آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرها
كانت فترة ظهور أولى مدارس الفكر اليوناني - وهي المسماة بالمدرسة الأيونية - تبشر بتضافر مثمر بين النشاط الفكري النظري والنشاط العملي الآلي؛ إذ كان كثير من فلاسفة هذه الفترة - أعني من يسمون بالطبيعيين الأولين - مهتمين بالمسائل العملية بقدر اهتمامهم بالمسائل النظرية، وكانت جهودهم تنصب على الميدانين معا دون تعارض. في تلك الفترة كان هناك اتصال رائع بين حضارات الشرق الأوسط القديمة وبين الحضارة اليونانية الناشئة، وكانت الخبرات والمعلومات والتجارب تتبادل إلى جانب المحصولات والمصنوعات ، وأثمر ذلك كله تفكيرا يجمع إلى الممارسة التطبيقية القدرة على البرهان العقلي.
ولقد كان طاليس «أبو الفلسفة» الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد؛ كان مفكرا نظريا ومخترعا عمليا في الوقت ذاته؛ فقد نسب إليه مؤرخو الفكر أول نظرية متكاملة حاول بها الذهن البشري تفسير الكون كله من خلال مبدأ واحد مقنع عقليا، لا من خلال أسطورة أو خرافة، ولكنه كان في الوقت ذاته ذا عقلية علمية وعملية من الطراز الأول، فروي عنه أنه حول مجرى نهر «هاليس» لكي يتيح لجيوش كرسيوس أن تعبره، ونسبت إليه كشوف عديدة في الفلك والملاحة، وليس ما يعنينا هنا أن نعدد الاختراعات والكشوف المنسوبة إلى شخص طاليس، وإنما المهم في الأمر أن أول فيلسوف يذكره التاريخ كان شخصية نظرية وعملية في آن واحد، ولم يكن ذلك الرجل المنعزل الذي يتأمل السماء فتتعثر مشيته ويقع في الوحل كما تصوره القصة المشهورة، وبعبارة أخرى فإن بداية ظهور الفلسفة كانت مرتبطة بالجمع بين الفكر النظري والعلم التطبيقي معا، بل ربما جاز القول إن الاهتمام بالأمور العملية هو الذي أوحى إلى فلاسفة هذه الفترة آراءهم النظرية.
وإذن فقد كان كل شيء يوحي بأن التقدم الفكري والتقدم التكنولوجي سيسيران جنبا إلى جنب في العصر اليوناني الكلاسيكي، وكانت الوسائل كلها ميسرة لذلك؛ فالعلم اليوناني قد أخذ يزدهر، وأسرار الرياضيات بدأت تتكشف للعقل اليوناني، والاتصالات بالحضارات القديمة قائمة لا تنقطع، والمناخ السياسي والاجتماعي يساعد على ذلك دون شك، وفضلا عن ذلك ففي تلك الفترة بعينها وضعت أسس النظرية الذرية من جهة، وظهر مذهب «أبقراط» العلمي التجريبي في الطب من جهة أخرى، وهما كشفان يساعدان على تمهيد الطريق للكشف والاختراع الآلي: الأول إذ يصور الكون كله على أنه آلة ضخمة، والثاني إذ ينظر إلى جسم الإنسان نفسه على أنه آلة معقدة، ومع ذلك فإن هذا التطور المتوقع لم يحدث، وظل العلم اليوناني نظريا لا تطبيقيا، ولم يعرف اليونانيون «الآلة» بمعناها الصحيح، وإن عرفوا مجموعة بسيطة من الأجهزة الآلية كانت في نظرهم مصدرا للتسلية والترويح عن النفس، ولم تكن لها في حياتهم وظيفة جدية.
فما هي أسباب عدم ظهور النزعة الآلية عند اليونانيين؟ ولماذا لم يستخدم العلم اليوناني المزدهر في تطبيقات عملية ترفع مستوى حياة الإنسان؟ من المؤكد - كما قلنا من قبل - أن الجو العام كان مهيأ لذلك، وأن الاهتمام بالتكنولوجيا - الذي لم يظهر بوضوح إلا في عصر النهضة الأوروبية - كان يمكن أن يظهر في تلك الفترة المبكرة (ولنتصور مدى التغير الهائل الذي كان يمكن أن يطرأ على التاريخ البشري لو أن النزعة العلمية التطبيقية قد بدأت قبل موعد بدايتها الفعلية بألفي عام)، فما هي إذن أسباب اختفاء الآلة من حياة الإنسان القديم، ونفور الفكر البشري منها.
إن المتشككين في قيمة التصنيع في عصرنا الحالي، يشيرون إلى الأضرار المادية والمعنوية التي جلبتها النزعة الآلية ولا سيما في الحروب، ويبدو بالفعل أن اليونانيين القدماء قد أخذوا يتساءلون هذه الأسئلة، ولا سيما في صدد الآلات المستخدمة في الحرب، فإذا كانت الآلة تحل محل اليد البشرية في محاربة العدو (كما في حالة المنجنيق مثلا) فما قيمة الشجاعة إذن؟ وفضلا عن ذلك فقد أدرك اليونانيون خطر البطالة الذي يتولد عن التوسع في استخدام الآلة؛ إذ روي عن أحد الأباطرة أن مهندسا عرض عليه جهازا يتيح نقل أعمدة ضخمة بنفقات قليلة حتى قمة الكابيتول، فرفض الإمبراطور استخدام الجهاز شاكرا، وقال لمخترعه: «دع الفقراء يأكلون خبزا!»
2
مثل هذه الأسباب إذن كانت موجودة، ولكن إدراك اليونانيين لها لم يكن من الوضوح بحيث يمكن أن تعد على أي نحو تعليلا لبطء تطور المخترعات الآلية.
أما السبب الحقيقي الذي يمكننا أن نعزو إليه زهد اليونانيين في هذه المخترعات - في الوقت الذي توافرت لهم فيه كثير من الإمكانيات الكفيلة بتحقيق تقدم سريع في هذا المجال - فهو أنهم لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها، نظرا إلى شيوع نظام الرق، فلماذا ينصب تفكير العلماء على الاقتصاد في الجهد البشري، وإحلال الآلة محل اليد العاملة؛ إذ كان لدى المجتمع مصدر لا ينضب من موارد الطاقة، يتمثل في الأرقاء الذين لم يكن يخلو منهم بيت يوناني متوسط؟ لقد كان نظام الرق - في واقع الأمر - حقيقة أساسية من حقائق المجتمع اليوناني، وكان الرقيق الذي ظل محروما من كل حقوق المواطنين الأحرار، والذي كان يعيش على هامش المجتمع بكل معاني هذه الكلمة؛ كان وسيلة زهيدة التكاليف لقضاء الحاجات المادية والقيام بالأعمال اليدوية.
فالرقيق كان يحتل موقعا وسطا بين الإنسان بمعناه الصحيح - أي الإنسان الحر - وبين الحيوان، ولما كانت الحروب اليونانية المستمرة تتيح جلب مزيد من الأرقاء على الدوام، أو على الأصح من أسرى الحرب الذين يحولون إلى أرقاء، فقد كان من الطبيعي ألا تقوم الحاجة أصلا إلى إعفاء الإنسان من متاعب العمل اليدوي المرهق، ومن هنا لم تتقدم التكنولوجيا اليونانية، وبالعكس فإن عدم وجود الآلات قد جعل اليونانيين يتمسكون بنظام الرق، ولا يستغنون عن أرقائهم، وهكذا ظل اليونانيون يدورون - في هذا الصدد - في حلقة مفرغة لم يعرف العالم القديم منها مخرجا.
ومما له دلالته الواضحة في هذا المجال أن الأرقاء - في العصر اليوناني - كانوا يستخدمون في أغراض تتصل بالصناعة لا في الزراعة؛ فالتجربة الأمريكية الحديثة - التي كان يجلب فيها الألوف من العبيد للعمل في المستعمرات الزراعية الكبيرة (
صفحه نامشخص