آقوم المسالک
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
ژانرها
ولنقتصر على هذا المقدار من الإشارة إلى أسباب التقدم والتأخر في الأمة الإسلامية، ونرجع إلى ذكر أطوار التمدن الأوروباوي من أيام الإمبراطور شارلمان إلى هذا التاريخ على وجه إجمالي يقتدر به على الإحاطة بأنواع التمدن المكتسب بالمعارف، ويستفيد منه من يريد معرفة الأشخاص الذين اشتهروا بكشف كنوز الطبيعة وأسرار التهذيب ورسوم معالم السياسة. (1) التمدن الأوروباوي
اعلم أن الإمبراطور شارلمان الذي أسس دعائم السياسة والأحكام كان أشهر ملك ظهر بأوروبا من وقت سقوط الدولة الرومانية إلى سقوط دولة الإغريق التي كان تحت مملكتها القسطنطينية العظمى، وهو الذي أدخل العلوم والأعمال لممالكه، وكان يفني غالب أوقاته في قراءة العلوم وكان مجلسه محفوفا بالعلماء، وأسس بباريس مدرسة جامعة لسائر المعارف، وبمثل هاته المآثر حصل له من السمعة في أقطار الأرض ما استمال الخليفة هارون الرشيد إلى صحبته ومهاداته بتحف، منها منقالة لم تزل إلى الآن في أحد قصور فرنسا. ثم بعد وفاة الإمبراطور المذكور وفقدان تدبيره تعطلت تلك المصالح وتنازلت أوروبا وبقيت مغمورة في دجى الجهل مدة ستمائة سنة، وفي هاته المدة كانت موطئا لأقدام البرابرة الذين كانت دولهم تتداول عليها. ومع ذلك الفشل التام فإن أهل الكنيسة منهم كانوا محافظين على كتب المعارف وعلى اللسانين اللذين لولاهما ما انتفع بتلك الكتب، وهما اليوناني واللاتيني، فالناس ممنونون لهم بذلك.
ثم في القرن الحادي عشر، الذي هو خامس قرون الهجرة النبوية، ظهرت مبادئ علوم وصناعات وهندسة في الأبنية، فأنشئت بها هياكل في الناحية الغربية من أوروبا وأخذ علم الفلسفة في النمو بين محاورات كلامية ومنازعات جدلية، وظهر حزب الفرسان الذين اشتهروا باسم الكوليير، وهم جماعة من وجوه الناس تحالفوا على أن يحاربوا في الله للمدافعة عن حرية النسوة والمستضعفين من سائر الأهالي، وأن لا يلاحظوا في أفعالهم لا سيما المحاربة إلا مقتضيات الشرف الإنساني وعلو الهمة ولو مع أعدى الأعادي؛ مثلا: يرحمون من يسترحمهم ولا يجهزون على جريحهم ولا يبتزون سلب قتيلهم.
ومن أواخر هذا القرن إلى أواسط القرن الثالث عشر كانت حروب الصليبيين مع المسلمين لافتكاك بيت المقدس وقطع استيلائهم على الأمم في زعمهم، وإنما أشرنا لهاته الحروب والفرسان لبيان ما لها من الدخل في التمدن الأوروباوي، فإن مؤرخيهم يقولون إن تلك الحروب وإن هلكت فيها نفوس عديدة وأموال غزيرة بدون الحصول على المقصود بالذات فإنها أعقبت نتائج نافعة لهم، منها أنهم من ذلك الوقت شرعوا في ترتيب العساكر وتعلموا بمواصلتهم لأهل المشرق صناعة التجارة والزراعة ونحو ذلك، وتخلقوا بأخلاق الحضر وتعودوا بالأسفار لاستكشاف أحوال الأقطار، فاطلعوا على أحوال آسيا المتوسطة وأحوال الصين، كما ذلك مبين بتآليف ماركوبولو. وبالجملة فبالسبب المذكور وهو مخالطة الأوروباويين للأمة الإسلامية المتقدمة عليهم في التمدن والحضارة كان ابتداء التمدن عندهم، لا سيما في القرن الثالث عشر، ثم تهذب حتى وصل إلى ما هو مشاهد اليوم، وانتهت إذ ذاك رئاسة العلوم والآداب والفلسفة إلى صان برنار بفرنسا وصان توماس بإيطاليا وألبرت الكبير بألمانيا وريموندولولو بإسبانيا وجن دونسكوت بإنكلترة، وظهرت الشعراء والمهندسون والكنائس الأصولية والهياكل الفخيمة المنسوبة للقرون المتوسطة.
وفي القرن الرابع عشر نالت تلك الأمور شرفها، خصوصا في إيطاليا فإن دانتي حرر اللسان الطلياني وقرره في شبه أراجيز يتخلد ذكرها، وجيوتو وتشيمابوي أحييا صناعة الدهن، وبتراركا وبكاتشو سلكا طريقة دانتي في النظم والنثر. ثم في أواسط القرن الخامس عشر، وهو الوقت الذي لا ينسى لغرابة حوادثه، اخترع غتمبرغ من أهل ميانس بألمانيا طبع الكتب الذي حصل به من تنمية مواد العلوم وسرعة انتشارها في أقطار الأرض ما يغني فيه العيان عن البيان، وأول ما طبع منها كتاب في أشعار اللغة اللاتينية التي عاد إلى استعمالها أهل إيطاليا وتكاثرت بها أشعارهم بعد أن تناسوها، وهي وإن لم تأخذ مأخذها في التوصل بها إلى المعاني الدقيقة واللطائف البديعة فقد رجعت إلى ما كانت عليه من الطلاوة وحسن السبك.
ثم أخذ التمدن في الترقي بمدارج العلوم والأعمال، وكانت المزية في ذلك لجماعة الميدشي الذين كانوا رؤساء الدولة الجمهورية بفلورنسة، ثم صاروا أمراءها، فهم الذين مهدوا سبلها للناس، وكان اشتهارهم بذلك في القرن السادس عشر المعبر عنه بالقرن الكبير الذي كانت أيامه تضاهي بأولئك الرؤساء أيام أغسطوس أول قياصرة الرومان في الأشعار وحسن هندسة البناء وبديع أشكاله، اقتداء بالرومانيين الذين اقتدوا في ذلك باليونان. ومن حوادث القرن الخامس عشر أن جماعة الميدشي المشار إليهم والبابا ليون العاشر الذي هو منهم بحثوا في الخزائن عن الكتب القديمة وطبعوها لاستكثار نسخها، وجعلوا عليها تعليقات نافعة وملاحظات غريبة؛ وبذلك ارتفع عن محاسن الأقدمين القناع الذي تكاثف بتطاول السنين، وفي تلك المدة ظهر الشاعران أريوستو وتاسو اللذان أشهرا اللسان الطلياني المستعمل الآن، وهما في الطبقة الأولى من مشاهير تلك اللغة. فأولهما خلد ذكره باختراع معان لم يسبق إليها في ألفاظ مهذبة مستعذبة. والثاني نال شهرة أميرس الشاعر اليوناني وفرجيل الشاعر اللاتيني. وبالجملة فاللسان الطلياني أخذ في ذلك الوقت مأخذه من السلاسة وحسن السبك، وألفت به تآليف عديدة في فنون شتى. ومن مشاهير القرن المذكور مكيافلي الذي كان أول من بين القواعد السياسية بعد سقوط الدولة الرومانية، وغويتشرديني الذي بلغ بجودة الفكر وحسن التعبير إلى إتقان التصنيف في التاريخ، وفرا باولو الذي اشتهر بالمدافعة عن حرية الوطن بقلم غيور منصف في ضد سياسة البابوات الدائرة رحاها على إيثار الشهوات.
وفي ذلك الوقت ظهر بمملكة إسبانيا التي كانت اكتسبت من المسلمين أنواعا من الظرف كالفروسية واللعب بالرماح وتعاطي المعاني الغريبة من الأشعار الناظمان المجيدان لوبس دفيغا وكالدرون، اللذان أظهرا من التراكيب الشعرية ما حسن إلقاؤه في المجامع المعدة لتهذيب الأخلاق المسماة عندهم بالتياطرات. كما ظهر في ذلك الوقت عند الإنكليز الناظم الشهير شكسبير، وهو وإن لم يخل كلامه عن الهفوات فله النفيس من جوهره، ويتوصل بفصاحته إلى الكشف عن كنه ما يروم وصفه والإحاطة بكيفيته الحسية والمعنوية، لا سيما في وصف الحروب بحيث إن سامع كلامه يكون كالمشاهد لما يصفه.
وأما أهل شمال أوروبا فلم يشتهروا إلى ذلك الوقت بشيء من أعمال الفكر، غير أن منهم من لا تنكر منته على العرفان، مثل كبرنيك من أهل بولونيا المولود سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وألف، وهو الذي حرر القول بأن الشمس في مركز العالم وأن الأرض والكواكب تدور حولها. قيل: وليس هو أول قائل بذلك، وإنما الأول فيلولاوس أحد تلامذة فيثاغورس، وذلك قبل وجود كبرنيك المذكور بألفي عام، لكن وقع الانفصال على أن كبرنيك هو الذي ينبغي أن ينسب إليه مزية الابتكار لهذا القول وإن انتفع في الاهتداء إليه بقول فيلولاوس المذكور. وممن حرر الدليل على تلك الدعوى بما يقرب من المشاهدة غليلاو الطلياني وأعانه على ذلك ما اخترعه مسيوس من أهل هولاند من آلة البلور التي تكبر الأشياء، فكانت مرآته تكبر الشيء مائة وستين مرة زيادة على مقدار جرمه، ثم تهذبت تلك الآلة حتى صارت تكبره من ألفين إلى ثلاثة آلاف وأكثر، ولم تزل تلك الدعوى تترجح عند أهل أوروبا إلى أن صارت مسلمة لديهم، وبواسطة تلك الآلة اطلع غليلاو المذكور على كواكب لم تكن معهودة، وهو وتلميذه توريشلي أول من عرف وزن الهواء، وأن طلوع الماء في الطلنبة مسبب عن ضغط الهواء لسطح الماء، وأن نهاية صعوده اثنان وثلاثون قدما، حيث إن قوة عمود الهواء النازل على سطح الماء لا تتجاوز المقدار المذكور، فلا ينجذب بها الماء إلى أكثر من ذلك، والحاصل أن أهل إيطاليا اغتنموا في ذلك الوقت شهرة بالآداب والصناعات المستظرفة المسماة عندهم بوزار، وهي صناعة الدهن والنقش وهندسة البناء والموسيقى، وحصلوا على ما أمكنهم تحصيله من العلوم والفلسفة، وأما ألمانيا فقد اشتهر فيها تيخوبراهي وكوبلر؛ فالأول أفنى عمره وماله في طلب العلم واقتناص شوارده حتى سمي بالمحسن إلى العلم، والثاني صرف المهجة إلى علم الفلك حتى قيل له صاحب الأحكام. وأما إنكلترة فإنها صارت بقرب ذلك العهد ذات يد في العلوم الرياضية والحكمة الكلامية، وممن اشتهر فيها فرنسس باكن ذو الفكر الوقاد والجد والاجتهاد، وقد صحت تسمية تآليفه بحالة العلوم الجديدة، واستند في دعاويه فيه إلى التجارب المفرغة في قالب الأسلوب الفلسفي، حتى قيل إن فن الطبيعيات صار بقواعد الكتاب المذكور كما ينبغي أن يكون.
وفي القرن السادس عشر امتاز أهل فرنسا بعلم الأحكام الآتي بيانه، واشتهر منهم بذلك عدد كثير مثل: كوجا ودوملان وميشال دولبيتال الذين عمروا مكاتب الأحكام، والماهر الفصيح فرنل المتسلطن في علم الطب، وأمبرواز بري أعرف أهل وقته بأحوال الجراحات، وفيات الذي اختصر كتب الجبر بوضع حروف نائبة عن الأعداد وصيره لعلم المساحة كالمنطق لسائر العلوم، وبيارلسكو الذي هندس بناء اللوفر، وفلبار دلورم الذي هندس قصر مودون وقصر التويلري، والأول والثالث بباريس يسكن بهما ملوكها، والثاني بقربها. ثم إن فرنسا وإن بلغت في هذا الوقت ما بلغته من التمدن والتهذيب وفاقت أمما كثيرة ممن تقدمها إلا أنها لم تضاه نظائرها، حيث لم يكن لسانها في ذلك الوقت خالصا من الشوائب. ومن مشاهيرها في تلك المدة: أميو ومارو، فالأول في الإنشاء والثاني في النظم، تميزا بسلامة السليقة وقلة التعقيد. ومنهم ربلي متقن صياغة مثالب الهجو، ومونتان الفيلسوف الذي سهل طرق المعاني وأداءها بألفاظ راشقة، وشرح ماهية الإنسان غير محمول بعين الرضا على تحسين معائبه ولا بعين السخط على تقبيح محاسنه. وفي هذا القرن اشتهر بإيطاليا بين أرباب الصناعات رفايل وميكلانج وليوناردو دا وينشي وأشخاص آخرون في صناعة الدهن والنقش والبناء، فبهم وبتلامذتهم تجدد البوزار في سائر نواحي أوروبا.
وفي القرن السابع عشر بلغت العلوم الرياضية والأدبية في أوروبا إلى الغاية القصوى، وذلك بكثرة العلماء الذين نمت بهم المعارف، حتى صار من كان يعد من مشاهير العلماء في القرون الماضية يعد من عامتهم في هذا القرن، خصوصا أهل فرنسا الذين ترقوا في سائر المعارف وتقدموا من عداهم من أهل أوروبا في الفصاحة نظما ونثرا، وفي صناعة البوزار المتقدم بيانها. فمن مشاهير هذا القرن باسكال المشتهر بفن الحساب والطبيعيات والإنشاء، ألف كتابا سماه بما ترجمته «مكاتيب أهل القرى»، وهو من أشهر ما ألف في الإرسال، وتعرض فيه للقدح في سيرة الجزويت حزب يعرف ب «اليسوعية»، دأبهم جلب الناس بكل وجه ممكن إلى الديانة النصرانية والمدافعة عن السياسة البابوية، ومنهم دكارت المعدود في الطبقة الأولى من مخترعي العلوم الرياضية باستعمال قواعد الجبر في المساحة وإتقان التصرف في علم الفلسفة، وهو من أشهر العلماء الذين هذبوا أخلاق البشر. ثم بوردلو وماسليون اللذان أظهرا فصاحة لم تكن لأحد قبلهما من خطباء ديانتهم، ثم بوسوي الذي بلغ في حسن التأبين وفي خطبته على التاريخ العام السائرة مسير المثل عند أهل أوروبا درجة لم يبلغها أحد بعده. ثم بوالو الذي بين قواعد الشعر عندهم، ثم لابرويار المعدود من السابقين في علم التهذيب، ثم فنلون صاحب التأليف المشهور المسمى «تلماك» الجامع لأسباب التهذيب البشري، ثم كرنيل وراسين اللذان لا يقاسان في التراجيديا إلا بمشاهير اليونان، وهي محاكاة الحروب والوقائع، والكوميديا وهي محاكاة أمور في قالب الهزل، ثم موليير في الكوميديات ولافونتين في الأمثال تقدما من كان قبلهما. وفي القرن المذكور ظهر بألمانيا الحكيم ليبنتس، وكان له شهرة في علم التاريخ والطبيعيات، لا سيما الرياضيات والفلسفة، فقد كان له فيهما اليد الطولى.
صفحه نامشخص