على عكس هذا بالضبط أهل الإقليم الذي جاءت منه أم رينان؛ فأهل الجنوب من أشد الفرنسيين ميلا إلى الكلام واندفاعا فيه، وإظهارا لما يشعرون ولما يفكرون، وهم يتعلقون بالمثل الأعلى، ولكنهم ليسوا حراصا عليه، لا يسرفون في المحافظة ولا يسرفون في بغض القديم، وإذا صح هذا التعبير نستطيع أن نقول إن أهل بريتانيا مبطئون في الحركة بطئا شديدا بمقدار ما نجد أهل الجنوب يسرعون إسراعا شديدا، وأهل بريتانيا مبغضون للكلام على حين يندفع أهل الجنوب فيه اندفاعا، فالإقليمان أو فأهل الإقليمين متناقضون أشد التناقض، وسترون أن حياة رينان تمثل هذا التناقض إلى حد بعيد.
كان أبو رينان ضابطا من ضباط البحر، ولكنه في آخر حياته اشتغل ببعض الأعمال المالية، ولم يكن صاحب عناية بالمال، ولا بارعا في تدبير الشئون المالية، فلم يوفق، وتورط في أعمال انتهت به إلى الإفلاس، وانتهى إلى موت غريب جهلت أسبابه واختلف الناس فيه اختلافا شديدا؛ فمنهم من زعم أنه موت فجائي، ومنهم من زعم أنه انتحار، ومنهم من شك وتردد بين هذا وذاك.
ومهما يكن من شيء، فقد كان رينان صبيا حين مات أبوه، وقد كان فقيرا وليس له من يعينه على الحياة إلا أمه وأخته هنريت التي سيطول عنها الحديث في هذه المحاضرة، وأخ له يدعى آلان رينان.
قضى رينان حياته الأولى في مدينة تريجييه التي ولد فيها، بين أمه وأخته، وكانت أخته أسن منه ولدت سنة 1811، بينما ولد رينان سنة 1823، وهي التي ربته وعنيت به عناية متصلة، وكان وهو صبي طاغية قاسيا يكلف أخته من المشقة ومن الجهد شيئا كثيرا؛ كان يتحكم فيها تحكما لا حد له، وكانت هي تحبه وتعطف عليه عطفا لا حد له أيضا، وكانت مستسلمة لهذا الطغيان تجد فيه لذة وراحة، ويقال إنها أرادت ذات يوم وكانت فتاة متقدمة في السن - تتجاوز الخمس عشرة سنة - أرادت أن تخرج لتلقى بعض صاحباتها، فكره رينان أن تتركه وحيدا فألح عليها أن تبقى معه، وما زال يلح حتى رقت له وبقيت، ويقال إنها أنذرته ذات مرة أنه إذا لم يؤثر الهدوء أن تموت، فلما لم يهدأ ولم يعتدل ماتت، ومعنى هذا أنها لزمت سكونا طويلا وصمتا عميقا، وأخذ أخوها يكلمها فلا تجيب ويداعبها فلا ترد عليه، حتى استيقن أنها ماتت، فأسرع إليها فعضها عضة عنيفة دعتها إلى أن تصرخ، فلما صرخت وأخذت تظهر الألم، أخذ هو يؤنبها ويقول لها: «أتتعهدين بأنك لن تموتي بعد.» وكذلك نشأ رينان سعيدا بائسا في وقت واحد؛ سعيدا بهذا الحنان الذي كان يجده عند أمه وعند أخته هنريت، وكان بائسا بهذا الفقر الذي كانت الأسرة تعانيه وتحتمل أثقاله بشيء من الشرف والكرامة والصبر.
وأرسل الصبي إلى مدرسة من المدارس الدينية فتعلم فيها تعليما دينيا خالصا، ولم يكد يتجاوز الثانية عشرة من عمره حتى تبين له ولأسرته أنه سيتجه بتعليمه إلى أن يكون قسيسا، وكان الفقر قد ألح على أسرته، وكانت أم رينان عاجزة عن أن تعمل وأن تكسب الحياة لنفسها ولابنها الصغير وفتاتها، وهنا تظهر الحياة الجديدة لهنريت، وهنا تظهر لنا هذه الفتاة خليقة بالإعجاب، وبالإعجاب الذي لا حد له؛ فقد أحست الفتاة ما تجد أمها وما يجد أخوها من البؤس والضيق، وأحست أن أباها قد ترك ديونا يجب أن تؤدى، وأحست عجز هذه المرأة وهذا الطفل عن الكسب فنهضت هي بهذا العبء، وأخذت تعمل لتمكن أمها وأخاها من العيش، عملت في المدينة أولا في بعض مدارس البنات معلمة، ثم رأت أن هذا العمل لا يلائمها؛ لأنه لا يغل عليها المال الكثير، فسافرت إلى باريس وتركت أمها وأخاها في المدينة واشتغلت معلمة في المدارس، وكانت تكلف نفسها أثقالا لم تكن قد هيئت لاحتمالها؛ كانت جادة ما وسعها الجد في أن تعلم وأن تتعلم، وأن ترسل ما تستطيع إرساله من المال لأمها لتعيش وتربي أخاها الصغير، وما زالت كذلك حتى تقدم الفتى في السن وبلغ الثامنة عشرة، فأرسلت في طلبه إلى باريس، ودفعته إلى مدرسة من مدارس اللاهوت كان يشرف عليها أسقف من الأساقفة الفرنسيين هو مونسنيير دي بونلو، وكان قسا أرستقراطيا في العصر الذي ظهرت فيه الملكية الفرنسية بعد رجوعها إثر سقوط الإمبراطورية، وأخذت فيه الحياة الأرستقراطية الفرنسية تعود أو تحاول أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الثورة، فكان هذا العصر عصر نشاط للأرستقراطية، وعصر استئناف لحياة النظام القديم.
وكان الأسقف أو المدبر لهذه المدرسة رجلا من الأرستقراطية يعنى عناية شديدة بالنظم الأرستقراطية والتقاليد الأرستقراطية، ويعلم الدين كما كان الدين يعلم في القرن الثامن عشر، تعليما ربما قصد به إلى الشرف وإلى المظاهر، وإلى إرضاء هذه الطبقات الراقية أكثر مما قصد به إلى الدين من حيث هو دين، وأحس رينان هذا فضاق به وكرهه كرها شديدا، ولم ينته به الأمر إلى كره هذا النوع من التعليم فحسب، بل أخذ ينتهي به إلى شيء من الشك في الدين نفسه، ثم انتقل من هذه المدرسة إلى مدرسة دينية كبرى يتخرج فيها القسس وهي مدرسة «سان سيلبيس»، وفي هذه المدرسة دفع رينان إلى دراسة في شيء كثير جدا من العناية والإتقان؛ لأنها كانت مدرسة لا تعنى بالدراسة الدينية العادية، ولا بتخصيص تلاميذها في اللاهوت وحده، وإنما تعنى بدراسة دينية عالية متقنة، ويكفي أن تعلموا أنه في هذه المدرسة أخذ يدرس اللغة العبرية، كما أنه أخذ يدرس الفلسفة؛ الفلسفة العصرية الجديدة وبنوع خاص فلسفة الألمان المعاصرين.
ومن هاتين الدراستين؛ دراسة العبرية من ناحية ودراسة الفلسفة الألمانية من جهة أخرى، تكونت نفس الشاب تكوينا مناقضا إلى حد بعيد لنفس الطفل أو الشاب الذي أقبل إلى باريس منذ أعوام، أما دراسة العبرية فقد مكنته من أن يقرأ التوراة في لغتها الأولى، ومن أن يقرأ آثارا إسرائيلية قديمة كتبت في لغتها الأولى، على حين كان غيره من القسس ومن الذين يتهيئون لخدمة الدين يقرءون التوراة ويقرءون الآثار الإسرائيلية باللغة اللاتينية، أخذ يقرأ هذا باللغة العبرية الأصلية، ودراسة اللغة العبرية ودراسة النصوص الدينية بلغتها الأولى خليقة أن تثير كثيرا من الشكوك، ولو لم يكن فيها إلا أنها تدعو إلى المقارنة بين الأصل والترجمة وبين ما يفهم من الأصل وما يفهم من الترجمة، لكان ذلك كافيا لتنبيه عقل الشاب إلى ناحية من نواحي الدين ، هي الناحية التاريخية الصحيحة.
أما الفلسفة الألمانية فقد أثارت في نفس هذا الشاب شكوكا لا تتصل بالنصوص ولا بالتاريخ، ولكنها تتصل بطبيعة الدين وبطبيعة الإيمان وبطبيعة الحياة، وكان للفلاسفة الألمانيين تأثير في نفس هذا الشاب «ولا سيما فيشت وهيجل».
وبين تأثير الفلاسفة الألمان من ناحية، واللغات السامية من ناحية أخرى، اشتد الشك في نفس الفتى، وإذا هو يشعر في وقت من الأوقات بأن هناك تناقضا شديدا جدا بين ما ورثه عن آبائه وما تعلمه في مدرسته الأولى، وبين ما تعلمه في مدرسته الثانية من تعاليم الدين، وما أخذ عقله ينتهي إليه من النتائج والآراء، نظر فإذا الدين المسيحي يعتمد أو يرجع عند التحليل إلى أصول ثلاثة أو عناصر ثلاثة: العنصر الأول يتصل بالأخلاق، فالدين المسيحي فيه عناية بالأخلاق، وفيه عناية شديدة بصلاح النفوس المريضة وعلاج ما قد يعرض لها من الآثام والخطايا، والعنصر الثاني هو العنصر اللاهوتي - إن صح هذا التعبير - وهو الذي يتصل بالعقيدة والأسرار وطبيعة العقيدة المسيحية، والعنصر الأخير هو العنصر التاريخي الذي يتصل بنشأة المسيح وحياته وما عرض له من الخطوب وما انتهى إليه أمره، ثم ما نشأ عن ذلك من سيرة الرسل وانتشار الدين ...
فأما العنصر الأول، فلم يعرض له الشك في نفس رينان، فمن يقرأ الأناجيل والتعاليم المسيحية لا يشك في أن هذا الدين يعنى عناية واضحة جدا بتهذيب النفس وإصلاح الخلق، وشفاء الإنسان من الأمراض الفردية والاجتماعية؛ فهو من هذه الناحية لم يتردد في حب هذا العنصر من عناصر الدين وفي استبقائه والحرص عليه، ولكن العنصر الآخر الذي يتصل بطبيعة الإيمان والعقيدة المسيحية، والأسرار التي تقوم عليها المسيحية بالتوحيد أو باللاهوت المسيحي، هذا العنصر تعرض لخطر عظيم جاءه من الفلسفة الألمانية التي أخذت تشككه في هذه الأسرار، وأخذت تشككه فيما توارد من تفسير الصلة بين الإله والعالم!
صفحه نامشخص