هي مأساة أليمة مكتوبة بدماء الأنثى ودموعها، يقرؤها الرجل ضاحكا؛ لأنه لا يفهمها وإن فهمها انقلب ضحكه فجورا وقساوة، وأنزل على رأس المرأة من غضبه نارا وكبريتا وملأ أذنيها لعنا وتجديفا، هي رواية موجعة تمثلها الليالي السوداء بين ضلوع كل امرأة تجد جسدها مقيدا بمضجع رجل عرفته زوجا قبل أن تعرف ما هي الزيجة، وترى روحها مرفرفة حول آخر تحبه بكل ما في الروح من المحبة، وبكل ما في المحبة من الطهر والجمال، هو نزاع مخيف قد ابتدأ منذ ظهور الضعف في المرأة والقوة في الرجل، ولا ينتهي حتى تنقضي أيام عبودية الضعف للقوة، هي حرب هائلة بين شرائع الناس الفاسدة، وعواطف القلب المقدسة قد طرحت بالأمس في ساحتها وكدت أموت جزعا وأذوب دموعا، لكنني وقفت ونزعت عني جبانة بنات جنسي، وحللت جناحي من ربط الضعف والاستسلام، وطرت في فضاء الحب والحرية وأنا سعيدة الآن بقرب الرجل الذي خرج وخرجت شعلة واحدة من يد الله قبيل ابتداء الدهور، ولا توجد قوة في هذا العالم تستطيع أن تسلبني سعادتي؛ لأنها منبثقة من عناق روحين يضمهما التفاهم ويظللهما الحب.»
ونظرت إلي السيدة وردة نظرة معنوية كأنها تريد أن تخترق صدري بعينيها؛ لترى تأثير كلامها في عواطفي، وتسمع صدى صوتها من بين ضلوعي، لكنني بقيت صامتا كي لا أوقفها عن الكلام، فقالت وقد قارن صوتها بين مرارة الذكرى وحلاوة الخلاص والحرية: «يقول لك الناس إن وردة الهاني امرأة خائنة جحودة قد اتبعت شهوة قلبها، وهجرت الرجل الذي رفعها إليه وجعلها سيدة في منزله.
ويقولون لك: هي زانية عاهرة قد أتلفت بمقابضها القذرة إكليل الزواج المقدس الذي ضفرته الديانة، واتخذت عوضا عنه إكليلا وسخا محبوكا من أشواك الجحيم، وألقت عن جسدها ثوب الفضيلة وارتدت بلباس الإثم والعار، ويقولون لك أكثر من ذلك لأن أشباح جدودهم مازالت حية في أجسادهم، فهم مثل كهوف الأودية الخالية يرجعون صدى أصوات ولا يفهمون معناها، هم لا يعرفون شريعة الله في مخلوقاته، ولا يفقهون مفاد الدين الحقيقي، ولا يعلمون متى يكون الإنسان خاطئا أو بارا، بل ينظرون بأعينهم الضئيلة إلى ظواهر الأعمال، ولا يرون أسرارها فيقضون بالجهل ويدينون بالعماوة، ويستوي أمامهم المجرم والبريء والصالح والشرير، فويل لمن يقضي وويل لمن يدين، أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان؛ لأنه جعلني رفيقة مضجعه بحكم العادات والتقاليد قبل أن تصيرني السماء قرينة له بشريعة الروح والعواطف، وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي وأمام الله عندما كنت أشبع جوفي من خيراته ليشبع أمياله من جسدي، أما الآن فصرت طاهرة نقية؛ لأن ناموس الحب قد حررني، وصرت شريفة وأمينة لأنني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس، نعم كنت زانية ومجرمة عندما كان الناس يحسبونني زوجة فاضلة، واليوم صرت طاهرة وشريفة، وهم يحسبونني عاهرة دنسة؛ لأنهم يحكمون على النفوس من مآتي الأجساد ويقيسون الروح بمقاييس المادة .»
والتفتت السيدة وردة نحو النافذة وأشارت بيمينها نحو المدينة ورفعت صوتها عن ذي قبل، وقالت بلهجة الاحتقار والاشمئزاز كأنها رأت بين الأزقة وعلى السطوح وفي الأروقة أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط: «انظر إلى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخمة العالية حيث يسكن الأغنياء والأقوياء من البشر، فبين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء، وتحت سقوفها المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التصنع، انظر وتأمل جيدا بهذه البنايات التي تمثل لك المجد والسؤدد والسعادة، فهي ليست سوى مغائر يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسة، هي قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه، وتنحجب في زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الفضة والذهب، هي قصور تتشامخ جدرانها تيها وافتخارا نحو العلاء، ولو كانت تشعر بأنفاس المكاره والغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض، هي منازل ينظر إليها القروي الفقير بأعين دامعة، ولو علم بأنه لا يوجد في قلوب سكانها ذرة من تلك المحبة العذبة التي تملأ صدر رفيقته لابتسم مستهزئا وعاد إلى حقله مشفقا.»
وأمسكت السيدة وردة بيدي وقادتني إلى جانب النافذة التي كانت تنظر منها نحو تلك المنازل والقصور، وقالت: «تعال فأريك خفايا هؤلاء الناس الذين لم أرض أن أكون مثلهم، انظر إلى ذلك القصر ذي الأعمدة الرخامية والجوانح النحاسية، والنوافذ البلورية ففيه يسكن رجل غني ورث ماله عن والده البخيل، واكتسب أخلاقه من جوانب الأزقة المفعمة بالمفاسد، وقد تزوج منذ عامين بامرأة لم يعرف عنها شيئا سوى أن لوالدها شرفا موروثا ومنزلة رفيعة بين نبلاء البلاد، ولم ينقض شهر العسل حتى ملها متضجرا، وعاد إلى مسامرة بنات الهوى، وتركها في هذا القصر مثلما يترك السكير جرة خمر فارغة، فبكت وتوجعت لأول وهلة ثم تصبرت وسلت سلو من عرف خطأه، وعلمت بأن دموعها هي أثمن من أن تهرق على خسارة رجل مثل زوجها، وهي الآن مشغولة عن كل شيء بعشق فتى جميل الوجه حلو الحديث تسكب في راحتيه عواطف قلبها، وتملأ جيوبه من ذهب بعلها الذي يغض الطرف عنها ؛ لأنها تغض الطرف عنه ...
ثم انظر إلى ذلك البيت المحاط بالحديقة الغناء، فهو مسكن رجل ينتمي إلى أسرة شريفة حكمت البلاد مدة طويلة، وقد انخفض مقامها اليوم بتوزيع ثروتها وانصراف أبنائها إلى التواني والكسل، وقد اقترن هذا الرجل منذ أعوام بفتاة قبيحة الصورة لكنها غنية جدا، وبعد استيلائه على ثروتها الطائلة نسي وجودها، واتخذ له خليلة حسناء وغادرها تنهش أصابعها ندما، وتذوب شوقا وحنينا، وهي الآن تصرف الساعات بتجعيد شعرها، وتكحيل عينيها وتلوين وجهها بالمساحيق والعقاقير، وتزين قامتها بالأطالس والحرير لعلها تحظى بنظرة من أحد زائريها لكنها لا تحصل إلا على نظرات شبحها في المرآة ...
ثم انظر إلى ذلك المنزل الكبير المزين بالنقوش والتماثيل، فهو منزل امرأة جميلة الوجه خبيثة النفس قد مات زوجها الأول، فاستأثرت بأمواله وأملاكه ثم اختارت من بين الرجال رجلا ضعيف الجسم والإرادة، واتخذته بعلا لتحتمي باسمه من ألسنة الناس وتدافع بوجوده عن منكراتها، وهي الآن بين مريديها كالنحلة تمتص من الزهور ما كان حلوا ولذيذا، وانظر إلى تلك الدار ذات الأروقة الوسيعة والقناطر البديعة، فهي مسكن رجل مادي الأميال كثير المشاغل والمطامع وله زوجة كل ما في جسدها جميل وحسن، وكل ما في روحها حلو ولطيف، وقد تمازجت في شخصها عناصر النفس بدقائق الجسد مثلما تتآلف في الشعر نغمة الوزن برقة المعاني، فهي قد كونت لتعيش بالحب وتموت به، لكنها كالكثيرات من بنات جنسها قد جنى عليها والدها قبل بلوغها الثامنة عشرة من عمرها، ووضع عنقها تحت نير الزيجة الفاسدة، وهي الآن سقيمة الجسم تذوب كالشمع بحرارة عواطفها المقيدة، وتضمحل على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة، وتفنى حبا بشيء جميل تشعر به ولا تراه وتصبو حنينا إلى معانقة الموت لتتخلص من حياتها الجامدة وتتحرر من عبودية رجل يصرف الأيام بجمع الدنانير والليالي بعدها، ويصر أسنانه مجدفا على الساعة التي تزوج فيها بامرأة عاقر لا تلد له ابنا ليحيي اسمه ويرث ماله وخيراته ... ثم انظر إلى ذلك البيت المنفرد بين البساتين فهو مسكن شاعر خيالي، سامي الأفكار، روحي المذهب له زوجة غليظة العقل، خشنة الطباع، تسخر بأشعاره؛ لأنها لا تفهمها وتستهزئ بأعماله لأنها غريبة، وهو الآن مشغول عنها بمحبة امرأة أخرى متزوجة تتوقد ذكاء، وتسيل رقة وتولد في قلبه النور بانعطافها، وتوحي إليه الأقوال الخالدة بابتساماتها ونظراتها.»
وسكتت السيدة وردة هنيهة، وقد جلست على مقعد بجانب النافذة كأن نفسها قد تعبت من التجول في مخادع تلك المنازل الخفية، ثم عادت تقول بهدوء: «هذه هي القصور التي لم أرض أن أكون من سكانها، هذه هي القبور التي لم أرد أن أدفن حية طي لحودها، هؤلاء هم الناس الذين تخلصت من عوائدهم، وخلعت عني نير جامعتهم، هؤلاء هم المتزوجون الذين يقترنون بالأجساد، ويتنافرون بالروح ولا شفيع بهم أمام الله سوى جهلهم ناموس الله، أنا لا أدينهم الآن بل أشفق عليهم، ولا أكرههم بل أكره استسلامهم عفوا إلى الرياء والكذب والخباثة، ولم أكشف أمامك خفايا قلوبهم وأسرار معيشتهم؛ لأنني لا أحب الاغتياب والنميمة بل فعلت ذلك لأريك حقيقة قوم كنت بالأمس مثلهم فنجوت، وأبين لك معيشة بشر يقولون عني كل كلمة شريرة؛ لأنني خسرت صداقتهم لأربح نفسي، وخرجت عن سبل خداعهم المظلمة، وحولت عيني نحو النور حيث الإخلاص والحق والعدل، وقد نفوني الآن من جامعتهم، وأنا راضية لأن البشر لا ينفون إلا من تمردت روحه الكبيرة على الظلم والجور، ومن لا يؤثر النفي على الاستعباد لا يكون حرا بما في الحرية من الحق والواجب.
أنا كنت بالأمس مثل مائدة شهية، وكان رشيد بك يقترب مني عندما يشعر بحاجة إلى الطعام، أما نفسانا فتظلان بعيدتين كخادمين ذليلين، ولما رأيت المعرفة كرهت الاستخدام وقد حاولت الخضوع لما يدعونه نصيبا فلم أقدر؛ لأن روحي أبت أن أصرف العمر كله راكعة أمام صنم مخيف أقامته الأجيال المظلمة، ودعته الشريعة، فكسرت قيودي لكنني لم ألقها عني حتي سمعت الحب مناديا، ورأيت النفس متأهبة للمسير، فخرجت من منزل رشيد نعمان خروج الأسير من سجنه تاركة خلفي الحلي والحلل، والخدم والمركبات وجئت بيت حبيبي الخالي من الرياش المملوء من الروح، وأنا عالمة بأنني لم أفعل غير الحق والواجب؛ لأن مشيئة السماء ليست بأن أقطع جناحي بيدي وأرتمي على الرماد حاجبة رأسي بساعدي ساكبة حشاشتي من أجفاني قائلة هذا نصيبي من الحياة، إن السماء لا تريد أن أصرف العمر صارخة متوجعة في الليالي قائلة متي يجيء الفجر، وعندما يجيء الفجر أقول متى ينقضي هذا النهار.
إن السماء لا تريد أن يكون الإنسان تعسا؛ لأنها وضعت في أعماقه الميل إلى السعادة؛ لأنه بسعادة الإنسان يتمجد الله. هذه هي حكايتي أيها الرجل، وهذا احتجاجي أمام السماء والأرض، وأنا أردده وأترنم به، والناس يغلقون آذانهم ولا يسمعون؛ لأنهم يخشون ثورة أرواحهم، ويخافون أن تتزعزع أسس جامعتهم وتهبط على رؤوسهم، هذه هي العقبة التي سرت عليها حتى بلغت قمة سعادتي، ولو جاء الموت واختطفني الآن لوقفت روحي أمام العرش الأعلى بلا خوف ولا وجل، بل بفرح وأمل، وانحلت لفائف ضميري أمام الديان الأعظم وبانت نقية كالثلج؛ لأنني لم أفعل غير مشيئة النفس التي فصلها الله عن ذاته، ولم أتبع غير نداء القلب، وصدى أغاني الملائكة، هذه هي روايتي التي يحسها سكان بيروت لعنة في فم الحياة، وعلة في جسم الهيئة الاجتماعية، ولكنهم سوف يندمون عندما تنبه الأيام محبة المحبة في قلوبهم المظلمة مثلما تستنبت الشمس الزهور من بطن الأرض المملوء من بقايا الأموات، فيقف إذ ذاك عابر الطريق بجانب قبري ويلقي عليه السلام قائلا: ههنا رقدت وردة الهاني التي حررت عواطفها من عبودية الشرائع البشرية الفاسدة لتحيا بناموس المحبة الشريفة، وحولت وجهها نحو الشمس كي لا ترى ظل جسدها بين الجماجم والأشواك.» •••
صفحه نامشخص