وتضاحك في استخفاف قائلا: لكنك لن تموتي، لقد قلت لك سوف تشفين!
وضحكت في صوت مبحوح، وجرت الألفاظ جرا: أرجو ألا تصدق نبوءتك، إنني أريد الموت، أتعرف ماذا سأفقد لو شفيت؟ إنني سأفقد كل شيء، أفقد الحب الوحيد الذي ذقته في حياتي، إنني سأموت سعيدة، كل ما يحزنني أن موتي سوف يعكر عليك حياتك، لو أنك تحس إحساسي، لو أنك تفعل ما أفعله، إنني أعيش في الأغنية الحلوة القصيرة التي منحتنا إياها الأقدار، عش معي هذه الأيام، وانفض يدك بعد ذلك عن اللحن وصم أذنيك، إني لأتمنى ألا يطول ... ألا يطول، إنه جميل هكذا، كما نعيشه الآن!
وأطاع القدر هوى كوثر، فسكت اللحن ذات صباح، وآوى منير في المساء إلى غرفته، كان الظلام حالكا، وكان كل ما حواليه يشعر بالوحشة، ولكنه لم يفكر في إنارة المصباح، بل تداعى على مقعده حائرا، وأنصتت أذناه.
كان يريد أن يعيش لحظات مع أصداء لحن حبه القصير.
الأستاذ بغبغان
- تأمل يا محمود ريشه الأحمر ورقبته الزرقاء، هذا الخليط من الألوان الزاهية، يا له من منظر جميل!
وأدار رأسه نحو محمود، فوجده منصرفا عن حديثه، لا ينظر نحو الببغاء، إنما نحو رجل طويل القامة ممتلئ الجسم، يرتدي يا للعجب! نفس الألوان؛ طربوش أحمر فاتح الاحمرار، جاكتة خضراء زاهية اللون، كأنما شرب كل ما في أوراق الشجر قبيل الربيع من خضرة، وحذاء رماديا يلتمع كالفضة، ورباط رقبة قد احتشدت على بساط زرقته مجموعة من الألوان تتنافس في الظهور.
ولم يكن هذا كل شيء؛ كانت هناك عصا قصيرة صفراء، وكانت هناك أيضا عروتا السترة، قد حليت كل منهما بشارة مستديرة، قد رسم عليها بالألوان صورة لرجل، على ما أذكر كانت إحداهما لسعد زغلول، والأخرى لمصطفى كمال «عفريت اليونان» كما كتب تحت الصورة إذ ذاك، ولم يكن هذا كل شيء أيضا؛ كانت مجموعة المناديل المتدلية من جيب سترته، كأنها أعلام تزين حانوت بقال، تخطف بألوانها الأبصار.
وأحس محمود بعين شقيقه تتأمله، فرفع رأسه الصغير نحوه في سذاجة وقال: أكنت تحدثني يا أخي؟
وأجاب الأخ قبل أن يفيق من دهشته لما رأى: طبعا كنت أحدثك، لكن عن هذه الببغاء المتعلقة بأسلاك القفص.
صفحه نامشخص