كانوا ينكرون سلطان قيصر ويأبون أن يعبدوا قيصر كما كان يعبده غيرهم، وكانت عبادة قيصر جزءا من الدين الرسمي والنظام السياسي، والغريب أن اضطهاد قياصرة الرومان للضمير المسيحي، وما سفكوا من دماء المسيحيين كان بالضبط كاضطهاد الأثينيين لسقراط؛ فهذه الدماء المسيحية التي سفكت في سبيل الاحتفاظ بالرأي وحرية الضمير قد روت الأرض وملأتها بناس يقدسون الشهداء ويسرعون إلى المسيحية.
والشر كل الشر أيها السادة يأتي من أن الإنسان يطغى، ويكاد يكون طغيانه جزءا من طبيعته، فهذه المسيحية التي جاهدت في سبيل حرية الضمير والتي لقيت ألوان العنف والظلم من قياصرة الروم، والتي سفكت دماء مئات الآلاف من أبنائها في سبيل الحرية، هذه المسيحية لم تكد تصبح دينا رسميا حتى تأثرت أو اعتنقت نفس المبادئ التي كانت تحارب بها، وفرضت على خصومها بعد أن ضعفوا ما كان يفرضه عليها خصومها حين كانوا أقوياء؛ فإن المسيحية الرسمية قد اضطهدت الوثنيين وقتلتهم وعذبتهم، ثم مضى الأمر على هذا النحو حتى أصبحت مصادرة الرأي ومحاربة حرية الضمير شيئا يوشك أن يكون رسميا في بلاد الروم في أواخر العصور القديمة وأوائل العصور الوسطى، وحتى وجد من آباء الكنيسة من كان يقول إن من أظهر خلافا للدين الرسمي يجب أن يقتل، ولست في حاجة إلى التحدث عن الفظائع التي اقترفتها الملوك والسلطات لمصادرة الرأي ومقاومة الضمير الحر أثناء القرون الوسطى؛ كلكم يذكر من ذلك الشيء الكثير، وكلكم يشفق على الإنسانية من آثار هذا كله، ثم كلكم يعلم أن نتيجة هذه المقاومة المتصلة كانت انتصارا للرأي، وكان ظهور المذهب الجديد، مذهب الإصلاح، نتيجة لمقاومة حرية الرأي، وكان انتصار مذهب البروتستانت في أوروبا هو انتصار مذهب حرية الرأي والضمير، على أن نفس مذهب البروتستانتية قد لقي مقاومات عنيفة، ولكن هذه المقاومات التي لقيها في بلد كفرنسا انتهت إلى هذه النتيجة الباهرة التي قد نتحدث عنها في محاضرة أخرى، وهي وجود طائفة من فلاسفة فرنسا يعلون حرية الرأي، ويتخذون التسامح مبدأ سياسيا، ويرون أن التسامح يجب أن يكون القاعدة العليا، والقاعدة الأولى والأخيرة لكل سياسة رسمية يكون عليها الحكم في بلد مثقف يحترم نفسه؛ فلولا هذه المقاومات الفظيعة لما وجد فولتير وروسو، ولما أعلنت حقوق الإنسان في أمريكا وفي فرنسا التي ما زلنا نعيش في ظلها إلى اليوم.
أظنكم تلاحظون أني عندما عرضت لكم تاريخ حرية الرأي قد سلكت طريقي في الغرب منذ بدأتها إلى أن انتهيت ولم أذكر الشرق، وهذا صحيح وسببه واضح، وهو أن الشرق القديم، الشرق الذي كان يسبق العصر اليوناني، هذا الشرق لا نستطيع أن نجد فيه ظلا لمسألة الرأي وحريته، لا نكاد نجد شيئا من هذا في تاريخ الشرق القديم، إنما وجدت الخصومات حول الرأي في الشرق عندما يتصل الشرق باليونان أيام الإسكندر.
أما الشرق الآخر، الشرق الذي يبتدئ من نحو القرن السادس للمسيح والذي نعيش الآن في ظله، الشرق الذي تأثر بالأمة العربية، الشرق الذي تأثر بالعرب والدين العربي، الشرق الذي تأثر بالإسلام، هذا الشرق الإسلامي أيها السادة ربما كان من أسعد أقطار الأرض من هذه الناحية، وأحق أقطار الأرض بالإجلال؛ ذلك أنه لم يعرف منذ وجود الإسلام مصادرة حقيقية، خليقة بهذا الاسم، تقوم على الحرب المنظمة لحرية الرأي، إنما قام الإسلام على حرية الرأي معليا لها حريصا عليها، وأظن أن كل مفكر حر منصف صادق في البحث والتاريخ لا يستطيع بحال من الأحوال أن يسجل على الإسلام، ولا على الذين أخلصوا له أنهم صادروا الرأي أو قاوموا حرية الرأي بنوع من الأنواع.
من المحقق أيها السادة أن نظاما كالنظام الإسلامي نجد في تاريخه الأول هذه الجملة الخالدة التي تصور الحرص على حرية الرأي، والفناء مع حرية الرأي، وإيثار حرية الرأي على الحياة، هذا النظام ظاهر في هذه الجملة الخالدة التي قالها النبي
صلى الله عليه وسلم
لعمه: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت.»
هذا النظام الذي نجد في تاريخه هذه الجملة الخالدة والذي نجد في كتابه المقدس:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ؛ لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون في وقت من الأوقات خصما لحرية الرأي، وكل من خاصم حرية الرأي فهو عدو للإسلام.
ومع ذلك أيها السادة، فإن برئ الإسلام من العداوة لحرية الرأي، وبرئ من كل خصومة لحرية الرأي، وإذا كان الإسلام هو الدين الذي يجعل حرية الرأي أصلا رسميا؛ فإن بين المسلمين من يجهرون بمحاربة حرية الرأي، ومن يتخذون الإسلام وسيلة لمحاربة الإسلام.
صفحه نامشخص