آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرها
ومع ذلك فإن هؤلاء المناضلين جميعا - الأفراد منهم والجماعات - يمكن أن يحسبوا - في نظر البعض - ضمن «خصوم» القيم الروحية؛ لأنهم يؤمنون بنوع من الاشتراكية «المتطرفة» التي يعدها الكثيرون متعارضة مع تلك القيم، فهل هناك دليل أبلغ من ذلك على ضيق نظرة هؤلاء إلى القيم الروحية وقصور فهمهم لمعناها؟ إن من هؤلاء من هم مخلصون - بلا شك - لمعنى الروحانية، حريصون على توطيد أركانه، ولكن ما أجدر هذا الفريق بأن يراجع تفكيره في هذا الأمر مراجعة شاملة، وأنا على ثقة من أنه لو فعل فسوف يتبين له أنه ضيق من نظرته إلى الروح وإلى قيمها أكثر مما ينبغي، وأنه أخرج من مجالها أنواعا من السلوك لا يستطيع أحد أن يشك في صدورها عن دوافع روحية خالصة.
بين الخبز والروح
إن شعار «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» هو الكلمة السحرية التي يرددها أنصار «القيم الروحية» بمعناها الضيق، ويزعمون أنهم يفحمون بها خصومهم، ويثبتون حرصهم على إنسانية الإنسان، وردا على هذا الشعار، أكد الكثيرون أنك لا تستطيع أن تقنع به الفقير الجائع الذي تدور معدته في خواء، فهل يعني ردهم هذا أنهم ينكرون أن في الحياة الإنسانية ما هو أسمى من الخبز؟
الحق أن مشكلة العلاقة بين الاشتراكية والقيم الروحية إنما يمكن حلها في الرد على هذا السؤال البسيط؛ ذلك لأن الإنسان لا يحيا حقا بالخبز وحده، ولكنه لا يستطيع أن يطبق هذا المبدأ إلا حين يتوافر لديه الخبز، وهذا هو لب الموضوع، فحين يعز الخبز على الإنسان يصبح هو الغاية القصوى - بل الوحيدة - لكل سلوك يقوم به، وتلك بلا ريب حالة من الضعة أشبه ما تكون بحالة الحيوان الأعجم، ومن عجيب أمور الفكر البشري أن ذلك الذي يدعو إلى توفير الخبز للجميع إنما يهدف إلى أن يرتفع بالإنسان فوق مستوى التفكير الدائم في الخبز والانشغال الذي لا ينقطع به، حتى يستطيع أن يتفرغ لما هو أرفع منه، على حين أن ذلك الذي يؤكد - في ترفع وتسام - أن الإنسان يحيا بما هو أسمى من الخبز، قد تؤدي دعوته هذه إلى أن يتجاهل الناس مشكلة الخبز، فتكون النتيجة أن يظلوا أسرى لها إلى الأبد، ويعجزون بالتالي عن بلوغ مستوى الخبز ومستوى ما فوق الخبز معا.
ولو شئنا أن نترجم هذا الكلام إلى اللغة الفلسفية، لقلنا إن الدفاع عن المادة كثيرا ما يكون - في حقيقته - دفاعا عن الروح بمعناها الحق، على حين أن الدفاع عن المثل الروحية كثيرا ما يحمل - بين طياته - أشد النزعات المادية عنفا وقسوة، ومن المؤكد أن لفظي «المادية» و«المثالية» مسئولان عن قدر كبير من المغالطات التي يعش الإنسان المعاصر ضحية لها.
ذلك لأن لكل من هذين اللفظين معنى عقليا خالصا أو نظريا فلسفيا، ومعنى آخر عمليا أو أخلاقيا، وفي تفكير معظم الناس خلط دائم بين هذا المعنى وذاك؛ فحين يتحدث أحد عن المادية - بالمعنى النظري الفلسفي وحده - ينصرف الذهن تلقائيا إلى المادية بمعناها الأخلاقي، وهي شيء قبيح ينفر منه كل إنسان لديه ذرة من حب الخير والجمال، وحين يتحدث آخر عن المثالية - بمعناها العقلي البحت - ينصرف الذهن أيضا إلى المثالية بمعناها الأخلاقي، وهي شيء رائع يسعى إليه كل من يقدر القيم الرفيعة.
ومع ذلك فإن تاريخ الفكر البشري حافل بأمثلة الفلسفات التي جمعت - دون أي تناقض - بين المادية النظرية والمثالية العملية أو الأخلاقية، والفلسفات التي ارتبطت فيها مثالية الفكر النظري بأقبح مظاهر المادية في السلوك العملي، وتكاد هذه أن تكون قاعدة مطردة، أو قانونا يحكم العقل البشري، ومع ذلك فما أسهل المغالطة حين يكون الأمر متعلقا بالجمع بين معان بلغت كل هذا الحد من التضاد!
على أنه إذا كان هذا هو الأصل الفلسفي للفهم الباطل لمعنى الروحانية (التي هي وثيقة الارتباط بالمثالية)، فإننا لا نجد أنفسنا بحاجة إلى الخوض في أعماق بحر الفلسفة كما ندرك أن «الدفاع عن الروح» قد أسيء فهمه وأسيء استخدامه في عالمنا هذا إلى حد يؤدي إلى إلحاق أفدح الأضرار بقضية الروح ذاتها، ولا أشك لحظة في أن الأمثلة الملموسة التي قدمتها في موضع سابق من هذا المقال، كفيلة - إذا ما تعمقنا فهم دلالتها - بتنبيه هذه الأذهان إلى خطورة الالتباس الذي وقعت فيه.
إن فهمنا لطبيعة القيم الروحية ومجالها يحتاج إلى مراجعة جذرية، تؤدي بنا إلى ألا نقتصر على المعنى الشكلي لهذه القيم، بل نضيف إليه أهم المعاني جميعا، وهو المعنى الجوهري للروح، والحق أننا لو شئنا أنموذجا صارخا في هذا العالم الذي نعيش فيه للفهم الشكلي للروحانيات، لكان هذا الأنموذج هو الأيديولوجية الصهيونية؛ فهذه الأيديولوجية ترتكز على الاستمساك المريض بحرفية عقيدة تعتقد أنها هي وحدها العقيدة الروحية المقدسة، وكل ما تقدمه هذه الأيديولوجية لتصرفاتها من تبريرات يرتكز على دعائم من هذه العقيدة الروحية، ومع ذلك فما أعظم التباين بين ادعاء الدفاع عن عقيدة روحانية، وبين المسلك الإجرامي الذي تحبذه هذه الأيديولوجية وتدفع أنصارها إلى القيام به دون وازع من مبدأ أو ضمير، ومنذ أن كانت لليهود حياة متميزة محددة المعالم، كان هذا الازدواج العجيب بين التمسك بالعقيدة وبين الجري اللاهث وراء الماديات، هو السمة المميزة لحياتهم، وما هذه - في رأيي - سوى النتيجة القصوى للتمسك الشكلي البحث بالروحانية، دون اكتراث بجوهرها ومعناها العميق.
إن القيم الروحية - إذن - ليست شكلا فارغا أو إطارا من الشعائر والأقوال التي تتردد آليا على الألسن، بل هي قبل كل شيء سلوك عملي في الحياة، والحريص حقا على القيم الروحية ليس ذلك الذي يردد ألفاظا أو يؤدي طقوسا، بل هو ذلك الذي يثبت بسلوكه في الحياة أنه يتخذ لنفسه هدفا رفيعا، ويضحي من أجل تحقيقه بكل ما يملك.
صفحه نامشخص