وقد وصف في كتابه هذا عقلية شاب أبيض نشأ بين قبائل السود المتوحشة، وليس ثمة من صلة تربطه بالثقافة التي كونته غير أعمال شكسبير الأدبية، فاستطاع هكسلي بهذا الوضع أن يكشف عن الوحشية وعدم التعقل الشائعين في كثير من المثل المتجاوبة بها عبارات شكسبير والتي هي جزء من ثقافتنا، وعما في كثير من مثلنا العليا في الحب والخطيئة والسلطان من آثار هذه الوحشية.
ولكن بوصفه دنيا جديدة، بنيت خارج نطاق تلك القبائل وعلى تخطيط من الأساليب العقلية الخالصة، حيث يعرف الحب بأنه تنظيم العلاقة بين الذكر والأنثى من الحيوان، وليس ثمة تعريف للخطيئة إلا أنها ما يؤذي المجتمع، فقد أبان عما في أعمق غرائزنا من العقم والمجافاة لهذه الدنيا، ورغم هذا فقد شقت عبقرية هكسلي بهذا العمل اتجاها جديدا له خطره، حطم به البناء الثقافي الذي نعيش فيه جميعا، وسد المنفذ الوحيد المرئي لنا، وكان من الحتم عليه إذا كان رجلا عظيما بحق، أن يدلنا على منفذ آخر أمين نجد السلامة فيه أمرا واقعا ملموسا.
وفي الواقع يتعين على هكسلي أن يجرد من نفسه في المستقبل كاتبا اجتماعيا أكثر منه فنانا، كما تنطق بذلك أعماله الأخيرة في رواية «ضرير في غزة
Eylelss in Gaza » وفي مقاله «الغايات والوسائل
Ends and Means » حيث يبشر برسالته الجديدة صريحا مخلصا أبلغ ما تكون الصراحة والإخلاص.
وهذه الرسالة الجديدة لا تختلف كثيرا عما بشر به تولستوي من قبل، أي إن الإنسان لا يستطيع أن ينقذ نفسه إلا بالتقشف والنسك والتحرر من الرغبات السفلية الوضيعة، وليس ببعيد أن يتاح لنا في حياتنا شهود هذا الطور الجديد متفردا بشخصيته الهامة التي تفرد بها تولستوي.
وقد أثبتت عبقرية هكسلي بهذا العمل الذي استرعى كل انتباه أنه يعد بحق سليل العلامة هكسلي الكبير، صديق داروين وحواريه، وأنه نشأ على غراره مشربا بتعاليم اللاأدرية.
وقد نرى في كتاب كثيرين آخرين من الإنجليز ما يثبت أنهم مضوا في ذات البحث عن تعليل الوحي والوصول إلى مصدر من وراء العقل يمكنهم من كشف أسرار الحياة، ولقد أثر ذلك في بعض اللامعين من الناشئة فأخذوا بالمعتقدات الكاثوليكية التي آثروها عند الكاتب القصصي «إفلين وف
Evelyn Waugh » في رواياته «التدلي والسقوط» و«قبضة من التراب» و«الأجسام الخسيسة» التي يذم فيها المجتمع الذي قام بعد الحرب ويقدح فيه بما أبدعته مخيلته وبما رزقه من الثروة البيانية، وكما فعل «جراهام جرين
Graham Green » الذي برهن بروايته «بندقية للبيع» على أنه من أعظم كتاب الأقصوصة الموهوبين، أصحاب الشعور المرهف كما كان ويلز في صباه، وكذلك كونراد وكيلنج أيام كانا من رواة الأقاصيص.
صفحه نامشخص