آرمانوسه مصری

جرجی زیدان d. 1331 AH
125

آرمانوسه مصری

أرمانوسة المصرية

ژانرها

فما لبثت أن سمعت وقد أقدامه وقرع عصاه وصوت سعاله في الدار، فازداد خفقان قلبها، وتحفزت للقيام وركبتاها ترتجفان، وإذا به قد دخل، وأسرع إليها وضمها إلى صدره وقبلها. أما هي فألقت نفسها على صدره، وتذكرت حنانه فهاجت شجونها وتذكرت ما هي فيه مما لا يعلمه، فغلب عليها البكاء، فجعلت تبكي وتنتحب، فبكى والدها وهو يعجب لحالها، وكان يحسبها تبكي بكاء الفرح، فلما طال بكاؤها سألها عما يدعوها إلى ذلك فلم تجب.

أما بربارة فهمت بيدي المقوقس فقبلتهما وقلبها يخفق مخافة أن تبوح أرمانوسة بسرها، فيقع الجميع في مأزق حرج، فجعلت تلتمس الأعذار عن بكاء أرمانوسة، وتحذرها خلسة أن تقول شيئا. وقالت للمقوقس: «إن طول غيابك يا سيدي سبب هذا البكاء، فقد تركتنا والبلاد في حرب، وسيدتي أرمانوسة وحيدة هنا، فهي لا تكاد تصدق أنها تراك، فغلب عليها البكاء وهو بكاء الفرح.»

قال: «ولكنكم تعلمون ألا خوف علينا من هذه الحرب؟»

قالت: «لم نخف الخطر، ولكننا استوحشنا، فالحمد لله على سلامتك.»

قال: «وهذا ما أشكو منه أنا أيضا، ولذلك فإني إذا سرت إلى مكان يطول غيابي فيه اصطحبتها معي.»

قالت: «عسى ألا يحدث بعد اليوم سفر طويل.» فتبسم وقال: «لا بد من السفر، وإني إنما أتيت لنذهب معا إلى الإسكندرية.»

فخفق قلب أرمانوسة، وعلا وجهها الاحمرار، ثم امتقع لونها حيرة ووجلا، وأدركت بربارة ذلك، فقالت للمقوقس: «وما الذي يدعو إلى هذا السفر يا مولاي؟»

قال: «إن العرب الذين دخلنا في ذمتهم، وأنقذونا من ظلم الروم، ذاهبون غدا إلى الإسكندرية لفتحها، وقد طلبوا إلي أن أصحبهم إليها لنعد لهم المئونة بعد طول الغياب ونسهل وسائل النقل. ولما كان شوقي قد اشتد إلى أرمانوسة فقد جئت لأصطحبها، ولا خوف علينا لأننا سنكون بعيدين عن مواقع الحرب.»

فلما سمعت أرمانوسة ذلك ازدادت حيرتها، ولبثت صامتة، وذكرت دعاءها ربها في صلاتها في الصباح: «لعل الله قد فعل ذلك لأجلي.» ولكنها لم تدرك الخير في بعدها عن أركاديوس، فسلمت أمرها لله وقالت لأبيها: «أذهب معك إلى حيث شئت.»

قال: «هلمي يا بربارة مري الخدم بإعداد ما تحتاج إليه سيدتك من معدات الأسفار، فإذا أحبت الركوب على فرس أو هودج أو عربة فليهيئوا لها كل ما تريد، وليحملوه في القوارب إلى الضفة الشرقية، ونحن نلتقي بهم أمام الحصن بالقرب من معسكر العرب، ليركبوا ونحن في مقدمتهم، وحولنا حرس منهم حتى نأتي الإسكندرية.» قال ذلك وخرج فنادى الحراس وأمرهم بإعداد القوارب. فلما خرج قالت أرمانوسة: «ماذا نعمل يا بربارة لأركاديوس؟» قالت: «نترك له خبرا مع مارية ليوافينا إلى الإسكندرية، فإن العرب لا يلبثون أن يفتحوها، وبعد ذلك نتدبر سبيلا ينجيك من هذه القلاقل.» وسارت بربارة للتأهب فأخذت كل ما خف حمله وغلا ثمنه، وأطلعت مارية على ما وقع وأوصتها بما تفعله، ثم عادت وقد تم كل شيء، فركبوا جميعا وجرت بهم السفن نحو الحصن، فالتفتت أرمانوسة إلى منف تودعها وهي تخاف ألا تراها بعد اليوم. كانت تظن أن والدها يعرج على الحصن، فلما دنت منه أخذت تنظر إلى مراميه وأبوابه وأسواره فلم تر أحدا، وتجاوزته السفن إلى معسكر العرب حتى رست عند الضفة، وكان رجال القبط في انتظار مولاهم، فنقلوا الأمتعة إلى مكان أعدوه لها، وكانت أرمانوسة قد اختارت العربة لركوبها فأعدوها لها هناك، ولكنها عدلت عنها إلى السفر في النيل، ونزلت أولا في خيمة ومعها أبوها وبربارة، وكان عمرو يهم بالسفر، وقد أمر بتقويض الخيام وتحميل الأحمال إلى الإسكندرية، فلما علم بمجيء المقوقس مر بخيمته فحياه، ورحب به وبمن معه ، وجلس إليه يستشيره في الطريق الذي يختاره في الذهاب إلى الإسكندرية، ودار بينهما الحديث في شتى الشئون، والمقوقس يصف له بواسطة الترجمان الطرق وقوات الروم والأماكن الحصينة عندهم، وبربارة مشغولة بالحديث مع أرمانوسة، ورجال عمرو مشتغلون بالتقويض والتحميل.

صفحه نامشخص