لا أعرف كم الساعة الآن، لكني شعرت بالراحة، فلو كانت الثامنة إلا دقيقة فسأطير بها للإسكندرية لا لمحطة القطار. لم أمارس معها ألاعيب الشيطان المثقف. كانت هي وكنت أنا، أمسكت يدها وقمت لنخرج للهواء، أوقفتها أمامي واحتضنتها: ذقني يستريح على رأسها، ورأسها يسترخي على كتفي، وأمامنا ظلام القاهرة ومئذنة ابن طولون، وسلمها يحتضنها كما أحتضن أمل، تحدثنا عن الاحتواء، الاحتضان، التوحد، وختمت حديثي بهمسة بأذنها: «محتاج لك.» بادلتني الهمسة وكأنها تقتلعني من جذوري، ما أروع طريقتها! سألتها أن تأتي إلي بكل جبروتها، ووعدتها ألا أقاوم، فصرحت لي بنفس طريقتها: «سأمتص دمك، وأبقي قطرات قليلة تأتي بها للإسكندرية؛ لأعيد إحياءك وقت الشروق، وطقس البعث سيكون بالبحر، وسأشهد سيرابيس بعثك، كما أشهدت ابن طولون غرقي.»
جذبتها مرة أخرى للداخل هامسا أن تحكي لي عما تريد إخبار سيرابيس به ونحن نستحم بحمامي المتواضع، المكون من قاعدة وخرطوم وبالوعة لتصريف المياه، لم تعترض ووقفت أمامي، أحضرت طبقين ملأت أحدهما بالنفط الرومي والآخر بالماء والصابون وقطعتين من الإسفنج، وبدأت في تحميمها كالأطفال؛ أمسح الألوان بالنفط، بالكاد تلامس قطعة الإسفنج جسدها، ثم أزيل أثر النفط بالماء والصابون، ثم أزيل أثر الصابون بالماء، وأقبل كل ما أنتهي منه. قبل أن أصل لخصرها كانت يداها تستندان إلى كتفي، لم يتحرك جسدها، وكأنني أغسل تمثالا من الرخام، حتى شعرت بأظافرها تشق كتفي، ألسنة من اللهب، جحيمها يسيل دمي؛ لينساب كاسحا الألوان من جسدي، دماء حارة، وأظافر حادة، جذبت من يدي الخرطوم، وأزالت الدماء، وبقي وشم أظافرها، وكأنها تقول لقد مررت من هنا.
لا أعرف متى ارتدينا ملابسنا، أذكر ابتسامة سائق سيارة الأجرة في المرآة الداخلية، كان رأسها مستندا إلى صدري، وأحيطها بذراعي، وكلانا مبتسم، وزادت ابتسامتنا بابتسامته، كأنه يعرفنا، وحين أعطيته أجرته ابتسم، وأوصاني بالعناية بها، نظرت إليها ثم شكرته مبتسما.
مشينا لشباك التذاكر، طلبت تذكرتين، مدت يدها لتأخذ النقود من يدي، ومدتها للموظف بالشباك قائلة: «تذكرة واحدة.» انتظرتها حتى انتهت، وأخذت التذكرة، ووضعت باقي النقود بجيب قميصي، وأنا أراقبها، سألتها لماذا، أجابت أنها لا تريدني أن أركب القطار الخاطئ، إن أردتها فعلي أن ألحق بها ... رفعت حاجبي ونظرت لها ما بين الإعجاب والاستنكار، مدت سبابتها لتلامس شفتي كي لا أتكلم، وأضافت: القطار التالي يتحرك بعد ساعة، ساعة كافية لتعرف إلى أين تريد الذهاب.
شدت على يدي وأعطتني ظهرها وانصرفت، لم أصدقها، هززت رأسي كي أفيق، ابتعدت وأنا أتابعها، ابتسمت، كنت سعيدا بهذا الجنون. ساعة لأعرف إلى أين أريد الذهاب. بالطبع كنت تخطيت خط العودة. عدت لشباك التذاكر واشتريت تذكرة في قطار التاسعة، وأحضرت بعض القهوة ومشيت لرصيف القطار لأنتظر ساعتي هناك.
رائحة القهوة، دخان السجائر، أثر النبيذ، ووشم أظافرها، عام كامل، أنتظرها وتقضي ليلة معي، لم أرها عارية، بل كانت ترتدي سمرتها، لم يظهر منها الكثير، أي روح تلك التي تسكنها، أي روح تختفي خلف هذا الجسد الممشوق؛ كمال دون إسراف، واكتمال دون إفراط، تخطت الكفاية، ومنحها الله التمام، فإن نقص ما لديها نقصت، وإن زاد ما زادت، فما بعد التمام زيادة. باحت دون رجاء، وطلبت دون تردد، ومنحتني مهلة لأقرر، صدقت حين تحدثت عن الجبروت. لا أذكر أن امرأة من قبل تذكرت سيرابيس، وهي تذوب بين يدي رجلها، طقس البعث، العودة، اقتربت ساعتي من الانتهاء، لأعود إليها، عودتي الأولى. ركبت القطار، وجلست مبتسما، مأخوذا. صرير يعلن تحرك القطار، وآخر يعلن وصوله، وما بينهما، أنا وهي وسيرابيس الذي لا يعرفه أحد، قمت من مقعدي وتذكرت أنني لا أعرف عنوانا لها؛ ابتسمت.
دماء الآلهة
هدأ القطار قليلا، يلتقط أنفاسه حتى لا يدخل المحطة لاهثا، أعلن وصوله بصفير وصرير؛ فانفرجت ذراعا المحطة لتحتضنا البطل العائد، يتوقف تماما بين ذراعيها، وسكانها بأزيائهم الموحدة يتحركون في كل مكان، وزوارها بأزيائهم المتنوعة لا يجمعهم غير بطولة المكان.
نزلت من القطار، لا أحب الزحام، يستهلك طاقتي، لكنني لم أهبه اليوم. كنت أعرف أنها ستأتي، ستجدني وأجدها، فلا معنى لمجيئها إن لم نلتق. تحركت باتجاه البوابة؛ بوابة الخروج من محطة سيدي جابر، كنت أبتسم لآدم الأول، فالآن عرفت شعوره وقت أن انتظر خروج حواء؛ هل كان من الممكن أن تخرج منه ولا يلقاها؟
نظرت ناحية بوابة المحطة؛ محطة سيدي جابر، ثم أحنيت رأسي قليلا لأختار البقع الفارغة من الأحذية على الأرض، وأحتلها بخطوتي سريعا، محافظا على اتجاهي ناحية البوابة، وصلت للبوابة، بحثت سريعا عن أقرب مكان للجلوس، وتوجهت إليه بنفس الطريقة، اعترضني حذاء خفيف بالكاد يغطي أصابع القدمين وعروق نافرة في سمرة ظهرها، تظاهرت بالتحرك فتحركت معي، ابتسمت قبل أن أرفع عيني؛ فستان بسيط بلون الكتان الخام، بلا أكمام.
صفحه نامشخص