الوشاح البرتقالي
ثلاثة أيام ولم تظهر أرتيميس ربة القمر، وامتلأت صفحات أرتيميس إلهة الصيد بالتفاصيل والرسومات، ثلاثة أيام كانت أمل تنتقل بين إلهات وأنصافهن وأشباه القديسات والبشر، تصحو من نومها مثل أفروديت، تخرج من المحارة وتزيح عن جسدها أعشاب البحر، تجلس على الأرض ساندة ذراعها على الأريكة مثل هيرا الجالسة عند قدم زوس، تثني ركبتيها مثل هوجيا تعالج العصفور، تستحم جالسة مثل أفروديت، تتحرك مع ألحانها مثل الثلاثي هوراي: يونوميا، وديكي، وإيريني، حول أبولو وهو يقود عربة الشمس. وحين تتحرك عارية فهي الثلاثي خاريتيس: يوفروسوني، وثاليا، وأجليا. لم يبق لدي سوى انتظار خروج بروتيوس من البحر ليتمدد ويستريح فأشد وثاقه عند نومه وأسأله: متى سأقابل أرتيميس ربة القمر؟
كنت أنظف البيت وأنام وقت ذهابها للجامعة، وألازمها بقية الوقت، حتى صورها المتكررة، وطقوسها الثابتة، أستمتع بها وكأنني أراها للمرة الأولى، لم يصبني الملل، بل كان الشوق ينهشني لأعرف أمل الأخرى، صاحبة الشال البرتقالي، أرتيميس ربة القمر، كادت تنتهي من طقوس الطعام وتنظيف الأطباق، لكنها اليوم لم تشغل الموسيقى وتسترخ، بل أحكمت إغلاق زجاج النوافذ، وتهادت حافية ناحية غرفة جدتها، ليس موعد نومها، لم تدخل غرفة جدتها، بل فتحت الغرفة المغلقة بجوارها، الغرفة التي لم أدخلها حين زرتها، قالت لي إنها مغلقة، أضاءتها، كانت الستائر خلف نافذتها تحجب الرؤية، لم تتأخر كثيرا فمع إظلام الغرفة، خرجت هي؛ أرتيميس ربة القمر، بملابسها الغريبة، خطت بكعبها الطويل بإيقاع خفيف نحو فراغ المعيشة، وضعت وشاحها البرتقالي على كتفيها، وخرجت من البيت، وقبل أن تصل لبوابة البناية كانت السيارة الفارهة تقف في انتظارها، ركبتها وانطلقت، وتذكرت أنني لا أملك سيارة للحاق بها، لكنني في اللحظات القصيرة التي أطلت فيها تمكنت من رسمها.
رحلت أمل الأخرى، أرتيميس إلهة القمر، وبقيت وحدي بصحبة دفتر الرسومات والملاحظات، ربما هذا وقت ديونيسوس وبعض النبيذ، وموسيقى ديبوسي الذي لا أحبه، كنت أحتاج دايدالوس ليصنع لي أجنحة من الريش كالتي هرب بها هو وإيكاروس ابنه لأحلق خلف أمل، لكن آلهة الإغريق لا يأتون أبدا حين تحتاجهم، حتى أنغام ديبوسي لا تأتي بهم، هل تعرف أمل ربة الصيد بأمل إلهة القمر؟ لم يظهر عليها أنها تعرفني بثوب إلهة القمر، أيهما تملك ذاكرة الأخرى؟ من أمل؟ ومن الأخرى؟
طال غيابها؛ فنزلت لعامل الجراج تبادلنا الحديث قليلا، وانتهى الحديث بصدمتين؛ الأولى: أن أمل من القاهرة وتأتي للإسكندرية لعملها في الجامعة منذ سنوات. والثانية: أنها الابنة الوحيدة للطبيب الراحل إسماعيل خطاب، وهو من عائلة رأسمالية عريقة، وهذا يفسر سيارتها الفارهة، كم تمنيت أن تكون أرتيميس إلهة الصيد هي الشخصية الحقيقية لأمل، لكن لم أدرك ما تمنيت؛ فالحقيقة واضحة أن الشخصية الحقيقة هي أرتيميس ربة القمر، وأن أمل التي أعرفها هي شخصية بديلة، ولا أعرف لو قبلت العلاج فحين تشفى عن أي شخصية ستتخلى هي؟ هي لا تعرفني بشخصيتها الحقيقية.
أمامي البحر، ومن خلفي المدينة، جلست، كانت نوكس تجري بخيول عربتها الأربعة من الشرق إلى الغرب، وتلقي ستائر ظلمتها خلفها؛ فاستكان لها البحر، واستكانت له، لم تكن تحبني أبدا، أعرف جيدا؛ فهي دوما تجعل هوبنس يمنع عني نومها، والآن بعد أن عشقت أمل، تجعل أخاها موروس يحيطني بأستار الحظ السيئ؛ فمن عشقت هي بديل لأخرى لا أعرفها، ابتسمت لظلمتها سائلا، أين أويزوس؟ فلم يبق لي سوى الحزن، لا أعتقد أنها تصدقني، أمل قالت إنها تعرف أنني محتال وكاذب، لكنني أعجبها، هي قالت؛ فلماذا تمطرني نوكس بلعنات أسرتها؟ أرسلي الآن كل ما لديك، أرسلي ثانتوس بموته، لا، لا، بل كير بموته العنيف وأحلامه المخيفة، لم يعد يثيرني استرضاؤك، لم أحب أفروديت، لم أثق بها أبدا، كان يمكنني اللجوء لهيرا، نعم هيرا، كم من مؤامرات نسجت وكم من خدع غزلت! حتى وإن كانت تخسر أمام أفروديت، لأن الأخيرة مجرد غانية، غانية جميلة، لكنها غانية، ولكنها جميلة، لا أريد أفروديت بل أمل.
لم يبك السحاب ثورتي، بل تنحى جانبا ليفسح للقمر البعض من السماء، كان يقترب من البحر ليوقظ بوسايدون؛ فتعدو عجول البحر وتجذب عربته بقوة؛ فيثور البحر ويصحو رجاله، ويخرج بروتيوس عكر المزاج للشاطئ، لم أصدق، لم تكن بوكس بتلك القسوة، لم أكن أنتبه إليها فقط، وحين تحدثت إليها، وبرغم ثورتي، استجابت لي، وأيقظت بروتيوس في الليل من أجلي، ابتسمت لها لكن هذه المرة كنت ممتنا شاكرا، وانتظرت أراقب بروتيوس حتى ينام لأشد وثاقه، وأعرف منه كل شيء.
لم يطل العجوز بروتيوس؛ فقد علا شخيره سريعا، متحسسا خطاي أقترب منه، لملمت بعض الأعشاب القوية من الشاطئ، وشكرت بوسايدون، واقتربت متمتما: سأشد وثاق هذا العجوز جيدا ولن أطلق سراحه حتى أحصل على كل الأجوبة، أريد فقط الأسئلة الصحيحة، حتى لو أضعت عمري في استجوابه؛ فليمت جوعا وتمت كل عجول البحر التي يرعاها لبوسايدون، حتى يقتله مرة أخرى. اقتربت أكثر من خلفه، وكدت ألف العشب حوله، لكنه تحول، إلى حجر كبير، أعرف أنه يتحول، قفزت لأتمكن منه؛ فتحول مرة أخرى لشجرة، ثم إلى كومة من القش، ثم قطرة ماء، وعاد من حيث أتى، نظرت للبحر وقد هدأ، والسحب عادت لتخفي القمر.
عدت للشقة، وكلما قلبت في دفتري رأيتها، أمل، تغادر الرسومات وتترك ظلا فارغا، مرات تغادر كلها، ومرات يغادر وجهها، كنت قلقا عليها، بحثت كثيرا بكتب أمراض الهيستريا، الكثير من العناوين، لم أتمكن من متابعة القراءة؛ فلجأت لوسائط أتمكن من فهمها أكثر من مصطلحات العلاج النفسي وتوصيف أمراضها، خرجت مرة أخرى وأضفت لقائمة المشتريات آلة العرض السينمائي ومجموعة من الأفلام عن حالات ازدواج الشخصية، برغم كرهي لتلك الأدوات فإنني حاولت جعل الأمر أكثر إنسانية، اخترت الحائط الأكبر، وأطفأت الأنوار وسلطت عليه الضوء وتأكدت من أن كل شيء يعمل بشكل جيد، واخترت فيلما يدعى «الأوجه الثلاثة لإييف»، حديث، إنتاج عام ألف وتسعمائة وسبعة وخمسين، جلست وبجواري النبيذ ودفتر الملاحظات وبدأت العرض.
السيدة إييف وايت، لم تكن الريفية المدبرة المثابرة النشطة، ولم تكن أيضا الريفية البدينة كثيرة السباب والشكوى، بل كانت ريفية خافتة الوهج، شاحبة الجمال، كانت مصباحا زيتيا نفد زيته وبدأ فتيله في الاحتراق.
صفحه نامشخص