آقوم المسالک
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
ژانرها
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
تأليف
خير الدين التونسي
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان من جعل من نتائج العدل العمران، وفضل بالعقل نوع الإنسان، وأهله به لحسن التدبير ومراتب العرفان، وأمره بالتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، أحمده وهو المحمود في كل آن بكل لسان، وأصلي على عبده سيدنا محمد المرسل بالكتاب والميزان، المنزل عليه إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وعلى آله وأصحابه حفاظ شريعته اللائقة بكل زمان، الدائرة أحكامها على مركزي الإيمان والأمان. أما بعد؛ فيقول جامع هذه الورقات - أرشده الله إلى أقوم الطرقات:
إني بعد أن تأملت تأملا طويلا في أسباب تقدم الأمم وتأخرها جيلا فجيلا، مستندا في ذلك لما أمكن تصفحه من التواريخ الإسلامية والإفرنجية، مع ما حرره المؤلفون من الفريقين فيما كانت عليه وآلت إليه الأمة الإسلامية، وما سيئول إليه أمرها في المستقبل، بمقتضى الشواهد التي قضت التجربة بأن تقبل، التجأت إلى الجزم بما لا أظن عاقلا من رجال الإسلام يناقضه، أو ينهض له دليل يعارضه، من أنا إذا اعتبرنا تسابق الأمم في ميادين التمدن، وتحزب عزائمهم على فعل ما هو أعود نفعا وأعون، لا يتهيأ لنا أن نميز ما يليق بنا على قاعدة محكمة البنا إلا بمعرفة أحوال من ليس من حزبنا، لا سيما من حف بنا وحل بقربنا.
ثم إذا اعتبرنا ما حدث في هذه الأزمان من الوسائط التي قربت تواصل الأبدان والأذهان، لم نتوقف أن نتصور الدنيا بصورة بلدة متحدة، تسكنها أمم متعددة، حاجة بعضهم لبعض متأكدة، وكل منهم وإن كان في مساعيه الخصوصية غريم نفسه فهو بالنظر إلى ما ينجر بها من الفوائد العمومية مطلوب لسائر بني جنسه، فمن لاحظ هذين الاعتبارين اللذين لا تبقي المشاهدة في صحتهما أدنى رين، وكان بمقتضى ديانته من الدارين أن الشريعة الإسلامية كافلة بمصالح الدارين، ضرورة أن التنظيم الدنيوي أساس متين لاستقامة نظام الدين، يسوءه أن يرى بعض علماء الإسلام الموكول لأمانتهم مراعاة أحوال الوقت في تنزيل الأحكام، معرضين عن استكشاف الحوادث الداخلية، وأذهانهم عن معرفة الخارجية خلية. ولا يخفى أن ذلك من أعظم العوائق عن معرفة ما يجب اعتباره على الوجه اللائق. أفيحسن من أساة الأمة الجهل بأمراضها، أو صرف الهمة إلى اقتناء جواهر العلوم مجردة عن أعراضها، كما أنه يسوءنا الجهل بذلك من بعض رجال السياسة، والتجاهل من بعضهم رغبة في إطلاق الرئاسة؛ فلذلك هجس ببالي ما استذكيت لأجله ذبالي، من أني لو جمعت بعض ما استنتجته منذ سنين بإعمال الفكر والروية، مع ما شاهدته أثناء أسفاري للبلدان الأوروباوية، التي أرسلني إلى بعض دولها الفخام الطود الرفيع الأسمى، والكهف المنيع الأحمى، جناب ولي النعم وزكي الأخلاق والشيم، من لم تزل عزائمه كاسمه صادقة، وألسنة الأيام بالثناء عليه ناطقة، لم يخل سعيي من فائدة، خصوصا إذا صادف أفئدة على حماية بيضة الإسلام متعاضدة.
وأهم تلك الفوائد عندي، التي هي في هذا التأليف مناط قصدي، تذكير العلماء الأعلام بما يعينهم على معرفة ما يجب اعتباره من حوادث الأيام، وإيقاظ الغافلين من رجال السياسة وسائر الخواص والعوام، ببيان ما ينبغي أن تكون عليه التصرفات الداخلية والخارجية، وذكر ما تتأكد معرفته من أحوال الأمم الإفرنجية، خصوصا من لهم بنا مزيد اختلاط وشديد علقة وارتباط، مع ما أولعوا به من صرف الهمم إلى استيعاب أحوال سائر الأمم، واستسهالهم ذلك بطي مسافات الكرة الذي ألحق شاسعها بالأمم، فجمعت ما تيسر بعون الله من مستحدثاتهم المتعلقة بسياستي الاقتصاد والتنظيم، مع الإشارة إلى ما كانوا عليه في العهد القديم، وبيان الوسائل التي ترقوا بها في سياسة العباد إلى الغاية القصوى من عمران البلاد، كما أشرت إلى ما كانت عليه أمة الإسلام المشهود لها حتى من مؤرخي أوروبا الأعيان، بسابقية التقدم في مضماري العرفان والعمران، وقت نفوذ الشريعة في أحوالها، ونسج سائر التصرفات بمنوالها.
والغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك الأوروباوية إلى ما هي عليه من المنعة والسلطة الدنيوية، أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقا، ولنصوص شريعتنا مساعدا وموافقا؛ عسى أن نسترجع منه ما أخذ من أيدينا، ونخرج باستعماله من ورطات التفريط الموجود فينا، إلى غير ذلك مما تتشوف إليه نفس الناظر في هذا الموضوع، المحتوي من الملاحظات النقلية والعقلية على ما نشره بطي فصوله يضوع. وسميته: «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». مرتبا له على مقدمة وكتابين يشتمل كل منهما على أبواب.
صفحه نامشخص