فوقع مرقس على قدمي أركاديوس وقال: «إن في المسألة سرا لم أفهمه، وأخاف إذا قلت أن يجيء منه ضرر، إن تسترك تحت هذا اللثام مما يزيد خوفي، فهل لك أن تعلمني من أنت حتى أبوح بالحقيقة، أرجو أن لا يترتب على قولي شر لأحد الناس، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.»
فمال أركاديوس كل الميل إلى معرفة سر الأمر، وتوسم بمرقس خيرا، وعزم على أن يستخدمه في توصيل كتابه إلى أرمانوسة، أو أن يتوصل إليها بوساطته إذا أخلص له الخدمة لأنه قبطي، وتذكر بعد الأخذ والرد معه أنه رآه غير مرة مع رجال أرسطوليس في الحصن.
فقال له: «تعال معي على انفراد.» فانفردا بعيدين عن بلبيس في منزل خرب. يظهر من أنقاضه أنه كان معصرة يصطنعون فيها الخمر، وليس حولها إلا الصحراء وبعض الأشجار، فجلسا تحت شجرة، فرفع أركاديوس اللثام عن وجهه، فحالما رآه مرقس وقف مبهوتا، وهم بتقبيل يديه، وقد ذعر وقال: «العفو يا سيدي، أأنت مولانا أركاديوس وأنا لا أعلم؟»
قال له: «إني بإزاحة هذا اللثام قد أطلعتك على سر لم يطلع عليه أحد، فاحذر أن تفوه بكلمة أمام أحد، أو أن تذكرني، فإني جئت متنكرا حتى لا يعرفني أحد. هل فهمت؟»
قال: «نعم يا سيدي، وإني أقسم لك بالصليب والمعمودية أني أخلص القول والعمل في كل ما تريد، إلا ما يخشى منه الضرر بالسيدة أرمانوسة؛ لأن لها علي فضلا مثل فضلك، فإذا عاهدتني أن لا تؤذيها في شيء أطلعتك على الحقيقة، وإلا فإنني مصر على الكتمان ولو قتلتني.»
فازداد أركاديوس شوقا إلى معرفة الحكاية، وعاهده على عدم التعرض بأذى لأرمانوسة مهما يكن من أمرها.
فقص مرقس عليه حكايته من يوم أن خرج من الحصن مع بربارة إلى أن حكم على خطيبته بالغرق، وكيف أنقذها بكتاب سلمته إليه أرمانوسة، وعليه خاتم أركاديوس، ثم شرح له ذهابه إلى الفرما للتحقق من موت خطيبها، وما وقع من أمر يوقنا، إلى آخر الحكاية، فانجلت المسألة لأركاديوس جيدا، وسر كثيرا لنجاة أرمانوسة، وأعجب بشهامة ذلك الشاب؛ لأنه كان وسيلة في إنقاذها، ورأى من نفسه ميلا إلى مكاشفته بأمره توسما للخير فيه، فقال له: «أما وقد رأيت هذه المروءة، وعلمت ما تكنه من الإخلاص لأرمانوسة فسأطلعك على أمر لم يطلع عليه أحد سواك، وإني آمل فيك أن تكتمه وتبقى على مروءتك.»
فابتدره مرقس قائلا: «إني مطيع في كل ما تأمرني به إلا إذا كان فيه ما يلحق الضرر بسيدتي أرمانوسة.»
فقال أركاديوس: «حاش لي أن أريد بأرمانوسة سوءا، بل أطلب إليك أن لا تطيع أحدا في أمر يمسها بشر، فإنها - ولا أخفي عليك - أعز الناس عندي.»
فتعجب مرقس لذلك وقال: «يكفيني أنك لا تريد بها سوءا.»
صفحه نامشخص