هل ثمة علاقة بين الموت والنوم؟ في الحالتين أنت ممدد على أرض منبسطة، تملك وحدك أن ترى، ثمة من يقودك إلى عالم آخر، يبدو كالمتاهة لمن يقف في الخارج لكنك تراه أمامك، مئات الأبواب تفتحها بفرح، تلج كل باب بحثا عن شيء، عن وعد، عن حكاية اختزنتها ذاكرتك وأعادت حكيها. في الحالتين أنت مغمض العينين، لا تتحرك إلا قليلا، ثمة من يلقي غطاء على جسدك. بين الحالتين أنت «الجمال النائم» حتى لو لم يكن هناك ملك وملكة وقصر وجنيات طيبات وشريرات وقبلة حياة في انتظارك. في الحالة الأولى أنت لا تتنفس، في الحالة الثانية تقاوم وتضحك وتبكي وتنتظر ولا تتكلم وتصرخ لكن لا يخرج منك صوتك. في الحالة الأولى لم يعد أحد ليحكي لنا عما وراء ذلك الباب المسحور، في الحالة الثانية أمامك بابان: أحدهما للأحلام والآخر للكوابيس، فاحترس جيدا وأنت تمد يدك للمقبض. في الحالة الأولى - كما يقول من يتحدثون عما بعد الموت - ما سيحدث هو نتيجة لما حدث في حياتك، في الحالة الثانية، سيكون معظم ما يحدث انعكاسا ليومك، وتفسيرا له، وإخراجا لانفعالاتك، وربما انعكاسا لمستقبلك، كأن ترى نفسك معلقا تأكل الطير من رأسك. بين الحالتين رابط طفيف، اسمه الروح؛
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي .
2
ليس شرطا أن تكون في سريرك كي تنام؛ هناك نائمون يتحركون حولك في كل مكان. انظر في وجوه من حولك في العمل وفي المقهى وفي الحافلة، الضاحك والباكي منهم، واسأل نفسك: أيهم على قيد الحياة/اليقظة حقا؟ هؤلاء «السائرون نياما» - بحسب تعبير سعد مكاوي الذي استخدمه لروايته الشهيرة - اختاروا النوم مستيقظين؛ لأنه لا مهرب آخر سوى مواجهة الحياة نوما.
البعض يهرب إلى حياة أخرى متخيلة، البعض يهرب إلى وسائل تواصل اجتماعي لخلق عالم متخيل عن ذاته وعن ذوات الآخرين، البعض يهرب إلى المستقبل، البعض يهرب إلى الماضي، من لا يملك شيئا من هذا يهرب إلى النوم، يهرب من المرض والشر وآلاف التجاذبات التي تجعلك مصلوبا بألف طرف؛ لذا لا ينام بطل رواية «شقيق النوم»، للروائي النمساوي روبرت شنايدر، ليس رغبة في الانتحار بقدر ما هو ولع بالحياة؛ لأن النوم في رأيه شقيق للموت.
راحة النوم، طمأنينة وسلام وهدوء النوم، حرية النوم إن أردت الدقة، تغري اليائسين أحيانا بالانتحار، مشهد النائم الذي يعجز الآخرون عن التواصل معه ولا يأبه بأسئلتهم يبدو مثاليا؛ لذا يبدو النوم/الموت/الانتحار مهربا جيدا، وتحقيقا للرؤية، واستجابة للنداء، وتنفيذا للنبوءة، كما حدث مع ببغاء لينكون.
3
الكثيرون يجيدون النوم في القطارات، لكنني لست منهم. كل رحلاتي كانت طويلة، من الصعيد إلى القاهرة، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، لكنها بلا نوم. أتأمل وجه الغريب، الهارب من شيء ما، النائم جانبي ورأسه يميل على كتفي، فمه مفتوح قليلا فتبين أسنانه، تنفسه منتظم، وبداية شخير يتأهب للخروج. يستمر المشهد طويلا وبشكل متكرر، أعدل رأسه الذي سقط فوق كتفي تماما وأنا أعتذر، فيعتذر بصوت نائم ويواصل النوم. وهكذا أعد أعمدة النور المارقة في الظلام بجوار النافذة وأنا عاجز عن فعل شيء، مثل بطلة رواية «نعاس» لموراكامي، لا أطارد النوم ولا يطاردني، ولا يرى كل منا الآخر. حينما يكون كل من حولك موتى/نائمين يمر الوقت بطيئا، تعجز عن إضاءة المصباح حتى لا تزعجهم ، تلقي رأسك إلى الوراء ولا تفكر في شيء . حدث ذلك كثيرا، لكن ما أتذكره هو تلك المرة حين كانت الحافلة تقطع الطريق من طابا إلى القاهرة والجبال في الخارج تناديني في دأب. السفر يبدو لي نوما أو استيقاظا معنويا طويلا أستيقظ منه، أو أنام بعده عند وضع قدمي في المطار، حتى لو كان لسنوات طويلة. النوم في السفر فن لا يجيده مدمنو الأرق. أغلق عينيك وفكر في الموت، يتأرجح النعش، تماما مثلما يحدث الآن. لا تلق وجهك على رأس المشيعين؛ فربما يكونون موتى مثلك.
4
الأحلام بالأبيض والأسود؛ لهذا لا تشبه الحياة. الحياة ملونة؛ لذا تخدعنا كثيرا. لا نعرف اللون الحقيقي لما يحدث حولنا؛ لذا نهرب منها إلى أي باب مفتوح. الأشياء الأقل عتمة تضيء في الظلام، وهكذا ستتعود على «لا ألوان» الحلم. في النوم أنت تقف على الحياد، وتترك نفسك للأمر كنائم على البحر يترك نفسه للموج وهو مستسلم تماما. في النوم أنت تفشل في طي عنق الأحلام كما تريد، لا تستطيع أن تستيقظ وتواصل نومك لتعود مرة أخرى لتكمل ما بدأته مرة أخرى، لا تستطيع أن تصل عالمي النوم واليقظة - حدث ذلك في الفيلم الفرنسي «علم النوم»، لكنه مجرد فيلم - لكن النوم يأتي أحيانا بأجمل الهدايا؛ فكرة، حل، «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ، قصائد جديدة لمن يبحث عن مهرب آخر، طريقة مثلى لنهاية العالم ولو لساعات قليلة.
صفحه نامشخص