فقال: «ومن هو هذا الترجمان الذي ينقل الكلام بين يوقنا وعمرو؟»
قال: «هو وردان مولى عمرو، ويعرف اليونانية جيدا، ويعرف القبطية أيضا، وأنا لا أعرفه من قبل، ولكنني فهمت ذلك من كلامه، وسأعرف الليلة حكايته وحكاية هذا الجند وأطلعك عليها.»
فقال مرقس: «أحب كثيرا أن أعرف حقيقة حالك وما جئت من أجله؛ لكي يكون كلامنا أكثر إيضاحا.»
قال: «تعال ننفرد جانبا.» وأخذ بيده وخرجا من المعسكر والجند مشغول بشئونه، ولم يلتفت إليهما أحد حتى وصلا إلى مأمن فجلسا.
فقال زياد: «اسمع يا مرقس، أقص عليك خبري على شرط أن تحكي لي حكايتك وما جئت لأجله.» قال: «أقسم برأس سيدي المقوقس وحرمة الصليب أني أصدقك القول.» ومضى زياد يروي حكايته كما يلي: «كان سبب دخولي إلى الإسكندرية وتمصري واعتناقي النصرانية أني كنت من رفقاء عمرو بن العاص مذ كان في الجاهلية؛ أعني قبل أن يظهر الإسلام وينتشر، وكانت ديانتنا الوثنية مثل أكثر عرب الجاهلية، وكنت أصحب عمرا حيثما توجه، وكنا نحمل تجارة على جمالنا إلى بيت المقدس في جماعة من قريش، فمررنا بضواحي تلك المدينة فإذا بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية قدم للصلاة في بيت المقدس، فخرج إلى بعض جبالها يسيح، وكنا وعمرو نرعى إبلنا، تناوبا بيننا، فبينما عمرو يرعى إبله إذ مر به الشماس وقد أصابه عطش في يوم شديد الحر، فوقف واستسقاه، فسقاه من قربة له، فشرب حتى روي، ونام حيث هو، وكانت إلى جنبه حفرة خرجت منها أفعى كبيرة فبصر بها عمرو فرماها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس نظر إلى الحية التي أنجاه الله منها وقال لعمرو: «ما هذه؟» فأخبره خبرها، فأقبل على عمرو يقبل رأسه ويقول: «قد أحياني الله بك مرتين: مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟» قال: «قدمت مع صحبي نطلب الربح في تجارتنا .» فقال له الشماس: «وكم تراك ترجو أن تصيب في تجارتك؟» قال: «أرجو أن أصيب ما أشتري به بعيرا، فإني لا أملك إلا بعيرين، فلعلي أصيب بعيرا ثالثا.»
فقال له الشماس: «أرأيت دية أحدكم بينكم كم هي؟» قال: «مائة من الإبل.» فقال له الشماس: «لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير.» قال: «تكون ألف دينار.» فقال له الشماس: «إني رجل غريب في هذه البلاد، وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس وأسيح في هذه الجبال شهرا، وكنت قد جعلت ذلك نذرا على نفسي، وقد قضيته، وأنا أريد الرجوع إلى بلادي، فهل لك أن تتبعني إليها، ولك علي عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين؛ لأن الله عز وجل أحياني بك مرتين.» فقال له عمرو: «أين بلادك؟» قال: «مصر - في مدينة يقال لها الإسكندرية.» فقال له عمرو: «لا أعرفها ولم أدخلها قط.» فقال الشماس: «لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل مثلها.» فقال له عمرو: «وتفي لي بما تقول، ولي عليك العهد والميثاق؟» فقال له الشماس: «نعم لك علي العهد والميثاق أن أفي لك وأردك إلى أصحابك.» فقال له عمرو: «وكم يكون مكثي في ذلك؟» قال: «شهرا، تنطلق معي ذاهبا عشرا، وتقيم عندنا عشرا، وترجع في عشر، ولك علي أن أحفظك ذاهبا وأن أبعث من يحفظك راجعا.» فقال له عمرو: «أمهلني حتى أشاور أصحابي في هذا.» وجاء فشاورنا فيما عاهده عليه الشماس، وقال لنا: «تقيمون هنا حتى أرجع إليكم، ولكم علي العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به.» فقلنا: «نعم.» وبعثوني معه، فانطلقنا مع الشماس حتى انتهينا إلى مصر فرأينا عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير، فقال عمرو للشماس: «ما رأيت مثل ذلك.» ومضينا إلى الإسكندرية فنظرنا إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة وزخرف بنائها وكثرة أهلها فازددنا عجبا، ووافق دخولنا الإسكندرية عيدا عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم كرة من ذهب يترامى بها ملوكهم، وهم يتلقونها بأكمامهم، وفيما أخبروا عن تلك الكرة ، وفيما وصفها من مضى منهم، أنها إذا وقعت في كم رجل واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم. وأكرمنا الشماس الإكرام كله، وكسا عمرا ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس حيث يترامون بالكرة، وهم يتلقونها بأكمامهم، وأنا جالس على حدة، فرمى بها رجل فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو، فعجبوا من ذلك وقالوا: «ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابي يملكنا، هذا ما لا يكون أبدا.» ثم مشى الشماس في أهل الإسكندرية، وأعلمهم أن عمرا أحياه مرتين، وأنه قد ضمن له ألفي دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا ودفعها إلى عمرو فانطلق ومعه دليل يريه الطريق. أما أنا فلما رأيت الإسكندرية وما هي عليه من العظمة وأسباب الرفاه آثرت البقاء فيها، فاستأذنت عمرا في ذلك فأنكر علي الأمر فقلت: «أبقى فإن لم أر خيرا عدت إليك.» فتركني ومضى وبقيت أنا، وكان في جملة من لقينا من رجال الإسكندرية عالم كبير هو يحيى النحوي، وكان يعرف شيئا يسيرا من اللسان العربي، فأمسكني عنده لأعلمه لساننا هذا، أو لعل له غرضا آخر لم أعلمه، فسررت ببقائي عنده، وأعجبت بزينة الإسكندرية وبذخها وعمارتها، ولم يمض علي زمن طويل في بيت هذا الرجل حتى تعلمت اللسان الرومي وأحببت ديانة النصارى، وفضلتها على ما كنت فيه من وثنية الجاهلية، فعمدت وصرت نصرانيا، وبقيت في بيت يحيى هذا؛ لأني علقت به لعظم ما لقيته من حسن سريرته وتقواه وعلمه، ثم حدث ما حدث بينه وبين جماعة الروم من الاختلاف المذهبي، وانحاز إلى حزب الأقباط اليعاقبة، فاضطهده الروم اضطهادا شديدا وجردوه من رتبه وأملاكه، فانزوى بنفسه كما تعلم، وقال لي: «اسمع يا زياد، ها أنا ذا قد أصبحت مضطهدا، وربما لا أستطيع القيام بما فيه راحتك أو لعل في وجودك عندي ضررا عليك من جماعة الروم، فإذا رأيت أن تذهب إليهم فافعل.» فثارت في نفسي الحمية العربية وقلت: «والله لأبقين على ولائك، فإنا نحن العرب إذا آكلنا إنسانا أو آخيناه كان لنا ما له وعلينا ما عليه، فأنا باق على ولائك أقوم بخدمتك ما استطعت إلى أن يقضي الله ما يشاء.» فبقيت عنده أقوم بخدمته إلى أن سمعنا بظهور الإسلام وانتشاره ونهوض رجاله للفتح، وما فتح الله على أيديهم من الأمصار كالشام وغيرها، وعظمت شوكتهم وتوطدت دولتهم، ونحن في الإسكندرية نقاسي العذاب ألوانا من جراء الاضطهاد الذي يسومنا إياه الروم، لأننا على غير مذهبهم كما تعلم، وكنت قد علقت بيحيى هذا وعلق بي، وصار يأتمنني على أسراره ويركن إلي في كل شئونه، فبعث إلي ذات يوم فجئته فقال لي: «ما رأيك يا زياد؟» قلت: «فيم يا سيدي؟» قال: «إني أرى من ظلم هؤلاء الروم وعسفهم ما تكاد تزهق له روحي، وقد سمعت بما قام به عرب الحجاز هذه الأيام وما فتحوه من الأمصار حتى أخرجوا الروم من الشام والعراق وغيرهما، وقد علمت أنهم قادمون إلى مصر وأميرهم صاحبك عمرو، ويلوح لي أنهم سيفتحونها عنوة كما فتحوا غيرها من الأمصار، وقد أخبرني بعض الرهبان الذين فروا من وجوههم من دمشق وغيرها أنهم أقوام أشداء يصبرون على الحرب صبر الأسود، لا يهابون الموت ولا يخافون السيوف، وأنهم مع ذلك أهل مروءة وذمام، فإذا جاءوا مصر فلا شك أنهم يفتحونها، ولا يخفى عليك أن جماعة القبط يكرهون الروم لما بينهما من الاختلاف المذهبي المشهور، والمقوقس رئيس القبط، وهو حاكم البلاد، وقد أسر إلي أنه يفضل العرب على الروم إذا ضمنوا له حياته وعاهدوه على الدفاع عن القبط، ولكن المقوقس لا يستطيع المجاهرة برأيه هذا، ولا يرى وسيلة لإبلاغه العرب، وقد وكل إلي أن أفعل ذلك، ولا أرى رجلا أثق به وأركن إليه غيرك، ولا سيما أنك تفهم لسانهم وتعرف قائد حملتهم نفسه، فأنت أفضل من ننتدبه لهذه المهمة، فهل لك أن تقوم بها؟ وهل تظن العرب إذا عاهدوا على أمر قاموا بعهدهم؟» قلت: «نعم يا سيدي، إن العرب أكرم الناس أخلاقا وأوفاهم عهودا، ولك في خادمك هذا دليل واضح، وأنا واثق أن العرب إذا عاهدوكم على أمر قاموا بعهدهم.» فدفع إلي كتابا مكتوبا على ورق البردي باللسان القبطي، وهو الذي رأيته بيدي أمس، وقال لي: «خذ هذا الكتاب، واذهب به إلى معسكر العرب حتى تلتقي بهم فادفعه إلى عمرو بن العاص بعد أن تشرح له الحالة شفاها.» فحملت الكتاب وخرجت من الإسكندرية أبحث عن العرب ومقامهم حتى علمت أنهم قادمون إلينا وسينزلون هذا المكان، فوصلت صباح أمس إلى هذا المعسكر فرأيته للروم، وفيه بعض العرب، فاختلطت بهم، وتظاهرت بأني من عرب غزة، وأني رافقتهم، وأن ثيابي هذه سلبتها من عساكر الروم هناك ولبستها، فعلمت منهم أن عمرا سيصل قريبا إلى هذا المكان، فقلت: لأصبرن حتى يجيء وأقضي مهمتي.» •••
فلما سمع مرقس قصة زياد وثق به وركن إليه، وعلم أنه على دعوته، وأنهما شريكان في الأمر، ولكنه استغرب حكاية عمرو، واستبشر بوقوع الكرة في كمه وقال: «يلوح لي يا زياد أن الكرة لم تخطئ موضعها.» ثم عاد إلى ما شغل باله من أمر يوقنا فقال: «وهل علمت أمر البطريق يوقنا وسبب إسلامه؟»
قال: «علمت من بعض رجاله العرب هنا أنه كان حاكما على مدينة حلب من بلاد الشام، وأنه لما رأى فوز العرب وشدة بطشهم وأنهم فتحوا مدينته انحاز إليهم واعتنق ديانتهم، وأما رجاله فهم مطيعون له في حربه، ولكنهم في الغالب باقون على ديانتهم.»
فتذكر مرقس حينئذ ما قاله رسول يوقنا الذاهب إلى أرمانوسة، فقال في نفسه: «إن الرجل مخادع ممارق، وأظنه يريد بسيدتي أرمانوسة سوءا، فهو يتظاهر بأنه قادم بأمر قسطنطين بن هرقل، بينما يريد حملها لنفسه، والله لأكيدن له كيدا.»
ثم قال زياد: «ها أنا ذا قد أطلعتك على حقيقة أمري، فما هي حقيقة أمرك؟»
صفحه نامشخص