فأمر الأعيرج بالتأهب للقاء العرب، وبعث إلى كبار قواده، وخطب فيهم حاثا على الثبات والدفاع ناسبا ما لقيه العرب من النصر في طريقهم إلى الحصن إلى ضعف جنود الفرما وبلبيس، ثم فرقهم في القلاع على السور، وأوصى ابنه بتعهدهم وتفقد الأسوار، فبعث أركاديوس رجالا إلى خارج الحصن يتفقدون الخندق المحيط به، وأوصاهم أن يبذروا فيه حسك الحديد بذرا، أي أن يغرسوا الحسك في قاعه وجدرانه، فإذا هجم العرب على الأسوار حال الخندق بينهم وبينه، فإذا نزلوا الخندق دخل الحسك في أقدامهم، وأكثرهم عراة فتعوق تقدمهم.
أما أرمانوسة فإنها وصلت إلى ضفة النيل بموكبها، وكان أبوها وأخوها قد علما بقدومها فخرجا لملاقاتها، ورحبا بها وسألاها عن العرب، فروت ما حدث لها معهم، وأثنت على شهامة عمرو فاستبشروا بنجاح حيلتهما، وكانت القوارب معدة لاستقبالها فركبت ومن معها إلى منف، وأجالت نظرها في الحصن لعلها ترى أركاديوس فتتزود منه بنظرة، فإذا هو يرقبها من أعلى السور عند كنيسة المعلقة، فجرى قاربها وهي تسترق النظر إليه كأنها تودعه وتدعو له بالسلامة، وقلبها يخفق وجلا لئلا يصيبه سوء، فقد خيل إليها لما عاينته من شجاعة العرب وبطشهم أنه في خطر، فتناثرت الدموع من عينيها، وكان القارب قد جرى بعيدا، وبربارة معها تنظر إليها وتراقب حركاتها، فأدركت ما هي فيه فخاطبتها قائلة: «سلمي أمرك إلى الله، وهو يحرسك يا مولاتي.»
وكانت مارية وأهلها قد ركبوا قاربا آخر، وسارت القوارب تمخر عباب الماء، والوقت أصيل، فلما أشرفوا على ضواحي منف تذكرت أرمانوسة ما كان من أمرها مع أركاديوس وقسطنطين، وشكرت الله على نجاتها، ولكنها ما زالت توجس خوفا على حبيبها، فأدركت بربارة ذلك فقالت لها: «ما لي أراك غارقة في بحار الهواجس؟ ثقي بالله وتوكلي عليه، فإن الذي أنقذك وأنقذ أركاديوس من مخالب الموت حتى الآن سيحرسكما إلى يوم اللقاء، وهو قريب إن شاء الله.»
فلما دنوا من شاطئ منف، ورسا القارب عند الرصيف، تذكرت أرمانوسة تلك الليلة المقمرة التي باحت فيها بسرها لبربارة، فانقبضت نفسها وغلب عليها الجزع، فطفرت الدموع من عينيها، وكان الخدم والحاشية في انتظارها على الرصيف، فاستقبلوها بالأزهار والرياحين، وجاءت الجواري واستقبلنها باسمات الثغور، يحمدن الله على سلامتها، وكن قد سمعن بما أحدق بها من الخطر في بلبيس، ورافقنها من الرصيف إلى الحديقة. كل ذلك وهي في شاغل عنهم جميعا بهواجسها وخفقان قلبها، وما صدقت أن وصلت إلى قصرها حتى دخلت غرفتها، وكانت بربارة قد تركتها وذهبت لتعد مكانا لنزول خطيبة مرقس وأهلها، وأوصت الخدم بهم خيرا، ولم تكن مارية المسكينة أقل قلقا من أرمانوسة لأجل مرقس، ثم عادت بربارة إلى غرفة سيدتها، وكانت الغرفة مزينة بأنواع الرياحين والأثاث الثمين، فرأتها قد استلقت على السرير، وأوغلت في البكاء والنحيب، فأخذت تخفف عنها وتؤملها بالفرج القريب.
فتنهدت أرمانوسة وقد خنقتها العبرات، ولما سكن روعها قالت: «دعيني يا بربارة من الآمال الباطلة، فنحن قد عدنا إلى حيث كنا، وعادت مخاوفنا إلينا ، وكان ما مر بي في أثناء هذه الغيبة أضغاث أحلام.» فأمسكت بربارة بيدها، وجلست إلى جانبها وهي تبتسم لتخفف قلقها وقالت: «كيف تقولين إنها أضغاث أحلام، وقد نلت ما كنت تتمنين؟! ألم تكوني في ريب من محبة أركاديوس، وقد رأيته وكلمته غير مرة، وتبادلتما عربون المحبة، ووثقت بحبه لك؟ ألم يكفك ما رأيت من غيرته عليك وشغفه بك؟ ألم تكوني في ريب من أمر قسطنطين، وقد تحققت الآن نجاتك من قبضته؟ أليس هذا بالشيء الكافي الآن؟ فكيف تقولين إنها أضغاث أحلام؟»
فأجابتها أرمانوسة: «أجل، إنها أضغاث أحلام لأني قد عدت إلى هذه الغرفة كما خرجت منها؟ ولم أنل شيئا غير الآمال، وما أحسب ما مر بي من رؤية أركاديوس وسماع كلامه إلا حلما مر وزال، بل أراني أكثر قلقا عليه من ذي قبل، فقد كنت في ريب من حبه، ولم أكن أشعر بمثل ما أنا فيه من القلق عليه، فهل تجود لي الأيام به، وأرى ذلك الوجه الباسم، وتينك العينين البراقتين؟» وشرقت بدموعها، فأخذت بربارة تخفف عنها وتشغلها بالآمال والوعود، وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فأخذت بيدها وخرجت بها إلى شرفة القصر، فأطلت على الحديقة، وبربارة تمنيها بالأحاديث، وتذكرها بما مر بها لتصرفها عن هواجسها، وهي صامتة تنظر إلى البر الثاني من النيل تستأنس بقربه من الحصن، فأمرت بربارة الخدم فجاءوا بالوسائد وفرشوها في الشرفة، وجلستا تارة تتشاكيان، وطورا تتأملان، وأرمانوسة لا يرضيها إلا الحديث عن أركاديوس، وبربارة تلهيها تارة به وطورا بسواه.
حديثه، أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب، أو ذياك إن حضرا
كلاهما حسن عندي أسر به
لكن أحلاهما ما وافق النظرا
صفحه نامشخص