أذعن قدموس لأمر أبيه واختار من رفقائه، شبان صور، نفرا عرف شجاعتهم وإقدامهم، وأخذ معه عبيده وأبحر على سفينة قوية البنيان، فطاف في البحر المتوسط الشرقي كله: من إكريت إلى رودس فثاروس فتراقية، فلم ير لأخته أثرا. ومن تراه يستطيع كشف ما شاء جوبيتر إخفاءه؟!
ولبث قدموس يسير ليل نهار إلى أن وصل إلى يوثيا في اليونان فأم معبد أبولون في دلف، وقرب له ذبيحة وسأله أن يدله على الأرض التي يمكنه السكنى فيها، فأجابه أبولون بلسان بيثي هاتفته: أن انقطع عن البحث عن أختك وسر في الحقول المنفردة تر عجلة لم يعرف عنقها النير ولا تعبت قوائمها بجر المحراث، فاتخذها دليلا لك واتبعها حيث تسير، وحيثما تقف قف، وابن سور مدينة تدعوها بيوثى.
عاد قدموس من المعبد، ولجأ في تلك الليلة إلى مغارة كاستالي، ولما برق الفجر انحدر ورفاقه من المغارة وساروا سيرا لينا، وإذا بعجلة تطلع عليهم لا أثر في عنقها لعبودية النير، فاتبعها ومن معه ماشين على خطاها، وهو يصلي في قلبه لأبولون الذي رأف به وهداه. وبعد أن اجتازوا حقولا ومروجا وقفت العجلة، ورفعت نحو السماء جبهة يزينها قرنان طويلان وعجت عجيجا هز الهواء هزا، ثم التفتت إلى قدموس، وانبطحت على العشب الطري كأنها تقول له: هنا ابن سورك، ثم توارت ذائبة في الفضاء، فشكر قدموس إلهه وقبل تلك الأرض الغريبة وحيا الجبال والبراري التي تحيط بها، وعزم على تقديم ضحية تكريما لآلهة تلك الأرض واستنداء لعطفهم وعونهم، ولكن لا بد من الوضوء قبل التضحية، ولم يكن هناك ماء، فأرسل بعض رفاقه وعبيده ليبحثوا عن ينبوع يستقون منه، وكان في جوار ذاك المكان غابة عذراء لم تضرب فأس على شجرة من أشجارها، وفي وسطها مغارة تظللها صفصافة مهدلة الأغصان مصففة الأوراق، وفوق المغارة حجارة مرصوفة في شكل قبة، وأمامها عين ماء ثرثارة، وكان في أعماق تلك الخلوة ثعبان كبير أزرق اللون هو ابن المريخ (مارس) رأسه ساطع كالكوكب، واللهب ينبعث من عينيه وجسمه يذخر بالسم، ويندلع من فمه ثلاثة ألسنة كثلاثة أسهم من نار بين ثلاثة صفوف من أنياب محددة كالأسنة. ولم يكد الشبان الصوريون يدخلون وعبيدهم هذه الغابة المشئومة ويضعون أجاجينهم في ماء العين ليملئوها حتى أبرز الثعبان الأزرق رأسه من مغارته وصفر صفيرا راعبا، فسقطت الأجاجين من أيديهم وجمد الدم في عروقهم وعرتهم قشعريرة باردة، وإذا بالثعبان يلوي ذنبه حلقا ويزحف متمعجا، ثم تقوس ذنبه قوسا عظيمة زنرت الغابة كلها، فتراجع الفينيقيون ليمكنهم رميه بسهامهم والفرار من وجهه، ولكنه انقض عليهم، فسمرهم الذعر في أمكنتهم، وأعمل فيهم أنيابه فمزق أبدان بعضهم تمزيقا، وطوق آخرين بذنبه فقطعهم، وسم غيرهم بنفسه فلم يبق منهم حيا.
جنحت الشمس إلى المغيب وقدموس ينتظر رفاقه، وأدهشه أن يكونوا قد تأخروا فمشى يبحث عنهم وكان لابسا جلد أسد ومسلحا بحربة لماعة السنان ومزراق خفيف، ومتكميا بقلبه الشجاع الذي كان يفضل كل الأسلحة، فدخل الغابة وتوغل فيها حتى وصل إلى قرب عين الماء، فرأى جثث رفاقه منثورة قطعا على الحضيض، والثعبان الهائل يسترهم بعظيم هيكله، ويلحس بلسانه الدماء الفائرة من لحومهم الممزقة، فطار صوابه وصاح قائلا: لبيكم يا ذوي القلوب المخلصة! فإما أن أنتقم لكم أو التحق بكم إلى عالم الظلمات. ثم تناول بيديه القويتين صخرة كبيرة، ورجم بها الثعبان رجمة لو وقعت على قلعة لزعزعتها، فلم تؤثر فيه؛ لأنه كان ممنعا بحراشيف كأنها دروع من زرد مكين، لكن هذه الحراشيف لم تكن لتصد الأسنة عن المرور إلى لحمه الطري، فسدد قدموس إليه مرزاقه، وأطلقه فانطلق يصفر في الهواء صفيرا صادعا، وسقط من الثعبان في عموده الفقري وتغلغل منه إلى أحشائه، فأحس عندها الألم ولوى عنقه إلى ظهره، فرأى المزراق غارزا فيه، والدم يفور من مغرزه، فجعل يعجمه حنقا وألما ويزعزعه ليخرجه حتى تمكن من نزع قناته، ولبث السنان عالقا في عظامه، ففح [فحيحا]
1
دوت منه الغابة، وطفا على شدقيه رغوة من السم الأسود، وانسل يدور حينا في شكل لولبي وحينا ينتصب كالعمود، فترتج الأرض من وقع حراشيفه عليها، ثم قفز قفزات واسعة مرتميا كالشؤبوب المنصب يقتلع من الأشجار ما يصده، فلم يذعر قدموس، ولكنه وقف في سبيل انقضاضته كالسد المنيع ومكن حربته من حنكه، فهاج هيجان البركان وعض سنان الحربة وهو ينكفئ فغرز السنان في حلقه ولم ينفذ؛ لأن تقهقره حماه نفاذه من قفاه، وكان قدموس يلتحق به ملحا حتى رأى رأسه يصطدم بسنديانة ضخمة، فضغط بحربته حلقه، فاخترقته والسنديانة معا، والتوت السنديانة تحت ثقل جثته وتنهدت تحت ضربات ذنبه المتوالية عليها، تلك الضربات التي كان يلفظ بها آخر أنفاسه.
وقف قدموس ينظر إلى ابن المريخ محتضرا، وإذا به يسمع هاتفا يهتف به قائلا: «لماذا تملي نظرك، يا ابن آجينور، الثعبان الذي قتلته؟ توقع أن تتحول يوما إلى ثعبان ...»، فرعب قدموس وقف شعره ولبث مشدوها لا يدري ما يفعل، فانحدرت إليه مينرفا من أعالي مناطق الهواء، وأمرته بأن ينبش تراب الأرض، ويقتلع أسنان الثعبان ويدفنها في الأرض، فتكون بذورا لشعب جديد، فأطاع قدموس أمرها وشق الأرض أثلاما، ونثر الأسنان فيها، ولم تمر ساعة حتى رأى بطن الأرض يتقلقل، ثم برزت منه أسنة حراب كثيرة، فرءوس رجال فأكتاف فأذرع وصدور، فبطون وأفخاذ وسوق، رجال دارعون، مسلحون بالقسي والحراب. فانتضى قدموس حربته وهم بمنازلتهم فقالوا له: لا تخف منا ولا تدخل في حرب أهلية نثيرها بيننا، ثم تراموا بالسهام وتطاعنوا بالحراب فتساقطوا أشلاء، إلا خمسة بينهم بطل عنيد يسمى إيشيون، وفيما هو يطاعن الباقين من رفاقه مثل أمامه تريتون أحد آلهة البحر، وأمره أن يكف عن حرب إخوانه ويصالحهم، ففعل إيشيون ما أمره به الإله، وانطلق والأربعة الأخر مع قدموس فساعدوه في بناء مدينة بيوثى التي أوعز إليه أبولون أن يبنيها، وسكنوا معه فيها ونجلوا أولادا وحفدة فكانوا آباء القبائل الخمس التي تألف منها السبرطيون.
ملك قدموس على بيوثى وعطف عليه المريخ وزوجته فينوس، ورضيا بأن يصهر إليهما فزوجاه ابنتهما هرمونيا، وأهدى إليه الإله فولكان رداء وعقدا ألبسهما هرمونيا، وكان العقد طلسما مشئوما على كل من لمسه ما عدا لابسته، فسبب هلاك كثيرين فاستاءت منه هرمونيا وأهدته إلى معبد أبولون.
وولدت هرمونيا لقدموس سميلا «الثائرة» وإينو وإريسته، ثلاث بنات امتزج فيهن الجمال اللبناني بالجمال اليوناني.
وبينما كان قدموس جالسا ذات يوم وزوجته هرمونيا مغبوطين بنسلهما سمعا هاتفا يقول: لا تغتبط يا قدموس بما ولد لك من بنات، وبما سوف يولد لك من حفدة وأسباط وحفيدات، ولا تحسب أن سعادتك تدوم، وإنما انتظر ما كتب لك من آلام.
صفحه نامشخص