آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرها
والنظرة الجزئية إلى الأمور هي التي تجعلنا نواجه ظاهرة الغش بمزيد من الرقابة الصارمة، حتى لتغدو قاعات الامتحان أشبه بمعسكرات الاعتقال، ولكن هذه التدابير كلها لا تزيد الظاهرة إلا استفحالا، ونتيجتها العلمية الوحيدة هي تفنن الطلاب في البحث عن أساليب للغش أذكى وأشد خفاء، وحين تكون الظاهرة متأصلة على هذا النحو، يتعين علينا أن نبحث عن أسبابها في قيم المجتمع، لا في الوسط التعليمي وحده، وفي هذه الحالة لن نجد صعوبة كبيرة في الربط بين ظاهرة الغش وبين صفات ظلت حياتنا العامة تتسم بها منذ مئات السنين، أهمها ذلك التهاون الأخلاقي الذي يتهرب فيه الناس من مواجهة مسئولياتهم، ويلتمسون لقضاء أمورهم أشد الأساليب التواء وانحرافا، إن الغش في الامتحان، وانتشار الوساطة والإهمال والرشوة بوصفها عيوبا متوطنة في حياتنا الاجتماعية، ما هي إلا أشكال متعددة لظاهرة واحدة، ومن المستحيل أن يتسنى علاج هذه الظاهرة - أو حتى فهمها - في الميدان التعليمي وحده، ما دامت قد تركت تستشري في بقية الميادين. •••
في هذا المقال حاولت أن أضرب بعض الأمثلة التي تكشف عن التداخل الوثيق بين مشكلات نعانيها في ميدان التعليم، ومشكلات نعانيها في حياتنا الاجتماعية عامة ، وأن أوضح مدى قوة التأثير المتبادل بين ما يحدث في مجال التعليم وبين القيم الاجتماعية التي تسود حياتنا منذ عصور موغلة في القدم، وإذا استطاعت هذه الإشارة أن تقنع الأذهان بأن الحلول الجزئية لمشكلات التعليم - لو فرضنا أنها قد تحققت - لن تؤتي ثمارها كاملة ما دامت غير مقترنة بحلول أشمل لمشكلات أوسع مدى بكثير، تمس صميم حياة المجتمع ذاته، فإن الهدف الذي أرمي إليه من كتابة هذا المقال سيكون قد تحقق.
الباب الثالث
الفلسفة والمجتمع
بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم1
ينفرد التاريخ الفلسفي بصفات تميزه على نحو قاطع عن تاريخ أي علم آخر؛ ففي حالة أي علم ينبغي النظر إلى دراسة التطورات السابقة لهذا العلم على أنها مرحلة ثانوية الأهمية، وربما مرحلة لا قيمة لها بالنسبة إلى دراسة هذا العلم ذاته، مثال ذلك أن دارس الكيمياء لا يحتاج إلى دراسة تاريخها، وبالفعل لا يعرف معظم المتخصصين في هذا العلم إلا القليل عن تاريخه، ولا يمنع ذلك من وجود مجموعة قليلة تهتم بالأبحاث التاريخية المتعلقة بهذا العلم لذاتها، وهؤلاء يمكن أن يعدوا مؤرخين أكثر مما يعدوا كيميائيين، أما بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من علماء الكيمياء وباحثيها، فليست لتاريخ هذا العلم أهمية إلا في أقرب تطوراته وآخرها فحسب، وبقدر ما يكون الإلمام بهذه التطورات الأخيرة أمرا لا بد منه للقيام بأبحاث علمية جديدة تبدأ من حيث انتهت هذه التطورات، وتكمل ما تركته ناقصا، وتسد الثغرات التي تتكشف للعالم في أعمال السابقين عليه والمعاصرين له.
وعلى ذلك فإن دراسة تاريخ العلوم ليست لها أهمية تذكر بالنسبة إلى هذه العلوم ذاتها، ومن الممكن أن يسير العلم في طريقه على نحو سليم ومثمر دون أن يتعرض للبحث في تاريخه، فإذا ما بدا لأحد أن يبحث في تاريخ العلم، كان ذلك البحث أقرب إلى التاريخ منه إلى العلم ذاته، واتخذ شكل دراسة منفصلة عن أبحاث ذلك العلم، وفي جميع الأحوال تكشف هذه الدراسة التاريخية عن حقيقة واضحة، هي أن البدايات الأولى والمراحل المبكرة في تاريخ أي علم ، ليست لها إلا أهمية ضئيلة كل الضآلة بالقياس إلى تطوراته الأخيرة، بحيث يكون من الممكن الاكتفاء بالصورة التي يتخذها العلم في آخر مراحله، وتجاهل صوره السابقة أو إنكارها.
وعلى العكس من ذلك يتسم التطور الفلسفي بسمات مخالفة - وربما مضادة لسمات التطور العلمي - مما يؤدي إلى اتخاذ تاريخ الفلسفة طابعا مختلفا كل الاختلاف عن تاريخ العلم؛ فتاريخ الفلسفة جزء لا يتجزأ من الفلسفة ذاتها، حتى ليمكن القول إنه لا قيام للفلسفة بغير تاريخها؛ ذلك لأن الأفكار الفلسفية لا تعرض في كثير من الأحيان إلا من خلال عرض تطورها، وهذا العرض ذاته يؤلف فلسفة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، وإذن فهناك ارتباط لا ينفصم بين الفلسفة وتاريخها، والدافع الذي يدعونا إلى البحث في تاريخ الفلسفة هو دافع فلسفي أكثر منه دافع تاريخي. وليس هدف الباحث في تاريخ الفلسفة هو مجرد إكمال معلوماته العلمية، أو التوسع في جانب إضافي ثانوي الأهمية من جوانب بحثه، بل إن هذا الهدف يتصل أوثق الاتصال بصميم التفكير الفلسفي، منظورا إليه في تطوراته الماضية.
وفضلا عن ذلك، فالأمر في الفلسفة لا يقتصر مطلقا على بحث تطوراتها الأخيرة أو الأحدث عهدا، وليس في الفلسفة أي مجال لتفضيل الجديد على القديم لمجرد كونه أقرب زمنيا، بل إن المفاضلة الوحيدة المقبولة فيها إنما ترتكز على أساس القوة الكامنة في المذهب الفلسفي ذاته، سواء أكان هذا المذهب قريبا أم بعيدا، وسواء أكان ينتمي إلى التاريخ القديم أم الوسيط أم الحديث، وربما رأى بعض دارسي الفلسفة أن تطوراتها القديمة أعمق وأخصب من تطوراتها المتأخرة، أو هي على الأقل ذات قوة حية متجددة، مهما مرت عليها الأزمان، ومهما ابتعدت عنها في الماضي السحيق، وتلك صفة يستحيل أن يتصف بها التطور القديم لأي علم من العلوم، وقد تجد لها نظيرا في نظرة البعض إلى تطور الفنون؛ إذ يمجدون فنون العصر الكلاسيكي - مثلا - كما لو كانت هي الفترة التي يستحيل أن يقترب منها مستوى الفن في أي تطور لاحق.
فالتاريخ الفلسفي كله يكون حركة دائمة التجدد، وكثيرا ما نرى مراحل منه تتجدد وتعود إلى الحياة في عصور يبدو أنها منعدمة الصلة تماما بالعصر الذي ظهرت فيه أول مرة؛ إذ نجد مذاهب تنتمي إلى صميم العصور الوسطى (كالتوماوية مثلا) تتجدد في صميم القرن العشرين، على الرغم من الفارق الهائل في السياق الحضاري بين العصرين، ومن طول الفترة الزمنية التي انقضت بين ظهور المذهب الأصلي وبين إحيائه.
صفحه نامشخص