وكان أول ما صنعته ديدون أن قدمت قرابين لآلهة تلك الأرض تقربا إليها، ثم اضجعت منهوكة القوى، فزارتها جونون في الحلم وقالت لها: انهضي تجدي رأس جواد فتي، فتبنين مدينتك حيث تجدينه. وهذا الرأس هو رمز إلى الأمة التي سوف تنشئينها، ودليل على أن أمتك ستكون ظافرة في حروبها، وسوف تسود أمما كثيرة، فانتبهت ديدون ونهضت من مرقدها، ولم تسر إلا قليلا حتى رأت العلامة التي وصفتها لها الإلهة جونون، فقبلت التراب شكرا لها، ثم أهابت بأصحابها إلى بناء هيكل تمجد فيه هذه الإلهة المحسنة فلبوها، فبنت ديدون هيكلا كبيرا زانته بأنواع الذهب والجوهر والفضة، وجعلت في أساسه رأس الجواد الفتي، العلامة التي أعطتها إياها جونون، وأقامت له مصعدا ذا درجات في أعلاها رتاج مزدان بالشبه، مصراعاه مصنوعان من جسور من الخشب مربوط بعضها إلى بعض بربط من الشبه، يدوران صافرين على رزات من المعدن نفسه.
وبعد أن انتهت من بناء معبد جونون أخذت تفكر بتحقيق حلم زوجها وبناء مدينة تكون مجمعا قوميا للفينيقيين الهاربين وأنسالهم، ولكنها خافت الاجتراء على أراضي الدولة البربرية المسيطرة في تلك البقاع، ولم تشأ أن تنزل في العاصمة الفينيقية القديمة أوتيكا حذرا من أن تخالف وصية زوجها في بناء مدينة جديدة.
وكان ملك القبائل البربرية المقيمة هنالك يقال له يرباس، وهو ينزل في عاصمته جيتول، التي لا تبعد كثيرا عن الغابة التي لجأ إليها الفينيقيون، فأرسلت إليه ديدون رسلا يسألونه أن يأذن لها ببناء مدينة في أرضه، وأن يطلب ما يريده من مال وجواهر ثمنا للأرض التي يعطيها إياها، فرد يرباس رسلها خائبين، ورفض أن يبيعهم أو أن يهبهم شبرا من أرضه؛ لأن ديانته تقضي بأن تكون الأرض التي يتكون ترابها من رفات الآباء والأجداد ومن بقاياهم ملكا للإله ملكرت، إله الغابات، فلا يجوز بيعها، ولا تصح هبة شيء منها.
لكن رفض الملك يرباس بيع ديدون أرضا لم يثنها عن عزمها ولم يوئسها، فأقامت مذبحا لبعل، إله الشمس، ولما كان هذا الإله جشعا يحب الضحايا البشرية لم تشأ ديدون أن تضحي له بأحد أصحابها، فضحت بأحد ولديها؛ لأن زوجها كان قد أوصاها بأن تقف حياتهما على تحقيق ما تمناه، وهو في قيد الحياة، فأبلغها هاتف بعل أن الإله يأمرها بأن تذهب بنفسها إلى يرباس وتفتنه بجمالها ومحاسنها، فيبيعها أرضا تبني فيها حصنا على التلال القريبة من البحر حيث وجدت إشارة جونون، فيكون هذا الحصن نواة لمدينة جديدة تزاحم أوتيكا، وتنتزع منها السيادة التجارية والحربية.
ولما سمعت ديدون ما قاله هاتف الإله بعل عقدت نيتها على تلبية أمر الإله والذهاب إلى يرباس وإيقاعه في حبائل هواها، وكانت ديدون مثال الجمال النسائي اللبناني القديم: بيضاء مشربة سمرة ذهبية، عيناها كحلاوان فاترتان، وثغرها نقي كحب الغمام، وشعرها كستنائي مسترسل على كتفيها طويل حتى لتكاد أطرافه تلامس كعبيها، ممشوقة القوام، مجدولة الجسم، صافية البشرة، ناعمة الملمس، فتزينت بأبهى زينتها، ونثرت عليها أبدع جواهرها، وتحلت بأجمل حلاها، وتعطرت بأطيب عطورها، ثم انطلقت إلى يرباس فتنة من أروع الفتن.
لم تدخل ديدون على يرباس حتى أخذته سورة سحرها، فجن بها وتاه عقله، وأراد أن يجيب سؤلها ويهبها الأرض التي تختارها فاعترضه خصمه «ندب» زعيم القبائل ونبهه إلى أحكام ديانتهم، واستعان عليه بملكون كبير سحرة البربر حتى تم الرأي على أن يستوحوا ملكرت، ويعملوا بما يوحي به إليهم، فإن له وحده حق التصرف بأرضه، فمشوا إلى الغابات يحملون البخور والخمر والأزهار والسنابل في موكب حافل يملأ عجيجه الآفاق، حتى وصلوا فقدموا التقادم، وقربوا القرابين بعد أن نضحوا الأرض بالخمر وأحرقوا البخور، وهم يتضرعون إلى ملكرت، ويسألونه أن يوحي إليهم: أيبيعون ديدون أرضا أم يمتنعون؟ وإذا بالساحر ملكون يكلمهم بلسان الإله قائلا: إن ملكرت يقول لهم ألا يبيعوا شيئا من أرضه. فعادت ديدون إلى أصحابها وهي أقوى عزيمة مما كانت عليه ساعة ذهابها إلى يرباس، وجعلت تفكر فيما تعمل، فهتف بها هاتف أن الجئي إلى الإلاهة تانيت إلهة القمر فهي توحي إليك بما تعملين، فأقامت ديدون مذبحا للإلهة تانيت، ونضحت عليه الخمر، وأحرقت البخور، وقربت القرابين عجلات أبكارا، فأوحت إليها تانيت أن ترشو الساحر ملكون بالمال، وتتحبب إلى يرباس، وتعده بالزواج وتطلب منه أن يبيعها من الأرض مقاس جلد ثور، ثم علمتها الإلهة كيف تقيس به الأرض التي تبغي شراءها، فأسرعت ديدون إلى ملكون حاملة إليه أموالا كثيرة وجواهر ثمينة، فملكته بها وجعلته طوع يدها، ثم ذهبت إلى يرباس تتثنى دلالا وترفل سحرا. (5) سميراميس البابلية
يتدفق من أعالي جبال أرمينية نهران كبيران: دجلة والفرات. وبعد أن يسير كل منهما، على مسافة، في وجهة غير وجهة الآخر، يتدانيان ويجريان متوازيين نحو الجنوب، ثم تختلط مياههما في مجرى واحد يسمى شط العرب، ويصبان منه في خليج فارس، والوادي الذي ينبسط بين هذين النهرين، بعد تركهما منطقة الجبال، يسمى ما بين النهرين، نشأت فيه مملكتان عظيمتان: آشور وكلدة، ازدهرتا زمنا، أقدمهما بل أقدم مدنية في آسيا هي مدنية كلدة.
وكان الآشوريون ينزلون من هذا الوادي في شماله على ضفة دجلة الشرقية وعاصمتهم نينوى، وينزل الكلدانيون قدماء البابليين في جنوبه وعاصمتهم بابل قائمة على ضفتي الفرات يشطرها هذا النهر شطرين، ولم يكن بد من خضوع إحدى هاتين المملكتين للأخرى، فكانتا تتداولان السيادة، فتسيطر حينا نينوى على بابل وحينا بابل على نينوى.
وكان نهر الفرات يهدد المنطقة الجنوبية من الوادي بفيضانه المتوالي في كل سنة، فأنشأ أهلها قنوات وخنادق يحولون إليها ما يفيض من الماء عن مجرى النهر تحاميا للطوفان وريا لأراضيهم.
واتفق في إحدى السنين أن نزلت أمطار غزيرة في زمن ذوبان الثلوج على جبال أرمينية، ففاض الفرات وتدفقت مياهه فخرجت الأسماك منه إلى الأرض اليابسة، وكان بينها سمكتان كبيرتان رأتا بيضة كبيرة على وجه الغمر فسبحتا إليها ودفعتاها أمامهما إلى الضفة، وإذا بحمامة بيضاء تهبط من السماء وتحتضن البيضة إلى أن تراجع ماء الفرات إلى مجراه، فنقفت البيضة وخرجت منها الإلهة ديركيتو بوجه امرأة وجسم سمكة، إلهة السريان التي اشتهرت بعدلها وفضلها وحكمتها، حتى أن جوبيتر أعجب بها فوعدها بأن يمنحها كل ما تطلبه منه، فسألته أن يخلد السمكتين اللتين أنقذتاها من الطوفان فجعلهما في برج الحوت نجمتين وضاءتين، وهذا ما جعل السريان عباد ديركيتو يحترمون الحمام ولا يأكلون السمك.
صفحه نامشخص