فالناس لا يستغربون التسليم بالعالم غير المنظور، ولو لم يكن عليه أقل دليل علمي؛ لانطباقه على الرغائب ونحن معهم لو كل ما يتمنى المرء يدركه، ولتمنينا وجودا أفضل خالصا من كل ما يريب، ولكن العلم الذي نعنيه شيء آخر غير المتمنيات، وهم يشهدون تغير نظامات الاجتماع في العصور، ولكن يستغربون المطالبة بهذا التغيير في كل عصر، وهو أمر من الغرابة بمكان.
فإذا قلنا أن العالم ليس فيه فوق ولا تحت ولا وراء ولا أمام. فليس فيه مادة غريبة أو قوة غريبة تدخل إليه أو تخرج منه، وأن لا فرق في المبدأ ولا في المعاد بين جميع الكائنات من أعلى الإنسان إلى أدنى الجماد، فجميعها في تكوينها من عناصر طبيعية واحدة وتتمشى في أفعالها على نواميس طبيعية واحدة مشتركة بينها جميعا، فأين الغرابة في هذا القول؟! وهل في العلم اليوم ما ينقض ذلك؟! أوليس كل علم يعلم غير ذلك أشبه بالتخرص منه اليوم بالعلم؟!
وإذا قلنا إن العمران جسم حي كسائر الأحياء له أعضاؤها ونواميسها وتحولاتها وصحتها وسقمها، وإن ما ينطبق عليها في جميع خصوصياتها ينطبق عليه، فأين الغرابة في ذلك؟! أليس من المقرر اليوم في علم الاجتماع الطبيعي أن العمران حيوان، ولكنه حيوان هائل، أفراد البشر فيه كالكريات الحية في الأحياء؟! لعلنا إذا عرفنا ذلك جيدا يسهل علينا أن نفهم كيف يجب أن نجعل كل عضو من أعضائه نافعا ومنتفعا معا؛ لئلا يكثر في الأعضاء العاطلون ويكونون فيه حينئذ كالكريات المتعفنة أو كالأخلاط الرديئة التي تتهدد سلامى الجسم الحي، عسى أن تقل الجنايات وتتوافر المنفعة وينصرف الاجتماع إلى ما يرقيه. والعلم باجتناء العمل وتوفير المنفعة يشبه علم الهيجين؛ أي علم حفظ الصحة الذي يقاوم الأمراض بمقاومة أسبابها، فلا يكفي أن تكون لنا شرائع فقط لمعاقبة الجاني، بل يلزم أن يكون لنا نظامات وتعاليم كافية لاجتناب أسباب الجنايات تكون موافقة لطبيعة العمران ومنطبقة على حاجاته المتزايدة كل يوم، كما أنه لا يكفي أن يكون لنا طب شاف لمداواة الأمراض بل يفضل عليه الطب المنعي الذي هو غرض الطب الأكبر خصوصا اليوم؛ لئلا يبقى الاجتماع بأيدي ساسته كما كان الطب بأيدي الدجالين: «فصادة وشربة وودى على التربة.»
وإذا عرفنا أن الاجتماع حي كسائر الأحياء عرفنا أيضا أنه خاضع لنواميس الطبيعة العامة نظيرها، فلا نجعل سبيلا لتراكم القوى وتجمعها فيه، فلا نناهضه كلما نهض إلى حق له ونقاومه بجمودنا مقاومة عمياء؛ لئلا يفعل ذلك فيه فعل الضواغط القاسرة في الطبيعة فيهب إلى ثورات تمزق أحشاءه وتقهقره كما تمزق البراكين أحشاء الأرض، بل نقوده إلى مصلحته الكبرى التي هي مصلحة كل واحد منا ونحسن هدايته بما نكتسبه كل يوم بالعلم والاختبار؛ ليسير في مدارج الارتقاء سيرا حثيثا سليما يكون لنا فيه فضل العلم والعقل؛ لئلا تنفرد نواميس الطبيعة بنا وتدفعنا إلى ذلك قسرا ولكن بعد أن تذيقنا الأمرين.
1
وإذا عرفنا ذلك، أفلا يكون أصلح لمصلحة العمران إذا قام واحد وقال قولا مخالفا لمألوفنا، أن نتدبر قوله أولا عسى أن يكون فيه الصحيح الذي ننشده والصالح الذي نبتغيه، عوضا عن أن نرمي آراءه بالغرابة؛ فتزيد الجمهور إعراضا ولو عن التفكير البسيط فيما قد يكون فيها من الصواب؟! حتى يرسخ في الذهن أن المألوف هو دائما الحق وأن مخالفة الآراء الشائعة والاعتقادات الراسخة والنظامات المقررة لا يجوز؛ فتكم الأفواه وتخرس الألسنة عن الانتقاد في الأمور الاجتماعية إذا كان هذا الانتقاد مخالفا للمقرر، ولو أن الخطأ والضلال يرشحان من أذيال هذا المقرر ويملآن الأرض حوله بؤرة آسنة،
2
أم الأفضل لمصلحة الاجتماع كلما اكتشف العلم حقيقة مخالفة لرأي الجمهور أن نتكتم بها؛ لئلا نغضب هذا الجمهور إذا صرحنا بها أو نذكرها كما يريد حكماء الاجتماع وفلاسفته النفعيون الذين يذهبون مذهب القائل: «بعد كديشي ما يعيش حشيش!» أو بعبارة أرقى: «وبعدي الطوفان.» فنلبس الجرن
3
ونشير برأسنا إشارة خفيفة، مقرونة بابتسامة معنوية لطيفة كأننا نريد أن نقول إننا نعلم، ولكن ما كل ما يعلم يقال. لئلا يجر علينا التصريح ضررا ويفقدنا منفعة، وهو برهان وجيه كثيرا ما يحس به المتعرض له، ولكن برهان العلم أوجه في نظر البعض على قلة جناه، والعلم الذي أعنيه هو علم خبرة ويقين لا علم حدس وتخمين، فقبل أن تصح عليه غرابة تتكدس الغرابات على سواه بالملايين.
صفحه نامشخص