ثم تدعو الحياة جان جاك إلى أن يعود إلى وطنه جنيف، وهناك يعود إلى دينه الأول فيرفض الكاثوليكية، وهناك يظفر روسو بإعجاب مواطنيه وبشيء من السعادة لا بأس به فهو قبلة جنيف وهو عظيم المدينة، ولكنه لا يكاد يعود إلى باريس ويستأنف حياته فيها حتى يدنو مسرعا إلى ما لم يكن بد من أن يدنو منه إلى هذه الغاية، وهي سخط الناس جميعا عليه؛ يضع كتابه في التربية، كتاب «أميل»، ولا يكاد يعلن هذا الكتاب وينشره حتى يحدث ثورة أشد من التي أحدثها بكتابيه السابقين، وإذا البرلمان في باريس يقضي على هذا الكتاب بالتحريق وبالقبض على صاحبه، وإذا النذير يصل إليه، وإذا هو مضطر إلى الهرب.
ولكنه طبع كتابا آخر ليس أقل من «أميل» خطرا، هو «العقد الاجتماعي» وإذا الكتاب يحدث ثورة، لا في باريس وحدها، بل في كل البلاد الأوروبية، وكان المعقول أن يجد جان جاك ملجأ في وطنه جنيف، ولكن كتابه قد قضي عليه في جنيف بالتحريق، وقد حرمت جنيف على روسو، فهو لا يستطيع أن يلجأ إليها بعد أن أغلقت عليه وحرمت عليه، ثم يريد أن يلجأ إلى مدينة أخرى من مدن سويسرا، فإذا هذه المدينة قد حرمت عليه أيضا، وإذا مدن سويسرا كلها قد حرمت عليه، وإذا هو مضطر إلى أن يلجأ إلى ناحية سويسرية لم تكن حرة في ذلك الوقت ولكنها كانت خاضعة لسلطان بروسيا، وهناك تستقر به الحياة أعواما ولكنه لا يكاد يظفر بالحياة المستريحة الآمنة حتى يقوم الجدال حول آرائه، وحتى يشتد هذا الجدال حتى يؤلب الشعب عليه وحتى يلقي خصومه - وفي مقدمتهم فولتير - في روع الشعب أن روسو عدو الشعب، وأنه يزعم أنه ليس للنساء نفس، وأنه عدو للدين وأنه لا بد من أن يطرد من حظيرة البروتستنتية، وإذا الشعب ساخط عليه كما سخط عليه كل إنسان، ولكن الشعب يتحداه ويتبعه في الشوارع ويقذفه بالحجارة ويقذف بيته أيضا، وإذا هو مضطر إلى أن يهرب ويلتمس له ملجأ في مكان آخر، يهرب من نيوشاتل إلى مدينة أخرى تتبع حكومة برن، ولكن حكومة برن أصدرت أمرها بوجوب مهاجرة روسو من كل أرض تخضع لسلطانها؛ فيبكي، وهو مستعد للإذعان ولكنه يطلب إلى الحكومة أن تأذن له بالإقامة في سجن من سجونها، فهو لا يريد أن يكتب ولا أن يشتغل بعلم أو بشيء، وإنما يريد أن ينتظر الموت مستريحا، وهو يعطي على نفسه عهدا أن يقيم في السجن على نفقته الخاصة، ولكن الحكومة تأبى عليه هذا أيضا، فهو مضطر إلى أن يترك أرض سويسرا كلها، وهو متردد لا يدري إلى أين يذهب، يدعى إلى فينا ويستطيع أن يذهب إلى برلين حيث فردريك، ويستطيع أن يذهب إلى إيطاليا.
وبينما هو في هذا التردد يخطر له أن هذه المدن كلها بعيدة، وأنه يستطيع أن يجد مكانا في فرنسا بعيدا عن باريس فيذهب إلى مدينة ستراسبورج، وإذا عرض يعرض عليه؛ أن يذهب إلى إنجلترا؛ لأن الفيلسوف هيوم مستعد لأن يحميه ولأن يسهل عليه الإقامة الهادئة في بلاد الإنجليز، ولم يكن روسو يحب الإنجليز، ولا يحب بلادهم، كما أنه لم يكن يعرف لغتهم، ولكن العرض كان قيما، وكان يقدم إليه في شيء من العناية واللطف والإلحاح، فلم يسعه إلا أن يقبل، وكان الفيلسوف الإنجليزي ظريفا وكريما، فقد تعهد لروسو بأن ييسر له كل أمر؛ بأن ييسر له الانتقال من ستراسبورج إلى باريس، ومن باريس إلى بلاد الإنجليز، وأن ييسر له الحياة في إنجلترا كما يحب ويهوى ؛ فرافقه من ستراسبورج إلى باريس، ثم رافقه إلى بلاد الإنجليز وقدمه الرجل إلى الأرستقراطية الإنجليزية، وجد في العناية بضيفه، وكانت شهرة جان جاك قد سبقته إلى إنجلترا فترجمت بعض كتبه، وكتبت الفصول عما لاقاه من اضطهاد، وكان الرأي العام الإنجليزي مستعدا أحسن الاستعداد للعطف عليه، وكان كل شيء ينبئ أنه سيكون سعيدا. ولكنه عندما وصل إلى إنجلترا في سنة 1766 لم يلبث أن أصبح أشقى الناس؛ لأنه كان فيلسوفا وكان مجنونا.
ونلاحظ أولا أن حياة روسو كانت شديدة المناقضة جدا لما ألف الإنجليز؛ فقد كان روسو يلبس لباسا شرقيا أرمنيا؛ ثوبا واسعا فضفاضا ويشد خصره بحزام ويضع على رأسه قلنسوة شرقية، ثم كان أشد الناس ازدراء للعادات والتقاليد وما ألف الناس من أوضاع، وعلى كل حال عني به الإنجليز عناية شديدة جدا عندما وصل إلى لندرة، وعني به الفيلسوف هيوم واجتهد في أن يحقق له كل ما كان يريد، ولكن كل ما كان يريده جان جاك هما شيئان متناقضان؛ كان يريد أن يكثر الحديث عنه، وأن لا يراه أحد ولا يقابل أحدا، ولا يزور أحدا، ويقال إن بعض كبار الممثلين عني بجان جاك وقرر أن يمثل من أجله في بعض الملاعب بعض الروايات، وهيئت لذلك حفلة خاصة ودعي روسو إليها، وأظهر الملك والملكة رغبة في حضور هذه الحفلة، لا رغبة في التمثيل بل لرؤية جان جاك، وأسرعت الأرستقراطية كلها في الحضور، وفي آخر لحظة قرر روسو أنه لن يذهب إلى الملعب، لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يترك كلبه وحده في الغرفة، فلما بين له صديقه أنه لا يليق حقا أن يأتي أمرا كهذا، وأن يكلف الملك والملكة وكبار الأرستقراطية وهذا الممثل العظيم الحضور ثم يخلفهم موعدهم لا لشيء إلا لأنه يشفق على كلبه من الوحدة ؛ قرر أن يذهب ويغلق غرفته ويأخذ المفتاح حتى لا يفلت الكلب، وخرج مع صديقه، وبينما هو على الدرج إذا به يسمع نباح كلبه فتسقط الدموع من عينيه فيأبى أن يذهب إلى التمثيل، وبعد جهد استطاع صديقه أن يقنعه آخر الأمر بالذهاب، فذهب بلباسه الشرقي ودخل في «اللوج» الذي هيئ له، في نفس الوقت الذي دخل فيه الملك والملكة، وكانت عناية الملك والملكة بمنظر روسو أشد جدا من عنايتهما بالتمثيل، والواقع أن منظر روسو كان غريبا حقا؛ فقد كان روسو لا يفهم حرفا من الإنجليزية ولكنه كان يضحك ويبكي، وكان يضطرب ويقوم ويقعد حتى خشيت جارته أن يسقط فشدته من ثوبه، ثم بعد أن ينتهي التمثيل ذهب إلى الممثل وقال له لقد ضحكت عندما سمعت الكوميديا، وبكيت عندما سمعت التراجيديا، ولكني مع ذلك لم أفهم حرفا مما كنت تقول.
كان روسو - كما قلت لكم - شديد الحرص على العزلة ولست أقص عليكم تفصيل حياته في إنجلترا ولكني أوجز هذا إيجازا؛ فقد انتهى الأمر بجان جاك إلى أن ظفر بقصر في مكان خلوي، وكان صاحب القصر رجلا ظريفا فقبل أن يضيف روسو، وكان يجب أن يضيف روسو على أن لا يكون ضيفا بل على أنه مستأجر وكان يجب أن يقدم إليه كل ما يحتاج إليه، وما أكثر ما كان يحتاج إليه! وأن يأخذ منه أيسر أجر ممكن، وقد كان كل ما أراد روسو فقبلت منه أجرة اسمية - إن صح هذا التعبير - وأقام مع صديقته تيريز، واحتملت الأرستقراطية الإنجليزية عناء شديدا في أن تقبل هذا الرجل وصديقته التي لم تكن زوجه ولم تكن مثقفة ولا مهذبة، وإنما هي عاملة غبية غافلة، يقبلون أن يجلسوا إلى موائدهم وفي غرف الاستقبال مع هذه المرأة البلهاء، وكل هذا لم يرض روسو، فكان يرى أنه لم يظفر بما كان ينبغي أن يظفر به من العناية في بلاد الإنجليز.
وفي أثناء هذه الحياة التي كانت تملؤها الشكوى من روسو وتملؤها العناية من الإنجليز، نشأت خصومة بين روسو وصديقه هيوم ، وهذه الخصومة مصدرها أن روسو اتهم صديقه بأنه يخونه ويعين عليه أعداءه ويؤلب عليه خصومه في باريس، وكانت هذه التهمة في نفس الوقت الذي كان فيه صديقه الفيلسوف الإنجليزي يسعى للحصول على مرتب منظم لروسو.
مهما يكن من شيء، فقد فسدت الصلة بين الصديقين وأعلن هذا وألفت فيه الكتب ونشرت الفصول، وانتشرت هذه الكتب في باريس وفي لندرة، وأصبحت من المسائل التي شغلت الرأي العام بين سنة 1766 وسنة 1767. وانتهى الأمر إلى أن استيقن جان جاك أن حياته في إنجلترا أصبحت في خطر، وهم بالرجوع إلى فرنسا، ولكنه خائف على حياته فكتب إلى رئيس الوزارة أن يعين له حرسا يحميه حتى يصل إلى دوفر، فيجيبه رئيس الوزراء أن أي سائق عربة في إنجلترا يمكن أن يعتبر كأحسن حرس يحميه، ولا يكتفي روسو بهذا، بل يكتب إلى أمين الملك بأن يعين بعض الفرسان لحمايته، فيجيبه هذا بمثل ما أجاب به رئيس الوزراء، وينتهي الأمر بروسو إلى أن يفلت من إنجلترا إفلات الهارب الذي لا يشك أن الأوروبيين - الفرنسيين والإنجليز - قد ائتمروا به وقرروا أن يقتلوه، كان الخوف قد أخذ من نفسه كل مأخذ، فما كاد يصل إلى دوفر حتى كتب إلى أمين الملك أن يعين له نوع الموت الذي يريد أن يقضي عليه به، وتزيد الظروف في نفس روسو، فهو إذا ما وصل إلى دوفر يلاحظ أن الريح ليست مواتية فلا يشك في أن الطبيعة قد ائتمرت مع الفرنسيين والإنجليز، ثم ينتهي أمره بالرجوع إلى فرنسا.
ويقضي حياته مشردا مرة هنا ومرة هناك يستقر بعض الشيء، ولكنه لا يزال مضطربا مترددا حتى ينتهي أمره إلى الوفاة سنة 1878 بعد فولتير بمدة قصيرة.
ليس من شك في أن حياة جان جاك روسو كانت حياة رجل مضطرب الأعصاب مجنون إلى أبعد حد، ولكن ما رأيكم في أن هذا الرجل المضطرب المجنون هو أعظم الناس أثرا في الحياة الفرنسية أولا، وفي الحياة الأوروبية ثانيا، وفي الحياة الإنسانية بوجه عام من جميع وجوهها المختلفة؟! هو أعظم الناس أثرا في الحياة السياسية كلها؛ فهو أبو الثورة الفرنسية بكتابه «العقد الاجتماعي» وهو الذي استطاع أن يعلن رأيا كان معروفا قبله، وكان شائعا من غير شك - ولكنه كان مقصورا على الفلاسفة ورجال السياسة، فاستطاع روسو أن يلقيه في نفس الطبقات الدنيا ولم تكن تستطيع أن تفهم هذه الأشياء ولا أن تفكر فيها - وهو: «أن الشعب مصدر السلطات.» واستطاع روسو أن يقنع الشعب الفرنسي والطبقات الدنيا في فرنسا أن السلطة ليست إلى الملوك ولا إلى الأرستقراطية، وإنما هي ملك للشعب من حيث هو وحدة لا من حيث هو أفراد متعددة، وبأن الملك حين يستعمل سلطته وأن الوزارة حين تستعمل سلطتها، وبأن المجالس النيابية وهيئات الحكم والمحاكم إنما تستعمل هذه السلطة نيابة عن الشعب لأنها مأجورة له، وليس لعملها أي قيمة بغير السلطة التي يخولها الشعب للملوك أو لرؤساء الجمهوريات أو المجالس أو النواب والقضاة.
هذه الفكرة استطاع جان جاك أن يغلغلها - إن صح هذا التعبير - في نفس الطبقات الدنيا في فرنسا؛ في نفس العمال، وفي نفس الصناع، وفي نفس الزراع، وفي نفس الشعب الفرنسي كله، وأكثر الإعلان لحقوق الإنسان الذي قامت عليه الثورة الفرنسية إنما هو نتيجة مباشرة بل مستمدة بالحرف من كتب روسو، فالثورة الفرنسية السياسية أثر مباشر لجان جاك.
صفحه نامشخص