وذات يوم حضر السباق ولد يدعى هيبومين، وكان في أول الأمر يضحك من الشبان الذين يستسلمون للقتل من أجل امرأة، ولكنه لما رأى وجه أتلانت وجسمها، وقد كشف الهواء ثوبها عنه، رفع يديه شأن المتوسل، وخاطب المستعدين للسباق قائلا لهم: «عفوكم أنتم أيها الذين كنت ألومكم، فإني لم أكن قد عرفت قيمة المكافأة التي تتهالكون في سبيل نيلها.»
وشعر منذ ذلك الحين بحب شديد لأتلانت حتى إنه كان يرجو ألا يسبقها أحد، ولكن من يستطيع مسابقة النسيم؟! وعزم على أن يجازف بحظه لعله يسبقها، فيحظى بها أو تسبقه فيموت بها. وفيما كان يفكر في هذا كانت عذراء الغابات طائرة في عدوها، وبينما كانت تطوي المسافات كالسهم المارق كان هيبومين ينظر إليها فيشاهد جمالها، ويرى شعرها متطايرا على كتفيها، وأطراف سيور حذائها المطرزة تتلاعب على ساقيها فتزين ركبتيها، وبياض بدنها العذراوي الملون بالوردي يتلألأ في لون بقايا الشفق. وبينما هو مأخوذ بهذه المشاهد، إذا بها عائدة وعلى رأسها إكليل الظفر، والمغلوبون يرانونها المراناة الأخيرة.
فدنا منها هيبومين وسألها أن تأذن له بمسابقتها، وقال لها: ماذا تجديك هذه الانتصارات التافهة على خصوم ضعفاء؟! تعالي وسابقيني فإن غلبتني غلبت حفيد نبتون إله البحار وابن سبط ملك المياه، وإذا غلبتك فلن تكون غلبة مثلي لك عارا عليك.
وكانت تنظر إليه وهو يتكلم فراقها حسنه وجرأته على صغر سنه، وشعرت بحب له، ولكنها لا تستطيع الزواج به، وخشيت أن تسبقه، إذا سابقته، ولا تريد قتله، فتلطفت إليه تحاول إقناعه بالعدول فلم يقنع، فأجابته إلى طلبه مرغمة، لا سيما أنها شعرت بحبه لها، وبعزمه على المغامرة بنفسه بغية الوصول إليها، ولامت عينيها اللتين وقفتا عليه، فشاهدتاه وشاهدتا آيات الطفولة العذراء على وجهه.
وكان الحاضرون قد ملوا الانتظار فصاحوا طالبين السباق وتأهبت أتلانت للعداء.
قالت عشتروت: فطلب مني هيبومين أن أعينه، فمس فؤادي طلبه، فانحدرت إليه من عليين وأخفيت نفسي عن الحاضرين وترآيت له وحده، وسلمت إليه ثلاث تفاحات، جنيتها من حقل تامازوس في قبرس، وعلمته ما يفعل بها، ونفخ بالأبواق فعدت أتلانت وعدا هيبومين، فكانت تسبقه ثم تقف فتنظر إليه وتنتظره، ثم تعدو فتتقدمه أشواطا، ولما قطعا مسافة رمى إليها بتفاحة فتراجعت لتأخذها فسبقها، ولكنها التحقت به وتجاوزته، فرمى بالتفاحة الثانية ففعلت فعلها الأول، وكان الحاضرون يحمسون هيبومين ويصيحون: اسبقها اسبقها. فرمى بالتفاحة الثالثة، وكانا قد قربا من الهدف، فترددت عن الرجوع إليها، فدفعتها سرا نحوها، فكرت تريد التقاطها، فسبقها واستولى على الهدف وتزوجها، ولكنهما في فرحتهما نسيا أن يكرماني ويشكراني على حسن صنيعي ودنسا هيكلي فغضبت عليهما وحولتهما إلى أسد ولبؤة، هذان هما اللذان أخافهما عليك؛ لأنهما يضمران لي غدرا وانتقاما.
أوصت عشتروت أدونيس وصيتها واعتلت مركبتها التي تجرها الحمائم، وطارت في الهواء منطلقة إلى قبرس في أمر يعجلها، وكان أدونيس شجاعا غير هياب، فلم يراقب وصاة عشتروت، وكانت كلابه قد اتبعت آثار خنزير بري في مشارف لبنان فأثارته من مجثمه فانطلق يسعى إلى الخروج من الغابة، فأرسل إليه أدونيس سهما فجرحه، فهاج وانقض على أدونيس فذعر منه، وجعل يبحث عن ملجأ يتقيه فيه، غير أن الخنزير الجريح الهائج أدركه وطعنه بقرنيه قرب ثندوته فشكه وألقاه على التراب يسيل دمه. ولم تكن بعد عشتروت قد وصلت إلى قبرس، فحانت منها التفاتة فرأت أدونيس مضرجا بدمه، فقفزت إلى الأرض تبكيه وتندبه، وتلوم القدر الذي جعلها تبتعد عنه فيفتك به ذاك الوحش المفترس، ثم خاطبته قائلة: كلا يا أدونيس الحبيب! لن تخضع لشريعة النسيان، فسيبقى منك دائما ذكرى لألمي، ويمثل مشهد موتك في كل سنة، ويذكر بنواحي عليك، وسيتحول دمك إلى زهرة جميلة، قالت هذا وأخذت كأسا من كوثر الآلهة وصبتها على دم أدونيس، فغلى الدم عندما لامسه شراب الآلهة المعطر، ولم تمض ساعة حتى تولدت منه زهرة حمراء تشبه زهرة الرمان، تخفي بزرها تحت قشرة طريئة، ولكن لا يمكن التمتع بمنظرها طويلا؛ لأنها خفيفة ودقيقة الساق تنقطع بسهولة وتسقط في مجرى الرياح.
هذه الزهرة التي تحول إليها دم أدونيس هي زهرة الشقيق، أما جسده الجميل فقد غطته عشتروت بورق الخس والخبازى ودفنته بيديها في أفقا، في ذاك الإطار البديع الذي يؤلفه أجمل مجرى ماء وأروع منظر طبيعي يلفه الاخضرار النضر من أية ناحية رنوت إليه.
وكانت عشتروت في تولهها وتفجعها على أدونيس قد أضاعت شيئا من رشدها، فطفقت تمشي على الورود البيضاء، فتغرز أشواكها بقدميها الطريتين وهي لا تنتبه، حتى سال دم قدميها على الأشواك فنهلته، وتسرب منها إلى الأزهار البيضاء، فاصطبغت بلونه وتحولت إلى ورود حمراء، ومنذ ذلك اليوم صارت الوردة الحمراء رمز الحزن على أدونيس الجميل. (2) قدموس وأوروبا
حدثتنا الهواتف في إحدى ليالي السمر، قالت: كان في الزمان القديم في فينيقية ملك ذو عزة وسلطان يقال له آجينور ابن بوصيدون إله البحار ومزعزع الأرضين، وكانت زوجته صور حورية من حوريات الماء تصيدها على الشاطئ الفينيقي، وأذن له والده بأن يتزوجها، فبنى على الشاطئ مدينة سماها باسمها وجعلها عاصمة ملكه، فولدت له صور أولادا كثيرين فيهم قدموس، فتى قوي الأجلاد شجاع الفؤاد كأنه قد من جلاميد لبنان، وأوروبا فتاة كصباح لبنان بهاء، ونصوع ثلجه ونضارة أوراده لونا، وزبد ينابيعه بضاضة، ولطف نسيمه حديثا، وحباها ملكرت إله صور، فوق ذلك، فطنة وكياسة، وظرفا جعل أباها يولع بها ولا يطيق بعدها عنه، وكم رد من طالب ليدها خائبا حسيرا حينما بلغت عمر البدر وتزاحم الشبان على عتبة باب قصرها.
صفحه نامشخص