ليس من شك أن فولتير أساء إلى رجال الدين وإلى الدين المسيحي، بل إلى الأديان كلها، فهو كان عدوا للديانات، وكان يعلل ذلك أولا بأن الديانات مخالفة للإنسانية؛ لأنها سببت الاضطهاد وسفك الدماء ، وثانيا بأن الديانات مخالفة للعقل؛ لأن فيها أسرارا لا يستطيع العقل أن يفهمها، وثالثا بأن الديانات عنده ديمقراطية وهي من خصائص الطبقات المنحطة لا تتصل بالطبقات العليا، ففولتير لم يكن ديمقراطيا بحال من الأحوال، هذه الأسباب الثلاثة هي التي بغضت إليه الديانات، ولكنه اندفع في بغض الديانات إلى سخف كثير لا حد له؛ فقد هاجم التوراة والكتب المقدسة كلها.
من أجل هذا كان فولتير بغيضا بل ما زال بغيضا - كما قلت لكم - إلى رجال الدين بل إلى كل مؤمن، وتظهر آثار هذا البغض حتى في هذه الأيام؛ فالذين يؤمنون ويحبون دينهم يبغضون فولتير بغضا شديدا حتى في نقدهم له؛ فالنقاد من المسيحيين يتنكرون له حتى يفسد هذا البغض كل شيء في نقدهم، ويكفي أن تقرءوا ما كتبه «إميل فاجيه» عن فولتير وما كتبه «بول سوديه» فسترون التناقض الشديد بينهما؛ أحدهما مسيحي مؤمن شديد الإيمان فهو مبغض لفولتير، وبغضه يدفعه إلى أن يتعصب على فولتير فيفسد عليه إنصافه، فإذا قرأتم رأيا لفاجيه فسترون أن فولتير عنده رجل لا حظ له من فلسفة ولا شيء إلا أنه كان رجلا أحسن كتابة الرسائل حتى نبغ فيها، ومع ذلك فرسائله ليست شيئا بالقياس إلى رسائل غيره، فإذا تركتم هذا الرجل وقرأتم «بول سوديه» الذي لم يكن مؤمنا وإنما كان حر الرأي - كما يقولون في فرنسا - فستجدونه يغلو في حب فولتير وإكباره حتى يرفعه إلى الألوهية الأدبية، وكذلك يختلف الناس في فولتير؛ يحبه قوم كثيرون فيسرفون في حبه، ويبغضه قوم كثيرون فيسرفون في بغضه.
ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن فولتير كان لسان حرية الرأي والمجاهد في سبيلها، وأصدق ترجمان لأماني الشعب الفرنسي بل الشعوب الأوروبية في القرن الثامن عشر، وهو من أهم بل من أكبر الذين وضعوا أسس الثورة الفرنسية، وحسبه ذلك فخرا.
روسو
سيداتي، ساداتي
الرجل الذي أريد أن أحدثكم عنه الليلة رجل غير عادي؛ لذلك أرجو أن تستمعوا للحديث عنه بعناية خاصة؛ فهو ليس كغيره من عظماء الرجال يمتاز بنبوغه وتفوقه وبراعته فحسب، وإنما يمتاز بشيء آخر، يمتاز بأنه كان مريضا، وكان يائسا، وكان سيئ الحظ، وكان مجنونا أيضا، فالذين يريدون أن يدرسوا جان جاك روسو، والذين يريدون أن يتحدثوا عنه في حاجة إلى أن يتهيئوا لهذا الدرس وهذا الحديث بشيء من العطف والرحمة وبكثير جدا من الإشفاق؛ فقد كان ذلك الرجل العظيم حقا أشد الناس إثارة للعطف والإشفاق، وإن كان في حياته قد أثار البغض والمقت أكثر مما أثار أي شيء آخر.
جان جاك روسو فرنسي الأصل، سويسري المنشأ، أسرته فرنسية هاجرت من فرنسا في القرن السادس عشر إلى سويسرا، ولم تلبث أن كسبت بمدينة جنيف الحقوق الوطنية فأصبحت سويسرية.
ولد جان جاك روسو في أوائل القرن الثامن عشر في 28 يونيو سنة 1712، وكان أبوه رجلا غريبا، مسرفا في العبث والمجون، يصنع الساعات، ويعلم الرقص ويسرف في اللهو، وعندما ولد جان جاك قضي على حياة أمه فماتت أثناء ولادته، ثم سافر أبوه هاربا من جنيف وترك ابنه من غير عائل فنشأ نشأة مهملة شديدة الإهمال، ليس له من يعنى به إلا أقاربه والمتصلون بأسرته، وكان أظهر شيء في حياة روسو الأولى هذا الإهمال، ومن هذا الإهمال نشأت الصفات الأولى لروسو؛ فقد أخذ يقرأ كل ما يستطيع أن يقرأ سواء في ذلك الجيد والرديء، ولم تكن هناك مراقبة ما على حياته تضطره إلى أن يستقر في بيته أو في بيت من أوى إليه، فقد كان يخرج إذا أتيح له الخروج، ويطوف في الشوارع، ويطوف خارج المدينة، ودفع بعد أن تقدمت به السن إلى مكاتب بعض الموثقين فلم يصنع شيئا، وقال رئيسه أو معلمه إنه لن يكون إلا حمارا، وفي سن السادسة عشرة من عمره كان أظهر ما يمتاز به من الصفات حب الهيام في الشوارع والطرق، وخرج ذات يوم خارج المدينة يتروض فطال غيابه، فلما أن عاد وجد أبواب المدينة مغلقة، فقرر ألا يدخل المدينة أبدا؛ فسار في طريقه حتى فارق سويسرا ودخل الحدود الفرنسية.
ومن ذلك الوقت بدأت حياة جان جاك التي تمتاز بالهيام والاضطراب في غير نظام؛ لقي قسيسا عني به ثم قدمه إلى امرأة كانت تقيم في أنسي، وكانت هذه المرأة كاثوليكية غريبة الأطوار، سيئة السيرة، كثيرة الكيد، وكانت تشتغل بالجاسوسية، وكانت جميلة مؤثرة الجمال تتصيد الشبان لتؤثر فيهم ولتخرجهم من البروتستانتية إلى المذهب الكاثوليكي. عنيت هذه المرأة بالشاب وأرسلته إلى تورينو في إيطاليا، وهناك دفع إلى جماعة من الرهبان، أخذوا يؤثرون فيه حتى أخرجوه من دينه وحملوه على اعتناق الكاثوليكية، ولكن جان جاك مع ذلك كان كارها لحياة الرهبان، ولكنه طاوعهم واعتنق الدين الجديد، ولما تم اعتناقه للدين الجديد أخرج من الدير، ودفع إليه مقدار ضئيل جدا من المال، فأقام في بعض الغرف التي استأجرها وأخذ يلهو حتى استنفد ما كان معه من المال الضئيل، ثم احتاج إلى أن يكسب فقدم نفسه إلى بعض القصور على أن يكون خادما، وأقام في هذا القصر وقتا ما، ولكن لم يطل فيه المقام؛ لأنه سرق ولم يكتف بالسرقة بل اتهم خادمة بأنها هي التي سرقت، فأخرج وأخرجت معه الخادمة، وهام على وجهه مرة أخرى وعاد إلى صاحبته مدام دي فرانس وأقام عندها، وجدت هذه لكي تجد له عملا، ولكنه كان كلا على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير، ومن العسير جدا أن نتبع جان جاك في حياته هذه المضطربة؛ فقد كان كثير التنقل والارتحال، كثير الاضطراب في حياته وفي سيرته وفي كل شيء، ولكن منزل مدام دي فرانس كان هو المأوى الذي يأوي إليه من حين إلى حين.
والذي أستطيع أن أوجزه لكم هو أن حياته مع مدام دي فرانس كانت شديدة الأثر جدا في سيرته كلها؛ فقد عطفت عليه المرأة في أول الأمر عطف السيد الذي يحمي ذلك الفتى الضعيف، ثم لم يكد هذا الفتى يبلغ العشرين حتى استحالت الصلة بينه وبين هذه المرأة إلى شيء هو العشق، والغريب أنه كان يدعوها أمه وكانت تدعوه ابنها الصغير، وليس هذا كل ما انتهت إليه حياته مع مدام دي فرانس فما هي إلا أوقات قصار حتى يظهر لجان جاك أنه لا يستأثر وحده بحب أمه هذه، وأن له شريكا في هذا الحب وأن هذا الشريك بستاني، وهو مضطرب في هذا الحب الغريب تثور نفسه على هذه الشركة ولكن الحاجة تدفعه إلى قبولها، وينتهي به الأمر إلى أن يخضع، ثم تخلصه الأقدار من شريكه هذا؛ لأنه يموت مسموما، ويخلو له قلب أمه، ويخلص له حبها ولكنه سيئ الحظ فما أسرع ما ترسل إليه الأقدار شريكا آخر! وما أسرع ما يرى نفسه مضطرا إلى أن يقهر عواطفه الطبيعية، وإلى أن يخضع مرة ثانية لمثل الشركة الآثمة التي خضع لها في المرة الأولى!
صفحه نامشخص