على أن مدام دي فرانس كانت تضيق به بعض الشيء، فترسله إلى مونبليه ليعالج نفسه من بعض العلة، فيذهب إليها ويعود إلى صاحبته قابلا للشركة دائما، ولكنه في الوقت نفسه ثقيل على الحبيبين وإن كان مقبولا في بعض الخلوات، ثم ينتهي الأمر إلى أن تستأجر أمه وعشيقته له بيتا في مدينة بعيدة بعض الشيء فتخلص لصاحبها، ويخلص جان جاك للقراءة والدرس، ولكن لقراءة لا نظام لها ولدرس لا اعتدال فيه؛ وإنما هي القراءة المطلقة، القراءة في الليل والنهار، القراءة في غير اختيار وفي غير ترتيب، والدرس في غير اختيار أو ترتيب أيضا، ثم في هذه المدة التي أقامها عاكفا على القراءة والدرس كانت تزوره أمه مدام دي فرانس من حين إلى حين.
وما هي إلا أوقات قصار حتى يضيق بهذه الحياة ويحاول أن يلتمس له حياة أخرى فيسافر إلى ليون ويتصل ببيت كبير هناك على أن يكون مربيا في هذا البيت، ولكنه في حياته الجديدة ليس خيرا منه في غيرها؛ فهو مرب ولكنه يسرق النبيذ ويحب صاحبة البيت ويسيء العناية بمن يجب عليه أن يربيهم ؛ ولا يطول مقامه في هذا البيت فيخرج منه ويعود إلى صاحبته، ثم تضطره الظروف إلى أن يرحل إلى باريس، وفي باريس تستحيل حياته إلى حياة جديدة هي التي ستخرجه من حياته الأولى من طور إلى طور وستغيره تغيرا تاما؛ فيه خير لا حد له؛ لأنه اتصل بالأدباء والعلماء والأرستقراطية، وفيه شر لا حد له؛ لأنه لقي عاملة أحبها واتخذها صديقة ثم رفيقة وتدعى تيريز ليفاسير.
ومن هذين الأمرين تألفت الحياة الجديدة لجان جاك، أما اتصاله بالعلماء والأرستقراطية فقد جعل منه رجلا عظيما، وأما اتصاله بهذه الفتاة العاملة فقد جعل منه رجلا شقيا، والغريب أنه استطاع أول الأمر أن يلائم بين هذين النوعين المتناقضين من الحياة؛ فكان بين الأدباء والأرستقراطية كأحسن ما يكون أرستقراطية، وكان مع العلماء كأحسن ما يكون الرجل العالم، كان أرستقراطيا مع الأرستقراطية وكان عالما مع العلماء، ولكنه نشأ نشأة وضيعة - إن صح هذا التعبير - ومع أنه تعلم تعلما شديد الاضطراب فكان إلى الجهل أقرب منه إلى العلم، ثم كان في الوقت نفسه محبا أشد الحب لصاحبته تيريز مع بعد ما بين تيريز العاملة الحقيرة الجاهلة التي هي أقرب إلى الغفلة وإلى الإمعان في الغفلة منها إلى أي شيء آخر؛ كان يلائم بين حياته مع هذه الفتاة العاملة الجاهلة وبين حياته مع الأرستقراطية ومجامع العلماء.
فإذا بلغنا بجان جاك سنة 1749 رأيناه معروفا في باريس كما يجب أن يكون الرجل معروفا في البيئات الراقية؛ يختلف إلى القصور كما تعود الأدباء والعلماء الممتازون، بل ارتفع أمره حتى أصبح عضوا في جماعة دائرة المعارف مع بعض كبار العلماء الفرنسيين الذين كانوا يهيئون دائرة المعارف في ذلك الوقت؛ فهو إذن قد أصبح أديبا ممتازا، ولسنا ندري كيف استطاع أن يصل إلى هذا المركز؛ لأن حياته لم تكن تؤهله لشيء من هذا، ومع ذلك فقد كان محبوبا وكانت النساء الأديبات والأرستقراطيات في باريس يحببنه ويتهالكن عليه تهالكا شديدا، وكان هو سعيدا بهذا مشغوفا به، ولكنه لم يلبث أن أحس مرارته وضاق بالحياة أشد الضيق؛ فقد عرف سيدة أرستقراطية هي مدام دي بنيه، أحبها فأحبته، واتخذت له بيتا قريبا من قصرها وأنزلته في هذا البيت، وكان بهذا البيت سعيدا مغتبطا، وكان يرى أنه ارتفع إلى الدرجة التي كان يتمناها، ولكنه لم يلبث أن أحس أن ارتفاعه هذا لم ينته به إلا إلى الرق؛ لأنه أحس أنه خاضع لسلطان هذه السيدة التي تؤثره وتنعم عليه، فهو مكلف أن يستجيب لهذه السيدة كلما دعته، وهي تدعوه دائما.
وذات يوم عزمت هذه السيدة أن تسافر إلى سويسرا فطلبت إلى جان جاك أن يرافقها في هذا السفر، فكره هذه المرافقة وضاق بها وتردد ثم امتنع، وفهم من ذلك الوقت أنه لا يستطيع أن يعيش في هذه الأرستقراطية إلا إذا نزل عن كرامته وحريته؛ لأنه ليس أرستقراطي المولد، وفهم أن الذين يريدون أن يعيشوا كالأرستقراطيين يجب أن يقبلوا الخضوع والذلة والرق.
ومنذ ذلك الوقت أخذ جان جاك روسو يشعر شعورا قويا جدا بالفرق بين هذه الطبقات، بين هذه الأرستقراطية الممتازة وبين هذه الطبقات الوسطى التي تظفر بالغنى والثروة ولكنها لا تستمتع بالحقوق كلها، ثم بين هذه الطبقات الدنيا طبقات الفقراء وطبقات الشعب التي لا تستمتع بحق ولا ثروة وإنما هي مضطرة إلى أن تعيش عيشة الذل والخضوع.
ومنذ ذلك الوقت أخذ جان جاك يشعر أنه ثائر متمرد على النظام الاجتماعي، وفي هذا الوقت أعلن المجمع العلمي في ديجون موضوعا للمسابقة هو: «هل هناك فائدة من ازدهار العلوم والفنون؟» هذا هو الموضوع الذي عرضه المجمع العلمي على الكتاب والأدباء، وأسرع روسو إلى هذا الموضوع فدرسه وفكر فيه وأجاب عنه وكان صريحا، ولكن إجابته كانت قنبلة ألقيت في باريس بل في فرنسا.
وكان هذا الجواب: لا، لا نفع ولا خير للإنسان من ازدهار العلوم والفنون، بل العلوم شر والفنون شر والفلسفة شر، وخير للإنسان أن يجهل العلوم والفنون وأن يعود إلى حياته الطبيعية الأولى.
وبعد أعوام بينما كانت الحياة الأدبية الفرنسية مضطربة أشد الاضطراب بهذا الرأي، وبينما كان العلماء والأدباء يجادلون في هذا الرأي، وروسو يقاوم أولئك وهؤلاء؛ أعلن المجمع موضوعا عرضه للمسابقة بين العلماء والأدباء وهو «مصدر التفاوت بين الناس»، فأقبل روسو على هذا الموضوع ودرسه وأجاب عليه، وقال إن مصدر التفاوت بين الناس هو الحضارة وأن الحضارة شر كلها، والخير أن يرفض الإنسان الحضارة ويعود إلى حياته الطبيعية الأولى، فكان جوابه الثاني كجوابه الأول مصدرا لثورة علمية واضطراب عظيم.
وبهذين الكتابين ظهر الخلاف عنيفا جدا بين جان جاك وبين العلماء والأدباء الذين كان يشتغل معهم في إعداد دائرة المعارف؛ فهؤلاء أنصار رقي العلم ورقي الفن ورقي الأدب وأنصار النظام والاجتماع بوجه عام، وهذا الذي أخذ ينكر فائدة العلم وقيمة الفن وينكر النظام ويريد أن يعود بالإنسان إلى حياته الأولى، هذا الرجل لا يستطيع أن يتعاون مع أصحاب دائرة المعارف.
صفحه نامشخص