آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرها
وظهرت في القرن التاسع عشر عوامل متعددة تؤدي إلى تقوية هذا الاتجاه، أهمها دون شك النزعة التاريخية التي كانت تميل إلى تفسير كل الظواهر من خلال تاريخها، لا على أن لها طابعا مطلقا يفهم بذاته، وهكذا ظهرت في ذلك القرن محاولات متعددة لإظهار الانتظام في مجرى التاريخ الفلسفي، من أهمها محاولتا كونت وهيجل.
ففي فلسفة أوجست كونت اتجاه إلى ربط الفلسفة بالمجرى العام للتاريخ الإنساني، وهو يؤكد استحالة فصل المراحل العقلية الحالية عن المراحل الماضية، بل إنها كلها ترتبط سويا في خط واحد ، تكون كلها فيه خطوات نحو تحقيق التقدم البشري العام، وهكذا تنكر هذه الفلسفة حدوث تحولات أساسية في الفكر البشري من اتجاه إلى اتجاه مضاد، وإنما تسير المذاهب الفكرية كلها في طريق متصل، تؤدي فيه كل مرحلة إلى المرحلة التالية بالضرورة، ولا يمكن أن يرجع إلى الوراء، وبلغ الأمر بكونت حد تأكيد أن فلسفة العصور الوسطى أعمق وأكمل من الفلسفة اليونانية القديمة، وهو رأي يخالف دون شك ما اتفق عليه معظم مؤرخي الفلسفة.
على أن أشهر هذه المحاولات لإثبات وجود انتظام في مجرى التاريخ الفلسفي هي دون شك محاولة هيجل؛ فهيجل لا يرى في كثرة المذاهب الفلسفية مظهرا من مظاهر ضعف الفلسفة، أو دليلا على تهافت هذه المذاهب، وإنما لا يوجد في نظره تعارض بين هذه الكثرة في المذاهب وبين وحدة الروح البشرية؛ فتاريخ الفلسفة يكشف في رأيه عن فلسفة واحدة، تمثل المذاهب المختلفة مراحل متباينة لنموها، وهكذا تكون كل فلسفة متأخرة - في رأيه - نتيجة لجميع الفلسفات التي سبقتها، وتتضمن في ذاتها كل ما تنطوي عليه تلك الفلسفات من مبادئ، وعلى حين أن القول بفلسفات كثيرة منفصلة يؤدي حتما إلى إنكار قيمة هذه الفلسفات أو الشك فيها، فإن القول بفلسفة واحدة لها مراحل متباينة في نموها، يؤدي إلى الاعتقاد بضرورة كل مرحلة من هذه المراحل، وبحتمية هذا التاريخ السابق الذي يستحيل فهم إحدى حلقاته دون الأخريات، وبذلك تصبح للمذاهب كلها ضرورتها وقيمتها في التطور الفلسفي العام، ويعبر هيجل عن رأيه هذا من خلال مصطلحاته الخاصة، فيقول إن تاريخ الفلسفة إنما هو نمو روح حية واحدة، تدرك ذاتها بالتدريج، وهو يكشف خلال الزمان عما تكشفه الفلسفة ذاتها بطريقة أزلية خالصة، أي إن من وراء التطور الزمني للتاريخ الفلسفي توجد روح تكشف عن نفسها بالتدريج، وتوجه مراحل هذا التاريخ بانتظام، وهكذا يتعين على المرء أن يكون فيلسوفا لكي يستطيع البحث في التاريخ الفلسفي؛ إذ إن كشف الروح الكامنة من وراء هذا التاريخ لا يتسنى إلا للفيلسوف، وكما أن هناك عقلا واحدا لا عقول كثيرة، فكذلك لا توجد إلا فلسفة واحدة لا فلسفات كثيرة، وهذه الفلسفة الواحدة لا تتكشف إلا للفيلسوف نفسه في مراحلها المتعاقبة وفي غايتها الواحدة.
ونستطيع أن نعلق على فكرة هيجل هذه بقولنا إنه إذا كان يقصد بذلك أن من واجب الباحث في التاريخ الفلسفي أن يكون لديه حس فلسفي سليم، فإن رأيه هذا يكون معترفا به من الجميع، أما إذا كان يقصد بذلك أنه لا بد للمرء من أن يكون لنفسه فلسفة كاملة قبل أن يستطيع البحث في تاريخ الفلسفة، فإن هذا بالطبع أمر لا تؤيده التجربة ذاتها؛ لأن المرء يستطيع فهم تاريخ الفلسفة بالحس الفلسفي وحده، وليس تكوين فلسفة كاملة بالشرط الضروري لهذا الفهم.
ومن الواضح أن هيجل قد أكد الاستقلال الذاتي للفلسفة، وانفصالها عن سائر مظاهر النشاط الروحي أو العقلي، بحيث إن تطورها يكتسب معنى ودلالة مستمدة من منطقها الداخلي ذاته، ولكن محاولته تخفق لهذا السبب ذاته؛ إذ إنها تفترض مقدما إيمان المرء بفلسفة هيجل نفسها، وتفسيره للتاريخ الفلسفي كله على أساس أنه يتجه إلى تحقيقها، أما بالنسبة إلى أي مفكر آخر لا يؤمن بالفلسفة الهيجلية فلا بد أن يكون انتظام التطور الفلسفي راجعا إلى سبب آخر.
لذلك كان من الواجب - كما أشرنا من قبل - أن يحرص المرء دائما على الربط بين الفلسفة وبين مجموع المظاهر الأخرى للنشاط العقلي، وعندئذ لن يعود من الصعب كشف الانتظام في تطورها؛ فالفلسفة كانت دائما تستهدف إيجاد نظرة عامة إلى مجموع المعارف العلمية للإنسان، بل كانت أحيانا تزعم أنها علم شامل للكون بأسره، وهناك ارتباط وثيق بين الفلسفة وبين مظاهر الحياة الروحية، من علم وفن وسياسة واجتماع، وفي الفلسفة تتلخص القيم الروحية لأي عصر من العصور، صحيح أن الفلسفة ترتبط أحيانا بوجه معين من الحياة الروحية أكثر مما ترتبط بوجه آخر، فتهتم أحيانا بالعلم أو بالسياسة أو بالأخلاق، وتتأثر بجانب من الحياة الروحية أكثر مما تتأثر بجانب آخر، ولكنها على الدوام متصلة بالمجموع العام للحياة الروحية في عصر معين.
وأخيرا فإن للماركسية رأيا معروفا في الربط بين الفلسفة وبين المرحلة التي يمر بها المجتمع في علاقاته الإنتاجية، ومن الطبيعي أن تؤكد الماركسية اتصال التاريخ الفلسفي الذي يعد في رأيها انعكاسا لعلاقات الإنتاج على صفحة الوعي الإنساني، والذي يعود بدوره فيؤثر في هذه العلاقات تأثيرا تبادليا؛ فالمسار الجدلي الذي يمر به تطور العلاقات العينية بين طبقات المجتمع، هو نفسه المسار الذي تعبر به الفلسفة - نظريا - عن هذه العلاقات، ومع ذلك فإن الرأي الماركسي وإن كان يؤكد من الناحية النظرية أن لكل فلسفة موقعا معينا داخل التطور العام للعلاقات البشرية، فإنه يقتضي معرفة كاملة بكل جوانب هذه العلاقات من أجل إصدار الحكم الصحيح على كل فلسفة بعينها، وتحديد موقعها بدقة داخل المسار الديالكتيكي للتاريخ البشري، ومثل هذه المعرفة الكاملة تكاد تكون مستحيلة في معظم الأحيان، ومن هنا كان التضارب في تفسير المذهب الفلسفي الواحد ظاهرة لا يمكن أن توصف بأنها غير مألوفة بين الشراح الماركسيين؛ فكثيرا ما يحدث أن يؤدي استخدام نفس المنهج - بالنسبة إلى نفس المذهب الفلسفي - إلى تفسيرين متناقضين عند اثنين يصف أحدهما هذا المذهب بأنه تقدمي، والآخر يصفه بأنه رجعي، أو خليط من هذا وذاك، وربما لم يكن ذلك راجعا إلى قصور في منهج التفسير نفسه، بقدر ما يرجع إلى أن هذا المنهج يفترض - قبل الشروع في تطبيقه - معرفة وافية بكل جوانب الإطار الاقتصادي والاجتماعي الذي يظهر المذهب في داخله، وهي معرفة كثيرا ما يكون الوصول إليها أمرا عسيرا، فيكتفي الشارح بجزء غير واف منها، ويقدم بذلك للمذهب الفلسفي تفسيرا لا يدعمه أساس كاف من المعلومات.
وعلى أية حال، فإن الرأي الماركسي القائل بوجود نوع من الاتصال في التاريخ الفلسفي، يقدم إلينا الجانب الآخر من العملة الذي كان يفتقر إليه الرأي الهيجلي، وأعني به الربط بين الفلسفة وبين سائر أوجه الحياة العينية للإنسانية، فكما أن هيجل أكد ضرورة الربط بين الفلسفة وبين جوانب الحياة الروحية في كل العصور، فإن الماركسيين ينبهون - من زاويتهم الخاصة - إلى أن الفلسفة لا تفهم إلا داخل الإطار الشامل لحياة الإنسان المادية العينية.
وسواء أكان القارئ ممن يفضلون هذا الرأي أو ذاك، فالأمر المؤكد هو أن الاتجاه الحديث يميل على وجه العموم إلى رفض النظرة القائلة إن الفلسفة تتطور بقواها الذاتية الخاصة؛ فهي لا يمكن أن تكون ظاهرة منعزلة، وإنما هي تعكس وتلخص المجرى العام لحياة الناس وتفكيرهم في أي عصر من العصور، وبذلك ينبغي أن تسري عليها القوانين العامة التي تتحكم في تطور هذه الحياة، وإن تكن علاقتها بالمظاهر الأخرى للحضارة تبلغ من التعقيد حدا لا يكون من السهل معه - في كثير من الأحيان - إدراك ارتباطها بهذه المظاهر على نحو مباشر، برغم علمنا بأن هذا الارتباط موجود على الدوام.
اليمين واليسار في الفلسفة1
صفحه نامشخص