آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرها
ومن جهة أخرى فإن طبيعة العلاقات الاجتماعية في ذلك العصر كانت تشجع على التحول التدريجي في مركز العمل؛ فبينما نجد أن العمل الزراعي - الذي كان حرا في العصر القديم - قد تحول تدريجا إلى نوع من العبودية بتوطيد دعائم نظام الإقطاع الذي حول الفلاحين إلى أشباه عبيد، نجد من ناحية أخرى أن العمل الحرفي والصناعات اليدوية قد انتقلت إلى التحرر والاستقلال، ولا يمكن القول إن هذا التغير قد حدث دفعة واحدة، بل إن احتقار الصنائع الميكانيكية ظل قائما بعد انتهاء العصور القديمة بفترة طويلة، وكانت قيم الفروسية التي سادت في العصور الوسطى امتدادا لمبدأ ترفع الإنسان الحر عن العمل؛ إذ لم يكن الفارس يقوم بعمل يدوي، بل كان كل ما يقبل أن يشتغل به هو تلك الفنون المسماة بالحرة، وفي حياة الفارس الإقطاعي كان الشرف والنبل قيمتين مضادتين لقيمة العمل المادي، ومع ذلك كان هناك تيار متصل يتجه إلى رد اعتبار العمل بالتدريج، وحين شاهد إنسان العصور الوسطى تلك الكاتدرائيات الشامخة التي أنتجها العمل والصناعة الميكانيكية، لم يملك إلا أن يبدي إعجابه بالصنعة الفنية ونواتجها الرائعة التي يمكنها أن تثري حياة الإنسان الدينية ذاتها، وبدأ يدرك بصورة غامضة مقدار التغير الذي يمكن أن يحدثه امتزاج العلم بالصنعة اليدوية في حياة الإنسان.
ويمكن القول إن نوع الحياة التي كان يحياها الرهبان في الأديرة في العصور الوسطى يعد أنموذجا مصغرا لموقف العصور الوسطى من مشكلة العمل والصناعة بأسرها؛ ذلك لأن فكرة الحياة في الأديرة كانت هي ذاتها تعبيرا عن احتقار العمل والترفع عن كل ما له صلة بالعالم المادي، ومع ذلك فقد ظهر عند القديس أوغسطين وغيره من آباء الكنيسة اتجاه إلى التنديد بالرهبان الذين لا يعملون، وإلى إدخال العمل اليدوي في حياة الدير، وبالفعل أخذت الأديرة تتحول بالتدريج من دور للتأمل والتعبد الخالص إلى أماكن تجرى فيها تجارب رائدة في شتى ميادين الأعمال والصنائع اليدوية.
وعندما أقبل عصر النهضة الأوروبية، ظهر بوضوح أن الاتجاه إلى الاعتراف بقيمة العمل اليدوي قد تغلب على الاتجاه إلى استنكاره والزهد فيه. وكانت حركة الإصلاح الديني من أهم العوامل التي ساعدت على عودة العمل إلى مكانته المشروعة؛ ذلك لأن «مارتن لوثر» كان ينظر إلى العمل على أنه دواء للخطايا والآثام، ويؤكد التزام المؤمنين بالعمل، ويصف حياة التأمل في الأديرة بأنها ناشئة عن أنانية الرهبان، ويطالب كل إنسان بأن يقوم - على قدر وسعه - بالعمل الذي يمكنه أداؤه.
وقد أكد لوثر - معبرا في ذلك عن قيم عصر جديد - أن العمل اليدوي والعمل الروحي سواء في قيمتهما، وامتدح الصانع الفقير الكادح، ووصفه بأنه مقرب إلى الله، ومضى كالفن أبعد من ذلك، فوصف العمل بأنه الصلاة الحقيقية التي يتجه بها الإنسان إلى الله، وعبر كالفن عن القيم التجارية التي أخذت تسود ذلك العصر، حين أكد مشروعية أرباح التجار قائلا: «من أين تأتي أرباح التجار؟ إنها لا تأتي إلا من نشاطهم وكدهم في العمل.» تلك هي الصورة التي رسمتها مذاهب الإصلاح الديني، والتي مهدت بها الطريق لقيم العصر التجاري والرأسمالي الآخذ في الظهور.
وقد أكمل مظهر التطهر (البيوريتانية) رسم ملامح هذه الصورة؛ صورة الإنسان الجديد النشيط الصارم ذي الإرادة الحديدية، الذي يتغلب على كل العقبات بعمله. ومن جهة أخرى فإن الأدب والفن في عصر النهضة الأوروبية قد سارا في نفس الطريق، حين مجدا القيم المرتبطة بهذه الحياة وهذا العالم، واعترفا لأول مرة بكيان الإنسان الكادح العامل، وظهر هذا التحول واضحا في موقف أكبر شخصيات عصر النهضة - وهو ليوناردو دافنشي - من الصنائع الميكانيكية؛ إذ إن هذا الفنان العملاق والمفكر الإنساني العبقري كان في الوقت ذاته مهندسا ومصمما للآلات الميكانيكية، وقد ترك - كما هو معروف - تصميمات لآلات توصلت البشرية إلى اختراع الكثير منها فيما بعد، ولم يكن إبداعه الفني حائلا بينه وبين تمجيد الميكانيكا والنظر إليها على أنها أرفع العلوم وأنبلها.
على أن هذا التطور التدريجي الذي طرأ على مركز الصنعة العملية والأعمال اليدوية في أذهان الناس طوال العصور الوسطى وعصر النهضة، كان لا يزال يفتقر إلى عنصر أساسي لا يمكن بدونه أن يحدث تحول حاسم في نظرة الإنسان إلى الآلة وتحديده للدور الذي تؤديه في حياته، ذلك العنصر هو الجمع بين العلم النظري والعمل المادي في مركب واحد؛ فقد كان التقدم الذي أشرنا إليه تقدما في الخبرة العملية وحدها، أما العلم فكان يسير في طريقه النظري الخاص، منعزلا عن تطور المعارف العملية، وبعبارة أخرى فإن العلم لم يكن مطبقا على الصنائع في تلك العصور، وإنما تحقق التقدم الملموس في هذه الصنائع عن طريق الخبرة والمران وحدهما، دون الاعتماد على معرفة علمية، ومع ذلك كانت هذه الخبرة تنمو وتكتشف وتخترع، وتصل بأبسط الوسائل إلى استحداث أدوات وآلات جديدة، وتحقق في بعض الأحيان نتائج باهرة، وكان لا بد من مضي قرن أو اثنين - في مطلع العصر الحديث - قبل أن يتم الامتزاج بين العلم والعمل، وتزول الحواجز المصطنعة التي وضعتها العصور السابقة بينهما، ويؤمن المفكرون والفلاسفة أنفسهم بأن العلم ينبغي أن يستخدم في النهوض بحياة الإنسان الكاملة، لا بملكاته العقلية وحدها.
ويمكن القول إن فرانسيس بيكن كان أول فيلسوف دعا صراحة إلى اتخاذ العلم سبيلا إلى الارتقاء بحياة الإنسان العملية، وكانت لهجته قاطعة في التنديد بالمعرفة النظرية الخالصة التي لا تستطيع أن تشق طريقها إلى واقع الإنسان، وإذا كانت حملة بيكن على الفلاسفة القدماء قد اشتهرت بأنها دعوة إلى تجديد المنطق وتغيير الأداة العقلية المستخدمة في العلم، فلا جدال في أن أهم عناصر هذه الحملة هو نظرة بيكن الثورية إلى العلاقة بين العلم والعمل أو بين المعرفة والتطبيق؛ فالمثل العليا التي يدعو إليها بيكن مضادة تماما للمثل العليا اليونانية؛ إذ إنه يعزو أرفع قيمة إلى المعارف العملية المثمرة الخصبة، على حين أنه يعد التأمل النظري البحت أمرا عقيما لا يليق بالإنسان، بل هو يكاد يعد العلم تلخيصا أو تعميما أو امتدادا للمعرفة المكتسبة في الميدان العملي.
ولقد كان بيكن يقارن على الدوام بين ركود التفكير الفلسفي النظري الصرف، وبين التقدم المستمر للصنائع والمخترعات التي تستطيع تغيير مجرى حياة الإنسان بالفعل، وهو حين يتحدث عن التأثير الهائل الذي أحدثته هذه الأخيرة في تاريخ البشر يقول: «ينبغي علينا أن نلاحظ قوة المخترعات وتأثيرها ونتائجها، وهي أمور تظهر أوضح ما تكون في تلك المخترعات الثلاثة التي لم يعرفها القدماء : الطباعة والبارود والبوصلة؛ ذلك لأن هذه المخترعات الثلاثة قد غيرت وجه العالم بأسره، الأولى في ميدان العلم، والثانية في ميدان الحرب، والثالثة في الملاحة، وهي قد أحدثت تغييرات لا حصر لها، بحيث يمكن القول إن أي مذهب سياسي أو ديني أو أي نجم فلكي لم يكن له في شئون البشر تأثير أعظم مما كان لهذه الكشوف الميكانيكية، وجدير بنا أن نميز بين ثلاث مراتب من الطموح: الأولى طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوتهم الخاصة في بلادهم، وهو طموح وضيع منحط، والثانية طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوة بلادهم وسيطرتها على البشر، وهو طموح أرفع من السابق، ولكنه لا يقل عنه طمعا، أما إذا حاول امرؤ أن يسترجع للجنس البشري كله قوته ويوسعها، ويزيد من سيطرته على الكون، فإن مثل هذا الطموح (إن جازت تسميته بهذا الاسم) إنما هو أشرف وأنبل من النوعين السابقين، على أن سيطرة الإنسان على الأشياء إنما تقوم على الفنون العلمية والعلوم وحدها؛ إذ إن الطبيعة لا تحكم إلا بإطاعتها.»
هذه العبارة الأخيرة في كلمات بيكن السابقة تلخص فلسفة عصر بأكمله «الطبيعة لا تحكم إلا بإطاعتها»؛ فالهدف هنا هو حكم الإنسان للطبيعة وسيطرته العملية عليها وتغييره لها، والوسيلة هي إطاعة الطبيعة، أي معرفة قوانينها.
وعلى حين أن الفلاسفة القدماء - كالرواقيين مثلا - كانوا يدعون إلى فهم الطبيعة من أجل قبول ما فيها من حتمية وضرورة، فإن شعار العصر الحديث أصبح فهم الطبيعة من أجل تغييرها، فلا غرابة إذن إن كانت الفلسفة القديمة فلسفة تأمل نظري بحت، والحديثة ممهدة لعصر التصنيع، ولقد طبق بيكن في كتاباته شعاره هذا بكل إخلاص؛ إذ حمل في هذه الكتابات على كل علم يعجز عن تغيير حياة الإنسان، ودعا إلى تخطيط البحث العلمي وإنفاق الدولة عليه بسخاء، وطالب بنوع جديد من التعليم تمتزج فيه المعلومات النظرية بالخبرات العملية والصناعات الفنية، وحدد موضوعات يعتقد أن اهتمام العلماء ينبغي أن يتركز فيها، من بينها التبريد الصناعي والمطر الصناعي، وتلقيح الفصائل الحيوانية والنباتية المختلفة لإنتاج أنواع جديدة، واختراع سفن تسير تحت الماء، وأخرى تطير في الهواء، وفي هذا البرنامج الذي رسمه بيكن يظهر - بكل وضوح - مدى تغير المناخ العقلي بالنسبة إلى ما كان عليه في العصور القديمة، فها هنا فلسفة تتخذ مثلها الأعلى من تغيير الإنسان للطبيعة، ومن اتخاذ المعرفة سبيلا إلى إحراز الإنسان لمزيد من القوة في هذا العالم، وهو مثل أعلى كان يعد في العصور الوسطى داخلا في باب السحر والشعوذة؛ إذ إن السحرة وحدهم هم الذين يدعون القدرة على تغيير الطبيعة والتحكم في قواها المختلفة، وما كان مفكر مثل بيكن ليخجل من تشبيه غاياته بغايات السحرة، وكل ما في الأمر أنه لم يكن يدعو إلى تغيير الطبيعة عن طريق خرق قوانينها كما يفعل هؤلاء، وإنما هو يدعو إلى التحكم فيها عن طريق معرفة هذه القوانين.
صفحه نامشخص