آرام دمشق و اسرائیل: در تاریخ و تاریخ توراتی
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
ژانرها
بعد خمس سنوات من معركة قرقرة يتوجه شلمنصر الثالث مجددا إلى مناطق غربي الفرات عام 849ق.م. فيسكت التمرد القائم في كركميش وبيت جوشي عند الفرات، ثم يتوجه إلى وسط وجنوب سوريا، حيث يكون بانتظاره هدد عدر ملك دمشق على رأس المتحالفين السابقين، ولكن من دون إسرائيل، التي آثرت الوقوف على الحياد بعد وفاة الملك آخاب وصعود ابنه يورام على العرش. ويرد خبر هذه الحملة في أحد تلك النصوص المختصرة التي تلخص أخبار الحملات نقلا عن النصوص المنفردة الأطول. ولسوء الحظ، فإن النصوص المفصلة عن هذه الحملة الآشورية الثانية والحملات التي تلتها ضد مملكة دمشق قد ضاعت. يقول نص شلمنصر عن حملة عام 849ق.م. بعد وصف سريع لمسار الحملة ما يأتي: «عندها، هدد عدر ملك إميريشو، وإرخويني ملك حماة، والملوك الاثنا عشر، وضعوا ثقتهم بقواتهم المشتركة وشنوا الحرب ضدي، فقاتلتهم وانتصرت عليهم، وغنمت عرباتهم وخيول فرسانهم وعددهم الحربية، فهربوا من وجهي طالبين سلامة أرواحهم.»
7
وفي هذه المرة أيضا لا يتابع شلمنصر تقدمه نحو حماة أو دمشق أو أية عاصمة من عواصم دول التحالف، الأمر الذي يدل مجددا إما على هزيمته على يد هدد عدر، أو تراجعه دون التوصل إلى الحسم الكامل. هذا، ونستدل من النصوص المختصرة لبقية المعارك اللاحقة بين الطرفين في الأعوام 848 و846 و845ق.م. على عدم مقدرة الآشوريين تحقيق أي تقدم يذكر في مناطق غربي الفرات خلال حياة هدد عدر، الذي توفي بعد الحملة الآشورية الأخيرة في مدينته إثر مرض عضال.
رغم السلطة الواسعة التي تمتعت بها مملكة دمشق على مناطق غربي الفرات منذ أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ورغم بنائها لقوة عسكرية جبارة وقيادتها للتحالف في كل معركة مع آشور، وتقديمها القسم الأكبر من القوات والمعدات اللازمة للمعركة، إلا أن دمشق لم تشكل إمبراطورية سورية بالمفهوم الرافدي أو المصري، ولم تكن راغبة في تشكيل مثل هذه الإمبراطورية. إن ما صنعته دمشق كان إمبراطورية اسمية غير معلنة، أو فلنقل نظاما إقليميا سياسيا خاصا، يتفق مع المفهوم السوري للسلطة والحكم، ومع نظام دولة المدينة الذي كان سائدا في بلاد الشام منذ عصورها المغرقة في القدم، والذي لم يتحول في يوم من الأيام إلى إمبراطورية كبرى. فلقد رأى السوريون في دولة المدينة النظام السياسي الأمثل، الذي يطلق الإمكانات المبدعة للأفراد والجماعات، ويحافظ على مشاركة أكثر فعالية بين السلطة والشعب، بالغا ما بلغ من استئثار بعض الملوك بالسلطان وانفرادهم باتخاذ القرار، لأن السلطة في دولة المدينة تبقى قريبة من الناس، قادرة على التفاعل المباشر معهم، بعكس السلطة الإمبراطورية التي تفصلها عن الناس أسوار العاصمة وأسوار القصور الملكية وأسوار الهرمية البيروقراطية. ولقد قلد الأغارقة السوريين في نظامهم السياسي الذي اقتبسوه عن فينيقيا، وحافظوا على نظام دولة المدينة وتعبدوا له، فأعطوا من خلاله كل إنجازاتهم الثقافية.
قبل أن نغادر عصر هدد عدر، الذي أسس لنظام إقليمي سوري استمر قرابة قرن من الزمان، لا بد من التوقف عند الموضع المقابل في الرواية التوراتية، والتفتيش في أخبار الملك آخاب بن عمري عن أثر هذه الأحداث الجسام التي كانت تجري على الساحة السورية.
مساحة مملكة دمشق في عصر هدد عدر.
إن الرواية التوراتية في سفر الملوك الأول بين الإصحاح 16 والإصحاح 22، وهي الإصحاحات التي تتحدث عن حياة وأعمال الملك آخاب، تتجاهل تجاهلا تاما الحروب الآشورية السورية، ولا يرد فيها ذكر الملك شلمنصر الثالث أو ذكر هدد عدر ملك دمشق، وبالتالي فإنها لا تورد شيئا عن دخول آخاب في حلف دمشق ولا عن مساهمته في معركة قرقرة. وتفاجئنا الرواية التوراتية هنا بأن ملك دمشق الذي عاصر آخاب ليس هدد عدر، بل ملك آخر اسمه بنهدد، الذي يرد اسمه مجردا دون نسب. من هنا فقد تعود المؤرخون التقليديون على دعوة هذا الملك ببنهدد الثاني تمييزا له عن بنهدد بن طبريمون بن حزيون، الذي هاجم بعشا ملك إسرائيل بتحريض من آسا ملك يهوذا، مما رأيناه في الإصحاح 15 من سفر الملوك الأول سابقا وتحدثنا عنه. وفي مقابل الحروب الآشورية السورية وتحالف إسرائيل مع دمشق، فإن الرواية التوراتية تقص عن حروب طاحنة بين بنهدد ملك دمشق وآخاب ملك إسرائيل. نقرأ في الملوك 20 ما يأتي: «وجمع بنهدد ملك آرام كل جيشه، واثنين وثلاثين ملكا معه، وخيلا ومركبات، وصعد وحاصر السامرة وحاربها. وأرسل رسلا إلى آخاب ملك إسرائيل وقال: هكذا يقول بنهدد: لي فضتك وذهبك ولي نساؤك الحسان. فأجاب ملك إسرائيل وقال: حسب قولك يا سيدي الملك، أنا وجميع مالي لك. فرجع الرسل (ثانية إلى ملك إسرائيل) وقالوا له: هكذا تكلم بنهدد قائلا: إني قد أرسلت إليك قائلا إن فضتك وذهبك ونساءك وبنيك تعطيني إياهم، فإني في نحو هذا الوقت غدا أرسل عبيدي إليك فيفتشون بيتك وبيوت عبيدك، وكل ما هو شهي في عينيك يضعونه في أيديهم ويأخذونه. فدعا ملك إسرائيل شيوخ الأرض جميعهم وقال: اعلموا وانظروا. إن هذا يطلب الشر، لأنه أرسل إلي يطلب نسائي وبني وفضتي وذهبي، ولم أمنعها عنه. فقال له الشيوخ كلهم والشعب كله: لا تسمع له ولا تقبل ...» فاصطف الآراميون على المدينة في اليوم التالي وشددوا الحصار، وإذا بنبي يتقدم إلى ملك إسرائيل ويخبره بأن الرب سيدفع آرام إلى يده لكي يعرف أنه هو الإله الحق. فخرج ملك إسرائيل بجنوده جميعا، وعددهم سبعة آلاف، وفاجأ ملك آرام الذي كان يشرب ويسكر في الخيام هو والملوك الاثنان والثلاثون الذين معه. ولما جاءه خبر ظهور الإسرائيليين قال باستخفاف واضح: «إن كانوا خرجوا للسلام فأمسكوهم أحياء، وإن كانوا قد خرجوا للقتال فأمسكوهم أحياء.» ولكن ضربة ملك إسرائيل كانت عظيمة ومفاجئة، فهرب ملك آرام ومن معه، وعاد إلى بلده (الملوك الأول، 20: 1-21).
وبعد مرور عام كامل رجع ملك آرام إلى إسرائيل ومعه جيوش الملوك التابعين له، التي عين عليها قوادا من عنده لإحلال مزيد من التنسيق القتالي تحت قيادة واحدة، واختار لأرض المعركة أرضا سهلية لا هضبية، ليستطيع استخدام مركباته الحربية بكفاءة أكثر، لأن هذه المركبات كانت عديمة الفائدة في المعركة الأولى التي خاضها في المناطق الهضبية حول السامرة. نقرأ في بقية الملوك الأول 20 ما يأتي: «وعند تمام السنة، عد بنهدد الآراميين وصعد إلى أفيق ليحارب إسرائيل. وأحصي بنو إسرائيل وتزودوا وساروا للقائهم، فنزل بنو إسرائيل مقابلهم نظير قطيعين من المعزى، وأما الآراميون فملئوا الأرض. فتقدم رجل الله وكلم ملك إسرائيل وقال: هكذا قال الرب: من أجل أن الآراميين قالوا: إن الرب هو إله جبال وليس إله أودية، أدفع هذا الجمهور العظيم ليدك فتعلمون أني أنا الرب. فنزل هؤلاء مقابل أولئك سبعة أيام، وفي اليوم السابع اشتبكت الحرب، فضرب بنو إسرائيل من الآراميين مائة ألف راجل في يوم واحد، وهرب الباقون إلى أفيق إلى المدينة، وسقط السور على السبعة والعشرين ألفا الباقين، وهرب بنهدد ودخل المدينة من مخدع إلى مخدع.» ولما جد أتباع ملك إسرائيل في البحث عنه أرسل أتباعه لاستعطاف ملك إسرائيل وطلب العفو منه، فأعطاه ملك إسرائيل الأمان فخرج إليه، فأصعده ملك إسرائيل إلى مركبته وأكرمه. وكان بين الملكين عهد يرد بموجبه ملك دمشق المدن التي كان أبوه قد أخذها من أبي ملك إسرائيل، ويفتح أمام تجار السامرة أسواق دمشق، كما فتح الملك السابق لإسرائيل أسواق السامرة أمام تجار دمشق. وانطلق بنهدد راجعا إلى بلده بعد قطع هذا العهد. ولكن الرب غضب على ملك إسرائيل لإطلاقه عدوه، وأرسل إليه نبيا قال له: «هكذا قال الرب: لأنك أفلت من يدك رجلا قد حرمته، تكون نفسك بدل نفسه، وشعبك بدل شعبه. فمضى ملك إسرائيل إلى بيته مكتئبا مغموما، وجاء إلى السامرة» (الملوك الأول، 20: 26-43).
وأقام آرام وإسرائيل ثلاث سنين بدون حرب، حافظ خلالها ملك دمشق على العهد الذي قطعه لملك إسرائيل. ولكن ملك إسرائيل بعد وفاقه مع ملك يهوذا المدعو يهوشافاط، هو الذي فكر بأن ينكث بعهده مع دمشق. فبينما كان ملك يهوذا في زيارة ودية لملك إسرائيل، قال الملك لعبيده: «أتعلمون أن راموت جلعاد لنا ونحن ساكتون عن أخذها من يد ملك آرام؟ وقال ليهوشافاط: أتذهب معي للحرب إلى راموت جلعاد؟ فقال يهوشافاط لملك إسرائيل: مثلي مثلك، وشعبي كشعبك، وخيلي كخيلك ...» فجمع ملك إسرائيل كل الأنبياء، نحو أربعمائة رجل، واستشارهم أيذهب للقتال أم لا. ولكن الرب ضلل هؤلاء الأنبياء ووضع على أفواههم مشورة كاذبة، فقالوا للملك أن يذهب للقتال لأن الرب سيقف إلى جانبه، وأنه سيدفع إليه براموت جلعاد: «فصعد ملك إسرائيل ويهوشافاط ملك يهوذا إلى راموت جلعاد. فقال ملك إسرائيل ليهوشافاط: إني أتنكر وأدخل الحرب، وأما أنت فالبس ثيابك. فتنكر ملك إسرائيل ودخل الحرب. وأمر ملك آرام رؤساء المركبات التي له، الاثنين والثلاثين، وقال: لا تحاربوا كبيرا ولا صغيرا إلا ملك إسرائيل وحده. فلما رأى رؤساء المركبات يهوشافاط قالوا: إنه ملك إسرائيل، فمالوا عليه ليقاتلوه، فصرخ يهوشافاط. فلما رأى رؤساء المركبات أنه ليس ملك إسرائيل رجعوا عنه. وإن رجلا نزع في قوسه غير متعمد وضرب ملك إسرائيل بين أوصال الدرع، فقال لمدير مركبته: أخرجني من الجيش لأني قد جرحت. واشتد القتال في ذلك اليوم، وأوقف الملك في مركبته أمام راموت جلعاد، ومات عند المساء، وجرى دم الجرح إلى حضن المركبة. وعبرت الرنة في الجند (أي جماعة المنادين) عند غروب الشمس قائلا: كل رجل إلى مدينته، وكل رجل إلى أرضه، فمات الملك وأدخل السامرة ...» (الملوك الأول، 22: 1-37).
والآن، ما هي علاقة هذه الصورة، التي تقدمها لنا الرواية التوراتية عن العلاقات بين دمشق والسامرة، بالصورة التاريخية التي قدمتها لنا النصوص الآشورية المعاصرة للأحداث؟
صفحه نامشخص