرو يقول هذه الأبيات:
يا من يلوم موفقا
يدعو إلى إسعاده
إن النصيح إذا دعا
لم يأل في إجهاده
لا تنكروا ما قاله
من بذله لرشاده
فلقد أتى بنصيحة
موصولة بسداده (قال): فلما سمع القوم كلام سليمان بن عمرو ورأوا ميله إلى أخيه، جعل بعضهم يقول لبعض: هذا ما كنا نحذر منه: تفريق الألفة وتكدير صفو العيش، فعند الله نحتسب ما فجعنا به منكما. (قال): ثم انصرف القوم عن مجلسهم ذلك، وهم مغمومون بأمر يحيى وأخيه سليمان، فلما كان في الليلة المقبلة اجتمعوا أيضا وجلسوا، فلما اطمأن بهم المجلس أقبل عليهم يحيى بن عمرو فقال لهم: يا إخوتي، وأخلاني، ومن تقر عيني بصلاحهم، واجتماع كلمتهم، إنه قد ينبغي للراقد أن يستيقظ من رقدته، ويتخلى عن غشوته، ومهما شككتم في شيء فلا تشكوا في الموت أنه نازل بي وبكم، وأسأل الله العصمة والتوفيق والتسديد لي ولكم، ثم أنشأ يقول هذه الأبيات:
دعوتكم للرشد والنصح جاهدا
وما زلت للإخوان مذ كنت ناصحا
فإن تقبلوا نصحي تنالوا سعادة
وتأتوا طريقا بين القصد واضحا
ومن يترك القصد المنير طريقه
يلاق غدا نارا ليخلد طالحا
ثم أقبل عليهم سليمان بن عمرو، فقال: يا إخوتي، ومن قد عظمت حقوقهم علي، وابيضت أيديهم عندي، إنكم قد علمتم ما افترقنا عليه ليلتنا الماضية، وما دعاكم إليه أخي يحيى الناصح لكم الشفيق عليكم، فإن تجيبوا إلى التوبة والنزوع عما أنتم فيه فحظكم أصبتم وللخير أجبتم، وإن تقيموا على ما أرى من لغطكم واتباعكم أهواءكم فإني أسأل الله لكم التوفيق والسلام. ثم أنشأ يقول:
سألت إلهي أن يؤلف بيننا
على الخير كالتأليف في سالف الدهر
فقد عشتم عصرا وعصرا وإننا
لفي غمرة جهلا فنهوي ولا ندري
نلجج في بحر سكارى بحيرة
فحتى متى لسنا نفيق من السكر
فتوبوا تنالوا جنة الخلد إنما
ينال جنان الخلد من كان ذا صبر (قال): فلما سمع بشر بن مطر الأزدي مقالة يحيى وأخيه سليمان واستحكم قولهم في قلبه أعجبه ذلك، فقال:
لعمري لئن بعت الهدية بالعمى
وآثرت غير الحق إني لخاسر
أأترك حظي بعد إذ أنا قادر
على أخذه والحق فيه بصائر
سأجبر نفسي عن هواها وغيها
بصبر قوي العزم والحر صابر (قال): فلما سمع القوم مقالة بشر غمهم ذلك غما شديدا، ثم أقبل هارون بن الحصين على أصحابه، وقال لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظم الرزية بفرقتكم وأجل المصيبة بتباعدكم، والله ما أظن هذا الأمر إلا مشتتا جماعتنا مكدرا علينا صفو عيشنا؛ لأن الذي دعوتمونا إليه مزايلة ما نحن فيه لشديد، وهو أثبت وأرسخ من أن تزيله العظات. ثم افترقوا ليلتهم مغمومين.
فلما كان من الليلة الثالثة اجتمعوا، فلما اطمأن بهم المجلس أقبل عليهم محمد بن زرعة العبدي، فقال: يا إخوتاه، اسمعوا مني كلاما، وتدبروه بقولكم، فقد أتيتكم بأعجوبة. فقالوا: هات ما بدا لك. قال: اعلموا أني لما فارقتكم الليلة الماضية وسرت إلى منزلي أرقت أرقا شديدا، حتى إذا كان قبل الصبح أغفيت، فإذا أنا بآت قد أتى في منامي، وهو يقول:
يا تارك القصد بعد معرفة
وسالكا غيره من الطرق
يحيا وأصحابه على رشد
كما جلا الليل ساطع القلق
فلا تكونن كالمقيم على
دحض مزل أشفى على غرق (قال): فلما سمعت ذلك استيقظت فزعا مرعوبا، حتى كاد أن ينزع قلبي. (قال): فأقبل عليه يعقوب بن عبد الكريم الطائي، فقال: كأني وإياك يا أخي والله على أمر واحد، غير أن الألفاظ مختلفة، وذلك لما أني قمت من مجلسنا حين افترقنا بالأمس وبي من الفرقة والأسف لتشتت الشمل ما لا أبلغ وصفه حزنا على إخواني لما رأيت من مفارقتهم لنا ونقضهم علينا ما نحن فيه من الألفة والمودة؛ أتيت إلى منزلي وأقمت عامة ليلتي أدير عيني على الغمض، فلا أقدر على ذلك، فينما أنا كذلك بين النائم واليقظان، إذ أنا بهاتف يقول هذه الأبيات:
يا خاضعا في غمرة المهل
وحائدا عن أوضح السبل
لست على شيء فلا تكذبن
وارجع إلى التوبة في مهل
من قبل يوم معظم هائل
يشيب رأس المرضع الطفل
فلما سمعت ذلك استيقظت وما معي شيء من عقلي، فهذا والله يا إخوتي ما رأيت. فلما سمع القوم ذلك عجبوا، وجعل بعضهم يقول لبعض: كيف خص محمد بن زرعة ويعقوب بن عبد الكريم بهؤلاء الهواتف من بيننا؟! هذا سكون لنابنا. (قال): ثم أقبل سعيد بن إسماعيل الأسدي على محمد بن زرعة وهو يقول هذه الأبيات:
لولا الذي أحرمت من غدرة
ما راعك الهاتف إذ يهتف
خصصت بالهاتف من بيننا
ما لك في قولك ما تنصف
والله رب العرش يا إخوتي
فإنني مجتهدا أحلف
لا خنت من أهوى ولا سمته
هجرا ولا مثلي به يوصف (قال): ثم أنشأ هارون بن الحصين التميمي يقول هذه الأبيات:
أبالأحلام أسلو عن هوائي
لأقوام أتوا بالترهات
أتونا يزعمون بأن زورا
أتى بنصيحة عند البيات
يحضهم على هجر وغدر
وقطع الحبل منا والشتات
فمن يك راغبا عن وصل إلف
فلست براغب حتى الممات (قال): وتفرق القوم ليلتهم تلك أيضا، وقد وفق الله - تعالى - خمسة نفر للتوبة، وهم: يحيى، وسليمان، وبشر، ومحمد، ويعقوب، وبقي منهم خمسة: هارون، وعبد الله، وسعيد، والأحمدان.
قال: وجعل هؤلاء الخمسة الذين تابوا يدعون إلى الله ويتضرعون في أن يرد قلوب إخوانهم إلى ما هم عليه من التوبة ويدعوهم إليها، فلم يزالوا كذلك إلى أن استجاب الله منهم دعاءهم في إخوانهم، وأقبلوا بقلوبهم إلى الطاعة، فكتب كل واحد منهم بأبيات من الشعر، وأرسلوها إلى إخوانهم التوابين، فلما وصلت هذه الأبيات من هؤلاء الخمسة إلى إخوانهم فرح الذين سبقوهم إلى التوبة، واستبشروا واشتد سرورهم، ثم ابتهلوا إلى الله - عز وجل - في أن يقوي عزمهم فيما عزموا عليه من التوبة، فاستجاب الله لهم ذلك. (قال): ثم إنهم تواعدوا أن يجتمعوا في مشربة لهم، فيكلم بعضهم بعضا ، فاجتمعوا في مشربتهم تلك، وهي مشربة معروفة بالمدينة، يقال لها اليوم مشربة التوبة، وكانت تعرف قبلا بمشربة العطارين بالمدينة، فلما اجتمعوا هناك اعتنقوا، وبكى بعضهم على بعض لطول الفرقة، وما كانوا عليه من التباعد، وحمدوا الله على ما هم عليه من التقوى، وسألوه التوفيق والعصمة والثبات.
ابن التلميذ الطبيب النصراني والأطباء
من النوادر التي رواها الكتبة عن ابن التلميذ الطبيب النصراني: أن الخليفة كان فوض إليه رئاسة الطب ببغداد، فاجتمع إليه سائر الأطباء؛ ليرى ما عند كل واحد منهم من هذه الصناعة، وكان في جملتهم شيخ له هيئة ووقار وعنده سكينة، فأكرمه أمين الدولة، وكان لذلك الشيخ دربة ما بالمعالجة، ولم يكن عنده من علم صناعة الطب إلا التظاهر بها، فلما انتهى الأمر إليه قال له أمين الدولة: ما السبب في كون الشيخ لم يشارك الجماعة فيما يبحثون فيه حتى نعلم ما عنده؟ فقال: يا سيدنا، هل شيء مما تكلموا فيه إلا وأنا أعلمه، وقد سبق إلى فهمي أضعاف ذلك مرات كثيرة! فقال له أمين الدولة: فعلى من كنت قد قرأت هذه الصناعة؟ فقال الشيخ: يا سيدنا، إذا صار الإنسان إلى هذه السن ما يبقى يليق به إلا أن يسأل كم له من التلاميذ، ومن هو المتميز فيهم، وأما المشايخ الذين قرأت عليهم فقد ماتوا من زمان طويل. فقال له أمين الدولة: يا شيخ، هذا شيء قد جرت العادة، ولا يضر ذكره، ومع هذا فما علينا، أخبرني أي شيء قد قرأت من الكتب الطبية؟ وكان قصد أمين الدولة أن يتحقق ما عنده. فقال: سبحان الله العظيم، صرنا إلى حد ما يسأل عنه الصبيان «أي شيء قد قرأته من الكتب؟»، لمثلي ما يقال إلا: «أي شيء صنفته من صناعة الطب، وكم لك فيها من الكتب والمقالات؟»، ولا بد أنني أعرفك بنفسي.
ثم إنه نهض إلى أمين الدولة، ودنا منه وقعد عنده، وقال له فيما بينهما: يا سيدي، اعلم أنني قد شخت وأنا أوسم بهذه الصناعة، وما عندي منها إلا معرفة اصطلاحات مشهورة في المداواة، وعمري كله أتكسب بها، وعندي عائلة، فسألتك بالله يا سيدنا، مش حالي ولا تفضحني بين هؤلاء الجماعة. فقال له أمين الدولة: على شريطة، وهي أنك لا تهجم على مريض بما لا تعلمه، ولا تشير بفصد ولا بدواء مسهل إلا لما قرب من الأمراض. فقال الشيخ: هذا مذهبي مذ كنت ما تعديت السكنجبين والجلاب. ثم إن أمين الدولة قال له معلنا والجماعة تسمع: يا شيخ، اعذرنا فإننا ما كنا نعرفك، والآن فقد عرفناك، استمر فيما أنت فيه، ولا أحد يعارضك.
ثم إنه عاد بعد ذلك فيما هو فيه مع الجماعة، وقال لبعضهم: على من قرأت هذه الصناعة؟ وشرع في امتحانه. فقال له: يا سيدنا، أنا من تلامذة هذا الشيخ الذي قد عرفته، وعليه كنت قد قرأت صناعة الطب. ففطن أمين الدولة بما أراد من التعريض بقوله، فتبسم، وامتحنه بعد ذلك.
الجواد الكريم
حدث حضرة الأب إنستاس الكرملي في مقالته المعنونة: الخيل العراب عند العرب والأعراب (المشرق 7 : 349) قال:
بينما كنت في خراسان في السنة المنصرمة، جاء شاب حسن الطلعة من أبناء الشيوخ، راكبا جوادا عربيا كريما، وكان قد طلب منه أحد أصدقائه من قبيلة أخرى ليعيره إياه، فيرسله على حجر له، وقد أهدى له هدية لقاء هذه الإعارة ما يساوي أربعمائة فرنك، فلم يشأ صاحب الجواد، فأخذ الثاني يترصد له؛ لينتقم منه فيقتله غيلة، فلما أراد يوما صاحب الفرس الكريم - وكان اسمه محمدا - أن يذهب إلى واحد من أقاربه وكان بعيدا عنه نحوا من سبعة فراسخ، وإذا بعدوه - وكان اسمه محسنا - قد تأثره عن بعيد، حتى إذا صار الأول في قلب البادية، وإذا بمحسن ينهب الأرض بجواده كأنه البرق الخاطف، ولما أوشك أن يكون من صاحبه على قاب قوسين، أحس هذا بالخطر، فقال لجواده: «خلصني يا حمام» - وحمام هو اسم فرسه. وفي أثناء هذه الكلمات ضربه برجله، فإذا بالحمام يطير كأن قد نبت له جناحان، وأما محسن فوقف كالمبهوت المتحير، أو كأنه قد صعق بمكانه، وخاف أن يعود إلى عشيرته لانكشاف أمره وافتضاح سره، فلم يعرف ما جرى به. وأما محمد فبعد أن قص كل هذه القصة بتفاصيل عجيبة غريبة - وقد اختصرناها هربا من الإطالة - قدم له ما يروي عطشه، وكان النهار حارا يتقد نارا، أما هو فلم يشرب بل أشربه جواده، ولم يكن في تلك الخيمة غير هذا الماء، والمورد كان بعيدا عن الأعراب، ثم قدم له خبز فأطعمه جواده أيضا، وبينما كان يأكل كان صاحبه يقبله مرات عديدة، ويأكل بعض الكسر اليابسة التي بيده، ولما كان فمه ناشفا لقلة الرضاب غص بكسرة من هذا الخبز فمات، وأما أصحاب الخيمة فبكوا بكاء عظيما، ثم كتب أحدهم هذه الحكاية، وأناطها برقبة الجواد، ثم ضرب الجواد قليلا، ففهم معنى ذلك، ورجع إلى أهل الميت لا فارس عليه، فعلموا أن محمدا قد قتل، غير أنهم لما فضوا الرقعة أدركوا السبب، وندبوه أياما طوالا.
مأثرة برمكية
اقتطفها الأب لويس شيخو اليسوعي من كتاب «أحسن المسالك لأخبار البرامك» ليوسف بن محمد البلوي
1
ذكر في قطب السرور عن عمرو بن مسعدة قال: رفع محمد بن عبد الله إلى المأمون رقعة يمت فيها بحرمة، ويزعم أنه من صنائع البرامكة، وأنه مولى ليحيى بن خالد، وقد كانت له نعمة واسعة وضيعة، وأن ضيعته قبضت فيما قبض للبرامكة، وزالت نعمته بحلول النقمة بهم، ودفعها إلى المأمون، فدفعها المأمون إلى أحمد بن أبي خالد، وأمره بضمه إليه والإجراء عليه، فصلحت حال محمد بن عبد الله بذلك، وتراجع إليه أمره، فكان ينادم أحمد بن أبي خالد لا يفارقه، فتأخر عنه يوما لمولود ولد له، فبعث إليه، فاحتجب عنه، فغضب عليه بسبب ذلك، فحبسه وقيده وألبسه جبة صوف، فمكث كذلك أياما، فسأله المأمون عنه يوما، فذكر له ما هو فيه من الصلف والتيه والافتخار بالبرامكة، وأنه لا يزال يذكرهم ويترحم عليهم، فأمر بإحضاره، فأحضر على تلك الحال، وأقبل عليه بالتوبيخ مسفها لرأيه، ويذكره ما تقدم من فقره، ويعظم في عينيه إحسان ابن أبي خالد. فقال له: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، لقد وضعت من البرامكة غير موضوع، وصغرت منهم غير مصغر، وذممت غير مذموم، وقد كانوا شفاء أيام دهرهم، وغياث جدب عصرهم، ومفزعا للملهوفين وملجأ للطالبين، فإن أذن أمير المؤمنين حدثته ببعض أخبارهم؛ ليعلم صدق قولي في تفردهم في عصرهم بالأيادي النفيسة. فقال له: هات وأوجز. فقال: ليس بإنصاف وأنا في القيود. فأمر بفك قيوده، فقال: يا أمير المؤمنين، ألم الجبة حائل بيني وبين حلو الحديث، ومانع لي من الوقوف على غرره. فأمر بخلع الجبة عنه، وأن يخلع عليه، ثم قال له: هات حديثك. فقال:
يا أمير المؤمنين، كان ولائي ليحيى وانقطاعي للفضل ابنه، فقال لي الفضل يوما بحضرة أبيه وأخيه: يا محمد، أحب أن تدعوني دعوة كما يدعو الصديق صديقه. فقلت له: حالي تصغر عن ذلك وتضيق به، ومالي يعجز عنه، وهيأتي لا تقوم به. فقال لي: دع عنك فلا بد منه. فأعدت عليه الاستقالة والاستعفاء، فرأيته مصمما، فأقبلت على أبيه لائذا ومستعينا به، واستعنت بأخيه جعفر، فأقبلا عليه وسألاه ذلك، وأعلماه بقصور يدي عن بلوغ ما يحبه ويشتهيه، فقال لهما: لست بقانع منه دون أن يدعوني وإياكما لا رابع معنا. (قال): فأقبلا علي، وقالا: هذا قد أبى أن يعفيك، وإن لم يكن الأمر إلا لنا فلا حشمة بيننا، أقعدنا على أثاث بيتك فأطعمنا من طعام أهلك، فنحن بذلك قانعون. فقلت للفضل: إن كنت قد عزمت على ذلك وأبيت إلا فضيحتي فلا بد من أن تؤجلني أجلا أتأهب فيه لكم. فقال: استأجل لنفسك ما تريد. فقلت: أجلني سنة. فقال: ويحك! أومعنا أمان من الموت لسنة! فقال يحيى: ويحك! قد أفرطت في الأجل، ولكني أحكم عليكما بما أرجو أن لا يرده أبو العباس، فاقبله أنت أيضا. فقلت: احكم، جعلني الله فداك، ووفقك للصواب، وتفضل علي بالفسحة في المدة. فقال: قد حكمت بشهرين. فخرجت من وقتي، وبدأت برم منزلي، وإصلاح آلتي، وشراء ما أتجمل به من فرش وأثاث وغير ذلك، وهو مع ذلك لا يزال يذكرني، حتى إذا كانت الجمعة الذي نجز فيها الوعد قال لي : يا محمد، قد قرب الوعد، ولا أحسب قد بقي إلا عمل الطعام. فقلت: نعم، جعلني الله فداك. وأمرت بالطعام فأصلح بغاية ما تناله يدي ومقدرتي، وجاءني رسوله عشية اليوم الذي صبيحته الوعد فقال: هل تأذن في البكور؟ فقلت: نعم، جعلني الله فداك.
فبكر إلي هو وجعفر ويحيى وسائر أولادهم وفتيانهم، فلما دخلوا أقبل علي الفضل فقال: يا محمد، أول شيء أبدأ به أن أنظر إلى نعمتك صغيرها وكبيرها، فقم بنا حتى أدور عليها، فأحتاط بها علما. فقمت وقام وهما معه حتى طاف المجلس، ثم خرج إلى الخزائن ثم إلى بيت الشراب، وخرج منه إلى الإصطبل، ونظر إلى كبير نعمتي وصغيرها، ثم عدل إلى المطبخ؛ فأمر بكشف القدور وعرض كل ما أصنع من الطعام قدرا قدرا، ثم أقبل على أبيه وقال: هذا اللون الذي يعجبك، ولست ببارح دون أن تأكل منه. ودعا برغيف فغمسه في القدر وناوله أباه، ثم فعل بأخيه كذلك، ثم أمر غلمانه برفع القدور وأكل ما فيها.
فلما رأيت ذلك ضاقت علي الدنيا، وقلت: ما العمل، هذا شيء اجتهدت فيه، ولا يمكنني استئناف عمل طعام آخر؟ فقال لي الفضل: نحن نقنع منك بما في منزلك من طعام أهلك. ثم دعا بالخلال، وخرج إلى صحن الدار، فأدار بصره في جنباتها وسقوفها وأروقتها، ثم قال لي: يا محمد، من بجوارك؟ فقلت: جعلت فداك، فلان التاجر عن يميني، وفلان الكاتب عن شمالي، وخلف ظهري رجل قد ابتاع خربة، فهو في بنيانها لا يبرح. فقال لي: أفتعرفه؟ قلت: لا. قال: كان الأليق بمحلك منا أن لا يجترئ عليك رجل ويشتري بقربك شيئا إلا بأمرك، ولا سيما إذا كان ملاصقا لك. فقلت: ما منعني من ذلك إلا ما كنت فيه من الاشتغال بهذه الدعوة المباركة. قال: فأين الحائط الذي يتصل بدارك؟ فأومأت إلى موضع من الدار، فقال: علي بنجار. فأتى به فقال له: افتح هنا بابا. فأقبل عليه أبوه وقال له: نشدتك الله يا بني، لا تهجم على قوم لم تعرفهم. وأقبل عليه أخوه بمثل ذلك، فأبى إلا فتح الباب، وخفت مغبة ذلك، ولم أجتر على الكلام بعد أن رد أباه وأخاه. ففتح الباب في الحائط، ودخل منه، ثم بعث إلى أبيه وأخيه أن ادخلا، فدخلا، فإذا في وسط الدار فتى جالس على سرير، وعلى رأسه عشرون غلاما كأنهم الدنانير بالمناطق المثمنة، فقاموا بأجمعهم بين يديه فدخل الدار، وطاف في مجالسها وخزائنها، فوجدها مشحونة بآلة الملوك من الفرش والأواني، فأقبل علي وقال: يا محمد، أيما أحسن هذه أم دارك؟ فقلت: أصلح الله الوزير، والله ما رأيت مثل هذه الدار، وإنها لا تليق إلا بك. فقال لي: أتحب أن تكون صاحب الدار، ويكون مالكها عبدا لك؟ فقلت: جعلت فداك، من أين لي ذلك؟ فقال: اعلم أنك لما نهضت من بين يدي ساعة سألتك دعوتي، أمرت غلامي بشراء هذه الخربة وبنائها واتخاذ كل ما ترى فيها، وقد وهبتها لك بكل ما فيها، يا غلام، هات ما عندك من الطعام، فأتي بطعام ما رأيت مثله، فجعلوا يأكلون.
ثم نظرت إلى جعفر، فرأيت الكآبة بادية على وجهه، وقد التفت إلى أبيه وقال: يا أبت، أعزك الله، لا أزال أشكو أخي أبا العباس إليك ولا تنصفني منه، أفترضى له أن يختص بهذه المكرمة دوني، ويضن بمشاركتي إياه؟ فأقبل يحيى على ولده الفضل وقال: يا بني، لقد كنت أولى أن تشرك أخاك في هذه النفيسة. فقال له: جعلت فداك، والله ما تفردت بها دونه، ولا استبديت بها دونه، ولقد تركت له صفوها. فقال: ما هو وقد قضي الأمر؟! فقال الفضل: إن محمدا هذا رجل قليل ذات اليد، لا مال له، ولا ضيعة عنده تقوم بهذه الدار، ومتى خلي بينه وبين هذه الدار وهؤلاء الغلمان لم يقو على ذلك، وكان مضرا بحاله، وضيعتك الفلانية مشاكلة لهذه الدار، فأوهبها له؛ ليقوى بها على أمره. فقال له جعفر: صدقت، لقد فرجت عني، يا غلام، هات كتاب الضيعة. فسلمه إلي، وقام يحيى، فضم ولديه إلى صدره وقبلهما ، وقال: بأبي أنتما وبنفسي أقيكما، لا أخلاكما الله من مزيد بسطة ونعمة جليلة، ولا أخلاني فيكما من دوام العافية وطول العمر واجتماع الشمل. (قال): فبكى المأمون عند استماعه ذلك، وقال: والله لقد برز القوم في فضلهم، وسبقوا بمجدهم، إنك لجدير يا محمد أن تطنب فيهم، وأمر برد نعمته عليه، وأمر له بألف دينار.
الضيافة عند العرب
رواية معربة بقلم أحد الأدباء
اطلعنا في أحد أعداد من النشرة التونسية على خبر، رواه أحد وكلاء الدعاوي في تونس، أحببنا إثباته هنا؛ ليرى القراء أن ما نقل عن جود أهل البادية وعن تفانيهم في إكرام الضيف وتأهيل الغريب في القرون الغابرة قد توارثه العرب المحدثون، كخلفة شريفة يبذلون دونها نفسهم ونفيسهم، ويتفاخرون بها مرددين قول الشاعر:
الله يعلم أنه ما سرني
شيء كطارقة الضيوف النزل
ما زلت بالترحيب حتى خلتني
ضيفا له والضيف رب المنزل
قال الراوي: دعتني واجبات مهنتي في أواسط شهر آب سنة 1893، إلى بلدة تدعى زاوية المعيصرة شمالي «قربة» في أنحاء رأس الدار
Cap-Bon ، فعقدت فيها جلسة لاستنطاق بعض الجناة، ثم اتخذت لي دليلا من عرب الناحية نحو الساعة الثانية بعد الظهر؛ ليسير بي إلى «نابل» قبل ورود الليل، وما كنت لأباشر سيرا كهذا في فصل القيظ، لولا أني رأيت أديم السماء قد غطته السحب فلطفت ودائق الحر.
فلما صرنا على مسافة بعض أميال من «قربة» اكفهر الجو، وومض البرق الخاطف للأبصار، وعصفت الريح، فثار من الأرض عجاج كحل العيون بذراته، ولم يلبث قصيف الرعد أن دوى، ومزق أديم الزرقاء، وأجرى الأمطار كالسيل المدرار، فصارت ثيابي بعد قليل كعصير الماء إلا أن رفيقي صاح بي قائلا: «بارك الله فيك يا سيدي، فإن سفرك لميمون، دونك المطر غسال البيدر، ولكن لا سبيل إلى مواصلة السير، فهيا بنا نحل في هذا الدوار على شمالنا في جانب الطريق.»
فأذعنت لقول دليلي، وركضت جوادي إلى حيث أشار، فلما اقتربنا من المكان هرت في وجهنا الكلاب، وكادت تهجم علينا، وإذا برجل من أهل الدوار خرج فتقدم إلينا، فابتدره رفيقي بالسلام وقال: بشراك يا شيخ أحمد، هو ذا السيد ب. وعبدك أتيناك طالبين ضيافتك، فنسكن عندك ريثما يأذن الله في ركود الريح وهدو العاصفة. - بارك الله فيك وفي السيد القادم.
منزلنا رحب لمن زاره
نحن سواء فيه والطارق
قال هذا، وأمسك المطايا لنترجل عنها، ثم سلم الخيل لولد، وأدخلنا داره في وسط حيه، وهم يدعون الحي قربي
gourbi ، وكانت الدار مفروشة بحصير من الحلفاء، فأجلسنا في صحنها وأكرم مثوانا، ثم خرج بعد حين مستأذنا بالذهاب، طالبا أن ننتظره.
مرت علينا ساعة، وإذا بصاحب الدار عاد وبين يديه جفنة من الكسكس، وفي أثره غلمان يحملون القصاع، فيها إدام من المرق الأحمر والبندورة والفلفل واللحم غير النضيج، وكان ينبعث من الأطعمة رائحة كريهة من الزيت القنم والسمن السنخ، غثت منهما نفسي، وجشأت، فما استطعت أن أذوق منها لماظا.
فشق على ضيفي امتناعي عن الأكل، وكان عد ذلك إهانة لولا اعتذاري بأني لم أعتد هذه المآكل، فقام على الأثر، وأتاني بعد برهة من الزمان بعدد من البيض النمبرشت.
فبعد البسملة باشرت بنقف بيضة لأتحساها، ثم فكرت في الملح، فطلبت منه قبضة، وأنا لا أدري ما تكمنه لي الأقدار، فخرج الشيخ أحمد إلى مضارب الدوار فلم يجد ملحا عند أهله، فعرفت فضولي وتندمت على طلبي، ثم طيبت قلب الشيخ قائلا: إنني عنه لفي غنى. لكنه لم يصغ إلى كلامي، بل أومأ بيده إلى غلام هناك، فاقترب منه شاب في مقتبل العمر، رشيق القد، جميل الهيئة، حسن البزة، وهو مشتمل بإحرام، فنظر إليه الشيخ نظرة مفتخر وقال لنا: «هذا علي ابني.» ثم التفت إلى الفتى قائلا: «أبني علي، كأني بالعاصفة قد سكنت ثائرتها، فاركب مسرعا مهرنا الخضراء، واذهب إلى أقرب دوار منا، وائتنا بملح.»
فتصديت للشيخ ما أمكنني، وحلفت بأيمان محرجة أني لا أذوق البيض إذا خطا علي ابنه خطوة خارج الدوار، لكن الشيخ أحمد لم يكترث لقولي، فسار الغلام، وبقيت في الدار وحدي مع الدليل وضيفي.
فمضى علينا نصف ساعة ثم ساعة ثم ساعتان قبل أن نستبشر بعودة الغلام، فانفرط بيننا سمط الكلام، ثم ساد سكوت أشبه بسكوت القبور، وبدت على ملامح الشيخ أحمد أمارات الجزع والاضطراب، وكان الليل في أثناء ذلك ضرب على الأرض أطنابه، وهدأت كل الحركات، فلم نكد نسمع ركزا، اللهم إلا صوت قطرات من المطر كانت تكف فوق الحصى.
وكانت أتعاب النهار مع قلة الأكل قد هدت قواي، فشعرت بالنعاس قد أثقل أجفاني، وكاد يخدر أعضائي، وكذلك رفيقي أوشك النوم يكتحل عيونه ... ونحن كذلك إذ سمعنا من كثب صوتا منكرا، أطار النوم عن العيان واقشعرت له الأبدان، وكان الصوت صراخا فاجعا مستطيلا، طرحته امرأة في بطن الليل الداجي، ثم أردفت الكلاب من بعده فصخبت صخبا شديدا، وملأت الحي نبحا.
فوثبنا ثلاثتنا إلى الجربة؛ لنرى ما الخبر، وإذا بأصوات البكاء والعويل تتوالى، فتقرب إلينا وفي جملتها ولولة النساء لا تخمد من حين إلى آخر، حتى يسمع هتاف أفظع من الصراخ الأول، كاد يجمد له الدم في العروق.
وكنا نحن على باب الجربة، ينظر بعضنا إلى البعض نظر المتحير الدهش، لا ندري ما الداعي لهذه أصوات الويل والثبور، إذ تراءى لنا نور مشعل ضئيل، فميزنا في ضوئه جنازة يحملها نفر، وكان على الجنازة جثة هامدة، ولم نلبث أن عرفناها، وإذا هي جثة علي، ذاك الشاب ذي البهاء والجمال الذي راقنا منظره في أصيل النهار.
وكانت علة موته أنه لما عاد من الدوار حيث أرسله أبوه لطلب الملح؛ عثرت رجل فرسه في دجى الليل، فوقع الراكب من ظهرها، وصدم رأسه بصخرة في الطريق فمات موتا وحيا، فلما استطال أهله عودته أرسلوا قوما يستطلعون أخباره، فوجدوه صريعا بين الصخور.
وبينما كان حملة النعش يحطون بجسم الميت، كان الشيخ أحمد ينظر إلى ابنه نظرة أب فجع بفلذة أكباده ومظنة آماله، وأنا سبب موت الغلام على غير اختياري، بل رغما مني، كنت بقربه واقفا واجما، لا أبدي حراكا، كأن صاعقة انقضت علي ففلجت جسمي، أما الدليل رفيقي فكان يسرح بصره بين الوالد المسكين وبيني ، لا يدري ما يقول أو يفعل .
فمد الميت في زاوية من الجربة، وكان فوه منفتحا، كأنه يريد التكلم، فأشار الشيخ إلى النسوة أن اكففن عن العويل. فسكتن للحال، وخرجن مطرقات صامتات.
عندئذ دعانا ضيفنا ودعا معنا كل الحضور؛ لندخل المنزل، فجلسنا حوله لا ننبس بكلمة، وكان كل منا يجيل في فكره حوادث ذاك النهار المشئوم، وكانت كل أصوات الخارج قد هدأت ثانية إلا قطرات ماء المطر، كانت تسمع بقبقتها عند سقوطها في أجران الماء، تحسب صوتها في هدو الليل الدامس كصوت الموت.
وبقينا كذلك مدة غائصين في بحر الغم، إذ لمحنا الشيخ أحمد، فرأيناه مسح وجهه ولحيته بيديه قائلا: «الله أكبر، إنه وحده أزلي لا يموت.» ثم التفت إلى أحد الحضور فسأله: وهل أتى بالملح؟ فقام رهط من الجلوس ودسوا جثة الميت، فوجدوا لفافة فيها الملح، فوجه الشيخ الكلام نحوي قائلا: «سيدي، إن ولدي أتاك بالملح، فقم بلا تكلف وشرفني بأكل طعامي.» ثم أراد أن ينشطنا على الأكل، فأخذ دبلة من الكسكس وأدخلها فاه، وقال للجلوس: «هيا، باسم الله، يا أسيادي كلوا.»
فلما رأيت هذا الجلد، وسمعت هذا الكلام عمل في منظر الشيخ عملا لا يوصف، فاندفعت أبكي وعلا صوت نحيبي، ثم خرجت من الدوار وحدي، رغما عن العاصفة وأهوال الليل وقفر المكان لا أعي، فقام الشيخ مع الحضور ليوقفوني ويردوني إلى المنزل، إلا أني لم أعرهم سمعي، ولم أنكص على الأعقاب لتوسلاتهم وإلحاحهم، بل سرت هائما في وجهي إلى ما شاء الله.
صفحه نامشخص