تحدثوا إلى شيخ طاعن في السن عرف هذه الدنيا منذ ستين سنة وعرفها اليوم، وقولوا له أن يحدثكم كيف كان أجدادنا يعالجون المسائل الصحية التي أدركها اليوم صغار أطفالنا، وكيف كانوا يطبخون طعامهم ويجلسون إلى موائدهم، ويفرشون بيوتهم ومخازنهم، ويلبسون ثيابهم ويرتبون هندامهم، وماذا كانت كسوة الأوانس والعقائل وأزياؤهن الغليظة؟ ليقولوا لكم كيف كانوا يسمرون ويتنادرون ويمرحون، وما هي ملاهيهم ومقاهيهم وحاناتهم وخاناتهم وفنادقهم ومراكبهم؟ وأي الحريات المدنية والدينية والسياسية كانوا بها ينعمون، وماذا كان لهم من الأمان على الأموال والأنفس والأعراض، وأي المعلومات كانت لهم عن العالم وأحواله، وعن الشعوب والأمم، وعن العامر والغامر، وعن الحقائق والخيالات؟ وكيف كانوا يقطعون أوقاتهم ويتمززون حياتهم، ويستلذون عيشهم؟ وكيف كان من يرأس من الناس يظلم كل من وقع بيده ويجد في الحكام معوانا له على ظلمه؟ بل كيف كان الخلق يتظالمون على الدوام وليس لهم رادع من قانون ولا عقوبة تكف عاديتهم وتعاديهم؟
ليقل لكم الشيوخ كيف كانت الأمية غالبة على الكبير والصغير؟ وكيف كان الأطفال يربون في أماكن مظلمة منتنة لا شمس فيها ولا هواء، يسمونها الكتاتيب والمدارس، ثم هم يضربون بالعصي على رءوسهم ووجوههم وظهورهم وأرجلهم بدون شفقة، وبذلك يتعلمون للخلاص من هذا العذاب الاحتيال والحلف الكاذب، ثم عودوا فألقوا بعد ذلك نظرة على مدارسنا لتروا كيف أصبح الولد بتنظيم التعليم بنظام الغربيين اليوم، يعرف من المواد ما لا يكاد يعرفه العالم أمس، تشهدون كيف اختصرت مراحل التعليم والتهذيب، حتى لنرى في شبابنا اليوم من هم مفخرة بمعارفهم ما رأى أجدادنا أمثالهم في بضعة عصور وأجيال، ولعمري متى كنا نسمع بمثل هذه المعلومات تجتمع لفتى في الخامسة عشرة من عمره، ومتى شاهدنا الأولاد يربون في رياض الأطفال هذه التربية العملية الصحية النافعة، ومتى كان ربات الحجال ينافسن في التعليم الرجال؟
هل عهدتم اللغة العربية تقرأ وتكتب بهذه السلاسة والرشاقة، إلا إذا كان في القرن الثالث والرابع، متى عهدكم بلغتكم يكون لها في التمثيل الذي اقتبسناه عن الغرب في الجملة، تلك الروعة في الإلقاء حتى لتظنن أنفسكم وأنتم في إحدى قاعات التمثيل أنكم رجعتم إلى عصر الرشيد والمأمون ، تأملوا عدد ما حيي من الفصح العربية التي ما كان يعرفها حتى الأدباء، وأصبحت بفضل المدارس والصحف السيارة أو دور التمثيل وبيوت الغناء وأسطوانات الحاكي وإذاعات الراديو في ألسن الناس وعلى أسلات أقلامهم ومكتوباتهم، كأنها من المتعارف. لنحكم ولننصف في أحكامنا؛ متى كنا نتخيل ظهور مثل هؤلاء الرجال الذين تسمعون بهم وتقرءون أعمالهم في كتبهم ورسائلهم ومصوراتهم ولوحاتهم وخطبهم، متى عهدتم هذا العدد الدثر من رجال القانون والإدارة والجندية والطب والهندسة والزراعة والكيمياء والطبيعة والفلك والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والشعر والكتابة والأدب والتصوير والموسيقى والنحت والنقش، ومنهم من لا يقل عن أرقى الطبقات أمثالهم في الغربيين، ولا يفرقون عن النابهين من الرجال عند الأمم الممدنة، إلا بفروق مرجعها إلى المحيط، وإذا شهدتم في بعضهم فتورا في هممهم فثقوا بأن فتورهم ينقلب نشاطا إذا رأوا من أمتهم تنشيطا.
للغرب على الشرق العربي فضل عظيم في إحياء مدنيته ولغته أيضا؛ أنشأ منذ القرن الرابع عشر للميلاد مدارس لتعليم العربية في بلاده، وكلما كان بعض أبنائه يتلقفونها، كانوا يفكرون في اقتناء كتب العرب، ويتنافسون في ذلك تنافسهم في الاحتفاظ بالآثار التي هي محصول القرائح العربية، ولما اخترعت الطباعة كانت المخطوطات العربية أول ما طبع في بلاد الغرب، وأول مطبعة أنشئت في مدينة فانو في جون البنادقة (بحر الأدرياتيك) سنة 1514 طبع فيها القرآن وكتب الطب والحكمة والطبيعة باللغة العربية، وفي مدينة البندقية طبع الإيطاليون تآليف يوحنا بن ماسويه في الطب والفلسفة، ومثلوا بالطبع قانون ابن سينا مع كتاب النجاة في رومية وذلك سنة 1593، ومنذ سنة 1615 بدأ الهولنديون في مدينة ليدن بطبع كتب العرب، وما زالوا إلى اليوم يطبعون من أمهاتها كل مفيد، وقد أنشأت فرنسا وإنجلترا وألمانيا والنمسا وإسبانيا وروسيا وأمريكا وغيرها من الممالك الغربية مطابع مهمة طبعت فيها عشرات من كتب العرب النفيسة، ودلوا قومهم وغير قومهم على فضل العرب، ونوهوا بحضارتهم ونبوغ أفرادهم؛ كانوا يأتون ذلك والعرب يغطون في سباتهم غطيطا غريبا، تحت ظل خلفاء العثمانيين ودولتهم المباركة، وبينا كانت العربية آخذة بالانقراض في مصر والشام والعراق، دع سائر الأقطار العربية الأخرى، كانت أوروبا لا تخلو جامعة من جامعاتها منذ القرن السادس عشر من دروس عربية ولا سيما جامعات ألمانيا وإنجلترا وهولاندا ثم فرنسا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا وبولونيا وسويسرا والسويد والنروج وفنلندا وروسيا والولايات المتحدة.
ولقد جمع الإفرنج في كل دولة صغيرة كانت أم كبيرة خزائن عامة أو خاصة من نفائس الكتب العربية المخطوطة ما هو العجب العجاب، عنوا بها أشد عناية ورتبوها ونشروا فهارسها ونشروا منها بالطبع جزءا من كتبنا الدينية والفلسفية والتاريخية والجغرافية والعلمية والأدبية واللغوية وغيرها مما لا يقل عن خمسمائة مجلد، ونحن لم نعرف بعد الطبع بالحرف، مجتزئين بطبع الحجر السقيم. وفي الأستانة ومصر من المخطوطات العربية وفي خزائن الكتب العمومية والخصوصية ما لا يقل بعدده عما عند أهل أوروبا منها، ولم نطبع منها غير أسفار قليلة ومنها التافه الذي قصدوا به التجارة لا خدمة العلم كما فعل علماء المشرقيات من الغربيين، وجاء القرن التاسع عشر وما مثل بالطبع منها غير بضعة كتب نافعة، فبفضل الغرب عرفنا الطبع وعرفنا فضل أجدادنا وتعرفنا إلى الطرق في إحياء كتبنا، ولكن طالت مدة تعليمنا أكثر من مائتي سنة، حتى خجلنا من أنفسنا، فجاريناهم بعض المجاراة، ولما نلحق بهم بعد في تدقيقهم وتحقيقهم.
فللغرب الفضل الأول بإحياء حضارتنا وتعريفنا بمزايا لها كنا عنها في غفلة؛ فهم لقنونا طرق الاستفادة مما أملته قرائح الأسلاف، وأبقته الأيام من تراثهم الثمين، على نحو ما كان لهم الفضل الأكبر في البحث عن دفائن بلادنا ونبش عادياتها ومصانعها القديمة، وبهم اهتدينا إلى معرفة آثار أرضنا وتاريخها وعظمتها السالفة ولغات بلادنا القديمة، فعلمونا كيف نحتفظ بآثارنا الثابتة والمنقولة، ودربونا على العناية بتركة أجدادنا واحترامها وتقديسها والولوع بها، وكنا فيها من الزاهدين.
نحن إذا قلنا إن الغربيين أحيوا لغتنا لا نكون إلى المبالغة في شيء؛ هم نشروا أمهات كتبنا، فانتبه علماء العرب وأخذوا يدرسون فيها، وكلما درسوا ودرسوا وأحكموا من اللغة فصيحها في أمهات كتب الأدب مما سبق الغرب إلى طبعه ارتقت ملكات الكاتبين والمؤلفين والمدرسين عندنا، وكلما انتظمت أصول التعليم في المدارس، زاد أسلوب العربية ارتقاء، وكلما ثقف أبناء العرب لغات العالم الحديث نسجوا في لغتهم على أساليبها في الأدب والشعر والتمثيل والخطابة، ولولا الغرب ما نبغ فينا شعراء وكتاب وخطباء في العصر الأخير لم يعهد لهم نظير في لغتنا منذ المائة الخامسة، وقد كاد كتاب مصر والشام والعراق وتونس وشعراؤها وخطباؤها يرجعون إلى العربية نضرتها القديمة، وبرزوا بها في أجمل حلة عربية، وما تم هذا بغير مدارس الغرب وفضل رجالهم ممن أخذنا عنهم واقتدينا بهم، وساقتنا الغيرة إلى الجري على طرائقهم في النظم والنثر والتأليف والوضع والبحث، وكلما مازجناهم في رحلاتنا إلى بلادهم ومازجونا في نزول بلادنا عرفوا منا، والبعد جفاء، ما كانوا يجهلونه، وعرفنا منهم ما كنا نجهله من غيرتهم على العلم والمدنية. •••
أخذ الغربيون عن العرب كل ما نفعهم يوم نهضتهم من ضروب المعارف البشرية، وها هم اليوم يعيدون إلينا عن سماحة نفس شيئا مما تعلموه من أجدادنا وزادوه بعلمهم وبارتقاء الزمن وتداول الأيام فلا يشقن ذلك علينا، فهذه سنة المدنيات التي درجت عليها أجناس البشر. تقلبت على المدنية أيد كثيرة منذ دون تاريخها، واليوم وصلت بفضل أهل الغرب إلى هذا المظهر الباهر، وغدوا سدنتها القائمين على بثها في المشرق والمغرب يعنون بوضع أسها في الكنغو والسودان والسنيغال وجاوه، كما وضعت في البلجيك وإنجلترا وفرنسا وهولاندا. وللغربيين السلطان الأكبر على النفوس وعلى السياسة والتجارة والعلم، وسنظل متوفرين على الأخذ عنهم، ولا غضاضة على المتأخر إذا أخذ عن المتقدم.
ولا يفوتنا النظر وقد بلغ بنا نفس الكلام إلى هذا الحد، أن نعرض لما حوته المدنية الغربية من المساوئ بعد أن ألممنا بما حملت من عظيم المحاسن؛ ولكل مدنية سيئات تندمج في مطاوي الحسنات، وصعب أن يكون الخير تاما والشر تاما، وكان علينا أن نقتصر على اقتباس النافع ونتحامى الضار، ونجعل السلطان للعقل لا لهوى النفس، والظاهر أن المدنية وحدة لا تتجزأ من أخذ بخيرها لا بد أن يستهدف لشرورها طوعا أو كرها، وما هذه السيئات بالذي أقره عقلاء الغرب دعاة الحضارة الحديثة، ونحن نعلم أنهم يشكون منها شكايتنا وزيادة.
هجمت علينا المدنية الغربية بأصناف من المسكرات والمخدرات كان أجدادنا لا يعرفونها، وعاشوا بدونها قرونا في هناء وراحة، وكان يقتصر من يعاقرون الراح سرا، وهم قلائل جدا، على ما تنتج البلاد من خمور، وضررها على الجملة أخف من مضار الغول الجديدة، وهكذا في عامة المخدرات كالمورفين والكوكايين والهيروين التي جاءت مع القرن الماضي فأضعفت العقول وقتلت الأنفس، وفتح التوسع في الحرية أبواب العهر والفجور والإسراف على النفس، فأنشأ الفحش يمارس تحت سمع القانون وبصره؛ فزادت بذلك الأمراض الزهرية، وتعطل التناسل في بعض الرجال والنساء، ثم انتشر القمار على اختلاف صوره، ومنه المضاربات وألعاب النصيب، وكان الناس في غابر الدهر يقنعون بالرزق المحلل، يأتيهم من أعمالهم الصناعية والزراعية والتجارية، لا يغامرون هذه المغامرات التي يردها العقل والشرائع.
صفحه نامشخص