5
في الرحلة الأولى دائما نفكر في الآتي المجهول، ولا نفكر في الماضي الذي تركناه؛ خلفناه. في الرحلة الثانية نقسم أفكارنا بين ما ذهب وما هو قادم. في الرحلة الثالثة يقتلنا الحنين ونحن نخطو إلى الطائرة/القطار/السيارة. نطأ الأرض بقوة كأننا نطأ ذكرياتنا التي لا تنفك تلح مثل ضجيج في المقهى الشاغر إلا من غريب لا يعرف مصدره ولا كيف يوقفه، لكنه حتما يؤنسه.
6
كل الحكايات المخيفة عن الرمال التي تأكل الروح، والبنايات الشاهقة التي تقزم ما بجوارها تتجمع، كل الرسائل التي ترسلها الأرض والسماء تفك شفرتها بلا جدوى؛ فرغم ذلك نودع أمهاتنا، وأصدقاءنا في المقهى، وقبور آبائنا، وشمسا ظلت مبتسمة في وجوهنا على الدوام، ثم نشد الرحال. ماذا سيقلنا حتى نبتعد عن القرى التي تأبى أن تلفظنا لفترة طويلة؟ النوق أم الحمير أم المراكب البيضاء أم الطائرات؟ وهل يهم؟! وهل الدموع التي قد لا نراها تسيل لتبلل الثرى الولود لآخر مرة ستنبت غيرنا؟!
7
سنحصل على ألقاب جديدة، وأسماء جديدة، لكن أميزها «الغرباء». نسير به في الشوارع، ونستند عليه في طوابير التذاكر، ومكاتب العمل المزدحمة، نعلقه على صدورنا كالسجناء، على جبهاتنا كرصاصات تخترق رءوس أسرى الحرب، نهز الناس في عنف، ونصرخ في الحافلات والبنايات والمقاهي: «نحن غرباء.» غرباء، لكن هذا الضجيج سيصم آذانهم حتما. نختبئ؛ فتفضحنا وجوهنا، قمصاننا، لهجاتنا؛ فنسير ونحن نحاول أن ننسى الأحلام التي طالت السماء ثم ضربتها صاعقة فعادت إلى الأرض، وحكايات الحب القديمة، وصوت فيروز الذي ينبعث من مكان لا نعرفه، لكنه ينسل كخيط ضوء في شارع معتم: «يخرب بيت عيونك يا عالية، شو حلوين!»
8
أحيانا أشعر بالشفقة على هذه القرى والمدن والدول التي تربي، تنشئ وتطعم، وتربت على أرواحنا، وفي النهاية تختطف المدن الكبيرة منها فلذات أكبادها. عبر آلاف السنين تفعل المدن هذه الفعلة الشنيعة مع القرى، ورغم ذلك فإن القرى الطيبة لا تثور على المدن، بل تظل مكانها أكثر صبرا من «أبو الهول» واثقة من أنها ستنشئ أولادا لن يخونوا العشرة؛ أولادا لن يتركوها وحيدة ترتعش بينما صحراء تزحف، وجبال تتطاول.
9
يتغير مفهوم الغربة كلما انتقلنا من مكان إلى آخر، كلما تغيرت وسيلة المواصلات، من دراجة إلى سيارة إلى قطار إلى طائرة، من قرية إلى مدينة إلى عاصمة إلى دولة عربية إلى أخرى أجنبية، يتغير المفهوم مثل فيلم من أجزاء متتالية، جزؤه الأخير لا يمت بصلة إلى جزئه الأول. تتغير المفاهيم كما تتغير الذات، تسكن العين نظرة شفقة على القادمين الجدد، بينما في الداخل جرح لا يزال ينزف، حتى وإن غطته القمصان الجديدة، واللهجة التي تحاول أن تختبئ خلف مكتب فخم وابتسامة عارف واسعة، لكن ثمة حرف سيتسلل مثل ملاك رأى النور فقفز في الفراغ.
صفحه نامشخص