آرام دمشق و اسرائیل: در تاریخ و تاریخ توراتی
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
ژانرها
يطالعنا سفر إشعيا على وجه الخصوص بعدد من التصورات الجديدة حول إله واحد شمولي لم نعهدها عبر أسفار الكتاب. فنقرأ فيه على سبيل المثال: «أنا هو. أنا الأول وأنا الآخر، ويدي أسست الأرض ويميني نشرت السموات. أنا أدعوهن فيقفن معا» (48: 12-13). «هكذا قال الرب: السماء كرسيي والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنون لي، وأين مكان راحتي، وكل هذه قد صنعتها يدي» (66: 1-2). «أنا الرب ولا إله غيري، إله بار ومخلص ليس سواي. التفتوا إلي وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت، خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع: أنه لي تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان» (45: 21-23). وهذا الإله الجديد - الذي يعلن نفسه إلها للشعوب جميعها في أقاصي الأرض - لا يرضى بالذبائح، ولا تلذ له رائحة المحرقات مثل ذلك الإله القديم، بل يطلب الخير في الناس والعمل الصالح. نقرأ في عاموس: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا ... بغضت كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. وليجر الحق كالمياه، والبر كنهر دائم» (عاموس، 55: 14). وفي هوشع نقرأ: «إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات» (هوشع، 6: 6). وفي إشعيا نقرأ أيضا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب. أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات ... اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني» (إشعيا، 1: 11-17). وبالطبع فإن إشعيا، أو أي واحد من هؤلاء الأنبياء، سوف يصاب بالهلع إذا قرأ في الأسفار السابقة أن الله قد تناول وجبة الغداء تحت الشجرة في ضيافة إبراهيم وسارة، وأن يعقوب قد صارعه حتى طلوع الفجر عند مخاضة يبوق، وأن سبعين من شيوخ إسرائيل قد صعدوا جبل حوريب مع موسى ورأوا الله وجها لوجه، وأكلوا وشربوا هناك، إلى آخر هذه القصص التي تنتمي إلى أيديولوجيا مختلفة تماما عن أيديولوجيا أسفار الأنبياء.
وقد انتقل بنا البحث أخيرا إلى دراسة وتفسير الأحداث التي جرت في فلسطين وبلاد الشام خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وألقينا الضوء على دور مملكة آرام دمشق في تلك الأحداث وعلاقاتها مع آشور وبقية دول المنطقة، ورصدنا بالتفصيل المجريات التي قادت إلى نهاية دمشق كمملكة مستقلة، وإلى دمار كل من إسرائيل ويهوذا، وذلك من خلال منهج علمي يعتمد بالدرجة الأولى على السجلات التاريخية والوثائق الكتابية، ويربط الأسباب بالنتائج دون شطط في الخيال، أو تغليب للهوى الشخصي، أو مسايرة لما يعرفه الناس على حساب ما يجب أن يعرفوه.
عند هذه النقطة، أعتقد أن السؤال الكبير الذي صرنا مطالبين بالإجابة عليه هو التالي:
إذا لم تكن إسرائيل التوراتية قد وجدت قط، وإذا لم تكن دولتا السامرة ويهوذا قد نشأتا عن المملكة الموحدة لداود وسليمان، ولم يكن لهما قاعدة مشتركة جمعتهما على أي صعيد، وإذا لم يكن للدين التوراتي أي أثر في فلسطين قبل العصر الفارسي، ولم يكن ليهود ما بعد السبي علاقات مباشرة بأهل إسرائيل ويهوذا ما قبل السبي؛ فلماذا وكيف تم خلق هذه الخرافة الكبرى؟ (2) اليهودية والنظام العالمي الجديد للإمبراطورية الفارسية
لم تكن عمليات التهجير الجماعي التي مارسها الآشوريون بمثابة عقاب للشعوب المغلوبة فقط، وإنما هدفت إلى تحقيق حالة من التوازن الإثني والسياسي في المناطق التي تم ترحيل الشعوب المسبية إليها. فكان الآشوريون، ومن بعدهم البابليون، يمنحون المهجرين في مناطقهم الجديدة أراضي خصبة، ويبسطون حماية الدولة عليهم لكي يغدو هؤلاء بمثابة ممثلين للسلطة الإمبراطورية في تلك المناطق، فيعملون على معارضة أو قمع النزعات التحررية التي يمكن أن تنشأ بين السكان ضد الحاكم. وقد لعب المهجرون هذا الدور المرسوم لهم حتى في بعض المدن الكبرى في الإمبراطورية، حيث شكلوا جيوبا اجتماعية تعمل على تهدئة القلاقل وتخفف من حدة المعارضة. وقد تابع حكام الإمبراطورية البابلية الجديدة وحكام الإمبراطورية الفارسية هذه السياسة على نطاق واسع، وحاولوا من خلال التحكم بتحركات الشعوب خلق شرائح اجتماعية مدعومة ومدربة من قبل السلطة وموالية لها، ولكن إلى الحد الذي لا يؤدي إلى خلق قوى إقليمية تخرج في النهاية عن تابعيتها للإمبراطورية.
1
وكورثة لإمبراطورية مؤسسة ومستقرة تقريبا، لم يكن على البابليين والفرس أن يدافعوا عن «حق المنتصر» على أراضي المقهورين وثرواتهم، فهؤلاء الورثة كانوا يتعاملون مع شعوب قد تم قهرها وترويضها، ولا حاجة بهم إلى إعادة توكيد السلطة عليها. من هنا فإن الإدارة الإمبراطورية الجديدة قد توجهت في سياستها إلى توكيد «حق الوراثة» لا «حق المنتصر». وتحولت أساليبها الدعائية من فرض الخوف والرعب إلى كسب الدعم والولاء للوارث الجديد. ذلك أن البنى التحتية للمقاطعات الآشورية السابقة يمكن الآن إعادة بنائها لكي تساهم في الإنعاش الاقتصادي العام للإمبراطورية، بعد أن زال الخوف تقريبا من تشكيلها تهديدا حقيقيا لأمن الحاكم. إن نصوص التهجير، أو إعادة الترتيب السكاني في الإمبراطورية البابلية أقل بكثير من النصوص الآشورية، وهي مختلفة جوهريا من حيث أدواتها الخطابية والإعلامية. ونحن هنا أمام نغمة إعلامية جديدة تهدف إلى إقناع الشعوب بقبول السيد الجديد، وما جلبه حكمه من تغييرات جذرية، والحصول على الولاء الطوعي من قبل التركيب السكاني المعقد للإمبراطورية الواسعة الأرجاء. فالسيد الجديد، كما تعيد هذه النصوص وتكرر، هو محرر الشعوب من نير الاستعباد، ومخلصهم من الحاكم البربري السابق الذي داس على كرامتهم، وشتتهم وسبى آلهتهم.
2
ورغم أن حكام الإمبراطورية الجديدة قد تابعوا عمليات السبي والتهجير الجماعي على الطريقة الآشورية، إلا أنهم قد ابتدءوا في الوقت نفسه سياسة إعادة توطين المهجرين السابقين في أراضيهم، ووضعوا النظرية الإعلامية لهذه السياسة، وهي النظرية التي تبناها حكام الإمبراطورية الفارسية بعد ذلك، وصارت عماد دعاوتهم السياسية . ولدينا أكثر من نص بابلي يؤسس لنظرية وممارسة إعادة التوطين، منها نص لنبوخذ نصر يقدم فيه نفسه كمحرر للقرى اللبنانية من القمع الأجنبي؛ فهو من أعاد السكان إلى مواطنهم، وهو الذي جمعهم ووجههم إلى أراضيهم ... إلخ.
3
صفحه نامشخص