قال: «تذهب متنكرا، فتقضي ساعات عندها ثم تعود ولا يعلم بك أحد.»
قال: «نذهب إذن بعد نصف الليل متنكرين كأننا من جواسيس أركاديوس، فإذا ظنوا بنا سوءا قلنا لهم شعار الجند المتفق عليه الليلة، فهل تذكره ؟»
قال: «نعم، إن الشعار الليلة لفظ هرقل.» فاتفقا على ساعة من الليل يجتمعان بها في ناحية من الحصن، ثم التقيا وجاءا إلى الباب بلباس جند المقوقس، فحاولا فتحه فنهض الحراس ومنعوهما من الخروج، فذكرا شعار الليل، فأطلقوا سراحهما فخرجا، وكان مرقس قد أعد قاربا عند الضفة فركباه، وأوصى النوتية أن يسرعوا ما استطاعوا ليصلوا إلى منف عند الضحى، فسار القارب والكل سكوت، وأركاديوس يستحث النوتية، ويحسب لخروجه هذا ألف حساب خوفا من غضب أبيه. حتى وصل إلى منف، وأطل على قصورها، فكان أول ما شاهده قصر أرمانوسة؛ لأنه أعلاها كلها، ولم يكن قد دخله من قبل، فأخذ يستعد لمقابلة حبيبته بعد طول الغيبة.
أما هي فكانت تتوقع قدومه، وقد أرسلت بعض الخدم مع بربارة لاستقباله خوفا من انكشاف الأمر، ولبثت هي في الحديقة تنتظر قدومه وقلبها يخفق وركبتاها ترتعشان، وكلما آنست صوتا أو رأت شبحا ظنته أركاديوس، فأخذت تتمشى في طرقات الحديقة تتلهى بمشاهدة الأزهار وتقف طورا عند أقفاص الحيوان تتشاغل بمراقبة حركاتها، حتى سمعت وقع أقدام، ثم دخل اثنان بلباس جند القبط ومعهما بربارة، فعرفت أنهما أركاديوس ومرقس، فتقدمت إليهما، فأشارت بربارة إليهم جميعا أن يصعدوا إلى القصر، فصعدوا، ثم استأذن مرقس وسار إلى خطيبته، ودخل أركاديوس وأرمانوسة غرفتهما، وبربارة معهما، ولم يصدقا أنهما مجتمعان حتى سلما وتصافحا، فقبض أركاديوس على يدها فأحس بكهربية ارتعش منها جسمه، ونسي الحصن وأهله والعرب والروم، ولكنه ما برح في قلق لمعرفة سبب استقدامها إياه على هذه الصورة، فوقفا برهة لا يتكلمان، ولحظ أركاديوس في وجه أرمانوسة نحولا وذبولا فانفطر قلبه، وكانت بربارة قد أعدت لهما مائدة عليها أنواع الأطعمة والأشربة، فلما جلسا قالت أرمانوسة: «مرحبا بالقادم، بعد طول الغياب، قد كنا نحسب الحصار على الجند في الحصن فقط، فإذا هو حصار علينا أيضا.»
فقال: «لا تبدئي بالعتاب قبل أن تخبريني عن سبب استقدامك إياي بعبارة مبهمة شغلت بالي وأكثرت عندي الظنون.»
قالت: «ما دعوتك إلا لأراك، فقد قضيت سبعة أشهر منذ ودعتك المرة الأخيرة، وأنت تنظر إلي من نافذة الحصن، وأنا لا يرتاح لي بال ولا أذوق رقادا حتى صرت إلى ما تراه من الضعف، وخشيت أن يكون ذلك الوداع آخر عهدنا باللقاء، لا سيما أننا في حال توجب الاضطراب والخوف. ألا تزال على عزمك تخوض معامع القتال غير مبال بما يقاسيه هذا القلب؟»
قال: «إنما أحب الحرب يا أرمانوسة من أجلك؛ لأدافع عنك، وأستقبل السيوف والنبال تعزيزا لمقام خطيبك عندك.»
فقطعت عليه الكلام قائلة: «إن كنت تحبني وتبغي رضاي فأقلع عن القتال، ودع الحصون، وابق إلى جانبي، فإني لا أستطيع صبرا على بعدك.»
فتنهد وقال: «نعم إني أحبك، وأنت تعلمين ذلك، ولكنني أحب شرفي، وأحب وطني أيضا، أتريدين مني أن نترك حصوننا غنيمة لهؤلاء العرب القادمين إلينا من أقصى بادية الحجاز، ونحن الروم أرباب المجد والسطوة، وقد رفعت أعلامنا على هام الأمم، ودانت لنا الملوك والقياصرة؟! أنفر من البدو رعاة الإبل؟! أترضين لي ذلك؟!» وكان يكلمها والعرق يتصبب من جبينه لعظم تأثره.
قالت: «كلا، فما قصدت إلى الحط من مقامك، فإني أفاخر الناس ببطولتك وبسالتك، ولكنني اعتزمت ألا أفترق عنك بعد اليوم أبدا، وهذا هو سبب استقدامي إياك.»
صفحه نامشخص