آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
ژانرها
بل إننا نستطيع أن نمضي في التحليل أبعد من ذلك، فنقول إن الأخلاق عند كل من هذين المفكرين ليست ظاهرة أصيلة مكتفية بذاتها، وإنما هي «بناء علوي
Superstructure » يرتكز على أساس آخر أعمق منه، وهذه الصفة واضحة كل الوضوح في تفكير ماركس؛ إذ إن العوامل التي ترتد إلى أصل اقتصادي - وأهمها علاقات الإنتاج - هي التي تتحكم في كل ما يعلوها من التركيبات الذهنية والمعنوية وضمنها الأخلاق، وقد لا تبدو هذه الصفة في الأخلاق واضحة لأول وهلة عند نيتشه، ولكنها تتمثل لديه بالفعل، وإن كان الأساس الذي يرتكز عليه البناء العلوي عنده أساسا حيويا ونفسيا، وليس أساسا اقتصاديا؛ فكل أخلاق في نظر نيتشه مظهر من مظاهر «إرادة القوة» التي هي الدافع الأصلي والمحرك الأول لكل فعل إنساني، إننا نبحث عن الخير، وندعو إلى الفضيلة والعدالة والشفقة، لا لأننا كائنات أخلاقية، بل لأننا نجد في هذه المعاني ما يساعد على اكتسابنا مزيدا من القوة، وحتى عندما تتجه دعوتنا إلى المسالمة والتنازل عن القوة، يكون هذا مظهرا تستتر وراءه «إرادة القوة» بخفاء ودهاء؛ فالأخلاق إذن ليست مقصودة لذاتها، والقوة المحركة لها ليست مستمدة من مجالها الخاص، بل هي القوة التي تحرك كل نشاط إنساني، أعني «إرادة القوة» التي يرتكز عليها كل بناء علوي في مجال القيم.
وقد يعتقد المرء أن دور الأخلاق يغدو ثانويا حين تصبح «بناء علويا» على هذا النحو، ولكن الواقع أن للقيم الأخلاقية دورا أساسيا عند كل مفكر ثائر على عصره، وهذا يصدق على نيتشه وماركس بنفس المقدار؛ فبقدر ما كان نيتشه قاسيا في نقد الروح الأخلاقية لعصره - بل في نقد الروح الأخلاقية بوجه عام - كان الدافع الذي أدى به إلى هذا النقد أخلاقيا في صميمه، إنه يحمل على قيم العصر ويشمئز منها ويصفها بالانحلال، ويدين كل مجتمع سابق، بل يعتقد بأن فكرة «الأخلاقية» ذاتها ينبغي أن تدان؛ لأن كل أخلاقية إنما هي تكبيل لقوى الإنسان الخلاقة، ومحاولة لحصر روحه المتوثبة في إطار من النظم التي تسري على المجموع، ولا تترك للفرد منطلقا، ولكن من وراء هذا النقد المرير للأخلاق - سواء أكانت أخلاق العصر أم الأخلاقية بوجه عام - دوافع أخلاقية لا شك فيها؛ ففي كلتا الحالتين يستهدف المفكر نوعا أفضل من الإنسان يؤمن بأنه سيظهر في المستقبل، وما دام الهدف إنسانا «أفضل»، فإن الأخلاقية تكون هي القوة الدافعة إلى هذا النقد، وإلى هذا الإيمان بالمستقبل.
فهل نستطيع أن نقول مثل هذا عن ماركس؟ أيمكن أن يوصف تفكيره بأنه أخلاقي في أساسه؟ إن أول إجابة تتبادر إلى الذهن هي أن فلسفة ماركس تتعلق أساسا بالموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأنها بهذا الوصف واهية الصلة بالأخلاق، وبالفعل فإن الكتاب الذين بحثوا عن آراء أخلاقية في كتابات ماركس، لم يستطيعوا أن يستخلصوا إلا عبارات بسيطة متناثرة، لا تكفي على الإطلاق لإعطاء القارئ أية فكرة عن اتجاه محدد المعالم في الأخلاق، ومع ذلك فإذا لم تكن الأخلاق عنده واضحة في صورتها الصريحة المباشرة، فإنها ماثلة في كل كتاباته بصورة هي حقا ضمنية، ولكنها تمثل قوة دافعة رئيسية له، فإدانته للرأسمالية تحمل طابعا أخلاقيا لا تخطئه العين، والعبارات التي استخدمها في حملته عليها تظهر فيها الروح الأخلاقية واضحة؛ إذ هو ينعى عليها ما فيها من ظلم واستغلال واضطهاد وقضاء على إنسانية الإنسان. وبهذا المعنى يمكن القول إن هدفه النهائي من دعوته الاشتراكية إنما هو إعادة الأمور إلى نصابها أخلاقيا ومعنويا قبل كل شيء، وهنا تتمثل لنا مفارقة غريبة؛ إذ إن هذه الأخلاق - التي هي في عصرنا الحاضر وفي العصور السابقة - مجرد بناء علوي يرتكز على أساس أصلي من العلاقات الاقتصادية، ستصبح هي ذاتها الغاية القصوى من الثورة الاجتماعية التي كان يحلم بها ماركس؛ فبعد أن تتحقق هذه الثورة، وتختفي كل صور استغلال الإنسان للإنسان، سيكون الهدف النهائي للإنتاج الاقتصادي وللمخترعات العلمية والتكنولوجية هو تحقيق أفضل تنظيم ممكن للعمل الإنساني، ولوقت الفراغ الإنساني أيضا، على النحو الذي يضمن تنمية المواهب الخلاقة للإنسان إلى أقصى حد ... أي إن القيم الأخلاقية والمعنوية التي كانت «بناء علويا» في مرحلة الصراع والكفاح ستصبح «غاية قصوى» في مرحلة الانتصار.
وما دمنا قد تحدثنا عن آمال هذين المفكرين في المستقبل، فإن هذا الحديث يقودنا إلى سمة أخرى مشتركة بينهما، هي أن هذا المستقبل الذي يعلقان عليه آمالهما ليس «عالما آخر» مغايرا لهذا العالم الذي نعيش فيه، بل إن على الإنسان أن يحقق في عالمه هذا كل ما يسعى إلى تحقيقه؛ فليس ثمة ازدواج بين عالمين، وليست هناك حملة على هذه الحياة ودعوة إلى التعلق بحياة أخرى تعوض الإنسان عما فاته في هذه الدنيا، بل إن من أقوى أسباب نقد نيتشه وماركس معا للأخلاق الشائعة، أنها تنطوي على بذور «أخروية»، ولا تدفع الإنسان إلى التعلق بحياته هذه والوقوف منها موقفا إيجابيا.
ولا جدال في أن انتشار هذه الأخلاق «الأخروية» - التي تصرف جهود الإنسان عن نفسه وعن العالم الذي يعيش فيه - يرجع إلى تأثير المسيحية التي اشترك نيتشه وماركس معا في مهاجمتها بكل ما أوتيا من قوة وإن اختلفت الأسباب؛ فالأول يهاجم القيم المستمدة من المسيحية؛ لأنها تكبت كل الدوافع الحية في نفس الفرد، وتدعو إلى إنكار الحياة بل إماتتها، والثاني يهاجمها لأنها تتستر على الظلم الاجتماعي، بل تنادي - بصورة غير مباشرة - بأن الوضع القائم في العلاقات بين البشر - بما فيه من تفاوت طبقي ومظالم اجتماعية - هو قانون إلهي أو مشيئة عليا لا يستطيع أحد أن يعترض عليها.
بل إننا لو تجاوزنا نطاق هذا التشابه الواضح في حملة هذين المفكرين على المسيحية؛ لأمكننا أن نهتدي إلى تشابه أعمق منه بين موقف نيتشه من المسيحية من جهة، وموقف ماركس من الرأسمالية من جهة أخرى؛ فليس خافيا أن نيتشه جعل من المسيحية خصمه الأول، وكرس للصراع معها الجانب الأكبر من كتاباته، وفي مقابل ذلك لم تكن المسيحية هي الخصم الرئيسي لماركس، بل إن الاستغلال الطبقي - الذي يعني الرأسمالية في عصرنا الحاضر - هو العدو الذي اتجهت كتابات ماركس كلها إلى محاربته، ولكن أليس في وسعنا أن نلمح توازيا بين هاتين الحملتين؟ إن نيتشه يهاجم المسيحية بقسوة وعنف، لا من أجل عداء باطن يحمله لها، بل لأنها تقتلع الإنسان من جذوره، وتجعله يخلق أصناما ثم يعبدها، إن الإنسان في رأي نيتشه يستخلص أرفع ما فيه من قوى ومن معان روحية ومن آمال وغايات ويضفي عليه طابعا مشخصا ويضعه خارجا عنه، وأعلى منه، بعيدا في السماء، ثم يخر له ساجدا. ولكن أليس هذا بعينه ما تفعله الرأسمالية في نظر ماركس؟ إنها تخضع الإنسان لتلك القوة الغاشمة اللاإنسانية التي تقهره وتستذله؛ قوة رأس المال. أليس رأس المال هذا إلها اصطنعه الإنسان ثم عبده؟ إن رأس المال المتراكم - آخر الأمر - ما هو إلا حصيلة جهد العامل، وفائض قيمة عمله؛ فهو بدوره مستخلص من داخل الإنسان العامل ومن كده وعرقه، ولكنه في النظام الرأسمالي يصبح موضوعا خارجيا، يظل يرتفع ويعلو على الأصل الذي جاء منه، حتى يغدو آخر الأمر قوة غاشمة تسلب العامل (الذي خلقه) إنسانيته، وتجعل من عمله سلعة تباع وتشترى، بل تجعله هو ذاته «شيئا» لا إنسانا، إن رأس المال بدوره إله استخلصه الإنسان من دخله ثم رفعه بعيدا في السماء، وخر أمامه ساجدا.
أما الهدف من «إعادة تقويم القيم» فهو - في كلتا الحالتين - «تحطيم الأصنام» وإعادة الإنسان إلى جذوره التي اقتلع منها، واسترداد ما سلب منه واغترب عنه حتى طغى عليه، إن كلا منهما يعلن - في كل ما كتب - أن شمس الآلهة المصطنعة في أفول، وأن مملكة الإنسان لا بد أن تعود.
مظاهر التناقض وطريقة تجاوزه
لقد بدأت مقالي بقضيتين متناقضتين لمفكرين متعاصرين حول موضوع واحد، ولكن التحليل الذي ينفذ إلى ما وراء التناقض الظاهر كشف لنا - رويدا رويدا - عن عدد كبير من نقاط الالتقاء بين هذين المفكرين، حتى ليحسب القارئ - بعد الصفحات السابقة - أن نيتشه وماركس متفقان - في موضوع الأخلاق - على كل شيء، ولكني لا أود أن أترك لدى القارئ أي انطباع كهذا؛ فالتضاد بين موقف هذين المفكرين قائم، وكل ما في الأمر أن من ورائه نقاط التقاء هامة يستطيع التحليل الذي ينفذ إلى ما وراء ظاهر أقوالهما أن يتوصل إليها، ومع ذلك فإن نقاط الالتقاء هذه لا تنفي التعارض الأساسي بينهما، وبالتالي فإنها - حتى لو استطاعت أن تخفف من حدة التناقض الذي نبهنا إليه في مستهل هذا المقال - لا يمكنها أن تقدم حلا للإشكال الأساسي، وهو: كيف وصل مفكران يعيشان في عصر واحد وتدفعهما روح نقدية واحدة، إلى مثل هذين الرأيين المتعارضين بصدد موضوع واحد؟
صفحه نامشخص