لست أدري، وربما لا يدري أحد، أنه في لحظات معينة يتحول أكمل اعتراف وأعمقه إلى مجرد سرد للوقائع، ليست فيه إجابة عن هذا السؤال. وكل من فكر في نفسه أو في غيره جديا يعلم أن بعض القرارات تصدر عن دافع شديد الخفاء، وأن بعض الاتجاهات غامضة لا يمكن تفسيرها.
ففي لحظة من لحظات عصياني امتزج الحب بالكراهية. والوقائع التي تسوغ شعوري بالمهانة، والدوافع الخلقية التي بعثت في هذا الشعور، هذه وتلك كانت تصدر مباشرة عن الإقليم الذي ولدت فيه. ولعل هذا يفسر كذلك لماذا كان كل ما كتبت حتى اليوم، وربما ما سوف أكتبه في المستقبل، برغم رحيلي إلى الخارج وإقامتي به، يتعلق كله بهذا الإقليم عينه، أو على وجه أدق، بذلك الجزء منه الذي تقع عليه العين من البيت الذي ولدت فيه، وهو لا يزيد على ثلاثين أو أربعين كيلومترا عن يمين وعن شمال. وهو إقليم كغيره من أقاليم أبرزي، تافه من حيث تاريخه الدنيوي، ويكاد يكون كله مسيحيا وينتمي إلى العصر الوسيط في تكوينه، والمباني الوحيدة التي تستحق الذكر أديرة وكنائس، وأبناؤه اللامعون كانوا لعدة قرون قديسين ونحاتين للصخور. وظروف الحياة الإنسانية به كانت دائما شاقة بوجه خاص. وأهل الإقليم يتقبلون الألم دائما باعتباره أول قوانين الطبيعة، كما يلقى الصليب ترحيبا وتكريما من أجل ذلك. ومذهب الفرنسسكان والفوضى كانا دائما طريقين من طرق العصيان التي يمكن للنفوس الحية في ذلك الجزء من العالم أن تسلكها. ولم يستطع رماد الشك أن يخنق، في قلوب أولئك الذين كانوا أشد من غيرهم عناء، الأمل القديم في إقامة مملكة السماء على الأرض، والأمنية القديمة في أن تحل الرحمة محل القانون، والحلم القديم الذي دار في رأس جيوا كشينو دافيور و«الطائفة الروحانية» و«أتباع السماء».
1
وهذه حقيقة لها أهمية أساسية كبرى؛ فهي في إقليم قاحل مجهد متعب لا رجاء فيه كإقليمنا، كنز حقيقي، وثروة لا تحد. غير أن رجال السياسة لا يدركون وجودها، ورجال الدين يخشونها، وربما لا يدري من أين مأتاها إلا القديسون. وأما ما كان بالنسبة إلينا دائما أشد عسرا، إن لم يكن مستحيلا، فهو أن نتلمس الطرق والوسائل التي تؤدي إلى ثورة سياسية، لكي نخلق مجتمعا حرا منظما.
ولقد ظننت أني وصلت إلى هذا الاكتشاف عندما انتقلت إلى المدينة وبدأت أول اتصالي بحركة العمال. وكان ذلك بالنسبة إلي نوعا من أنواع الصعود إلى السماء، والإنقاذ من عزلة لا تحتمل، والوقوف على أرض ثابتة، وكأنه اكتشاف قارة جديدة. ⋆
ولما بلغت هذه المرحلة أدركت الضرورة الملحة لفهم تطورات العمل الذي شغلت به، والتحقق منه، ومقارنته بالدوافع التي ساقتني أصلا إليه، واستولت علي هذه الفكرة تماما، وسلبتني كل هدوء نفسي. وإذا كان لعملي الأدبي الضئيل أي معنى، أو حللته إلى أعماقه، فهو هذا: لقد حان الوقت الذي بات معنى الكتابة فيه عندي ضرورة مطلقة لا مناص منها، وحاجة قصوى إلى تحرير نفسي من فكرة استولت على كل قلبي، وإلى تبيان معنى هذا الموقف الأليم الحاسم الذي كنت أقفه، وتعيين حدوده وحدود ذلك الولاء الأعمق الذي كنت لا أزال أحس به. لم تكن الكتابة بالنسبة إلي قط، ولن تكون، إذا استثنينا لحظات موفقة من النشوة الروحية، متعة جمالية هادئة. إنما كانت استمرارا للنضال أقوم به في ألم وعزلة. أما عن الصعوبات وأوجه النقص في التعبير الذاتي التي كنت أكابدها أحيانا فلم تنشأ عن قصور في التزام قواعد الكتابة الجيدة، وإنما نشأت عن ضمير كان يصر في عناد على احترام نزاهته، وهو يناضل في سبيل علاج بعض الجراح الخفية، والتي ربما كانت تستعصي على الشفاء؛ إذ ليس هناك من شك في أن الإخلاص وحده لا يكفي، إذا أراد المرء أن يكون صادقا. ⋆
ولم يكن التحاقي بحزب الثورة العمالية يعني مجرد توقيعي مع أفراد منظمة سياسية، إنما كان معناه التحول من عقيدة إلى أخرى، والإخلاص التام للعقيدة الجديدة؛ ففي تلك الأيام كان معنى اعتناق الاشتراكية أو الشيوعية علنا أن يلقي المرء بنفسه في مهب الريح، وأن ينفصل عن أبويه، ويتشرد بغير عمل. وإذا كانت النتائج المادية لهذا التحول شديدة قاسية، فإن صعوبات الانتقال الفكري من محيط إلى آخر لم تكن أقل إيلاما. ولقد اهتز من أساسه عالمي الخاص الداخلي، عالم «العصور الوسطى» الذي ورثته واستقر في أعماق نفسي، والذي أخذت عنه - لو رجعت إلى الأصول الأولى - اتجاهي الأول نحو الثورة، اهتز من أساسه كأنه تعرض لزلزال عنيف، وانصهر كل شيء، وأصبح كل أمر مشكلة: الحياة، والموت، والحب، والخير، والشر، والحق؛ كل ذلك تغير معناه أو فقد كل معنى سابق له. من اليسير أن يجابه المرء الخطر حينما لا يكون وحيدا، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يصف اليأس الذي يستولي على القلب حينما يتخلى المرء إلى غير رجعة عن إيمانه بخلود الروح؟ كان الأمر بالنسبة إلي أكثر جدية من أن أناقشه مع أي إنسان آخر. ولربما رأى زملائي في الحزب أن المسألة لا تستحق إلا السخرية، ولم يعد لي بعد هؤلاء الزملاء صديق؛ ومن ثم تلونت الدنيا في عيني بلون آخر، وسرت وحيدا بغير رفيق. ما أشد حاجة أمثالي إلى الإشفاق!
إن ظروف الحياة التي فرضها على الشيوعيين الغزو الفاشستي للدولة كانت شاقة عسيرة، ولكنها إلى جانب ذلك ساعدت على تأييد بعض النظريات السياسية الشيوعية، كما هيأت الفرصة لإيجاد نوع من أنواع التنظيم يتفق إلى حد كبير مع العقلية الشيوعية؛ ومن ثم فقد تحتم علي أنا كذلك أن أهيئ نفسي لعدة سنوات لأن أعيش غريبا في بلادي، فكان علي أن أغير اسمي، وأن أتخلى عن كل صلة لي سابقة مع أسرتي أو أصدقائي، وأن أحيا حياة زائفة لكي أبعد عن نفسي كل شك في اشتراكي في حركة انقلابية؛ فأمسى الحزب هو الأسرة، وهو المدرسة والكنيسة والثكنات، وكل ما يقع بعيدا عن الحزب لا بد من تدميره وإعادة بنائه من جديد. وما أشبه هذه الحالة النفسية التي يمسي خلالها كل مجاهد بمفرده تدريجا صورة مكررة من نظام جماعي، بتلك الحالة النفسية التي كانت شائعة في بعض النظم الدينية والكليات العسكرية، مع تطابق في النتائج يكاد يكون تاما؛ فكانت كل تضحية تقابل بالترحاب باعتبارها مساهمة شخصية في «دفع ثمن الخلاص الجماعي». ويجب أن نؤكد أن الروابط التي كانت تصل بيننا وبين الحزب كان تشتد وثوقا، لا أقول برغم المخاطر والتضحيات التي كانت تحيط بنا، ولكن بسبب هذه المخاطر والتضحيات عينها. ويفسر لنا ذلك جاذبية الشيوعية لبعض طوائف الشباب من الرجال والنساء، وللطبقة المثقفة، وللأفراد الذين يتصفون بشدة الحساسية وسماحة النفس ممن يعانون كثيرا من عبث المجتمع البرجوازي. ⋆ (1-3) الاستبداد الشيوعي
لم يكن عجيبا أن أخرج من الأزمات الداخلية الأولى التي هزت أركان الشيوعية الدولية بشيء كثير من الشك في الشيوعية ذاتها. وقد نشأت هذه الأزمات من أن الأحزاب الأساسية التي تمسكت بالشيوعية الدولية الجديدة كانت أبعد ما تكون عن التجانس، حتى بعد القبول الرسمي للشروط الواحدة والعشرين التي وضعها لينين ليتحكم في القبول.
حدثت هذه الأزمات الداخلية في محيط بعيد جدا عن محيطي؛ ومن ثم فلم يكن لها في أثر. ولا أقول ذلك مفاخرا، بل إني - على العكس من ذلك - إنما أحاول تفسير الموقف. إن اطراد التدهور في الشيوعية الدولية نحو الاستبداد والبيروقراطية أثار في نفسي النفور والاشمئزاز، غير أنه كانت هناك أسباب اضطرارية حملتني على التردد في التخلي عنها، منها عطفي على الزملاء الذين ماتوا أو أودعوا غياهب السجون، وانعدام وجود أية قوة منظمة تناهض الفاشستية في إيطاليا في ذلك الحين ، والتدهور السياسي السريع - والتدهور المعنوي في بعض الأحيان - الذي حل بكثير ممن تخلوا من قبل عن الشيوعية، وأخيرا توهمي بأن الشيوعية الدولية ربما عادت إليها صحتها على أيدي العمال الأجراء في بلاد الغرب، إذا وقعت أزمة داخل النظام السوفيتي.
صفحه نامشخص