وإلى هذه الحجرة جاء منصور ذات صباح؛ ليعمل زميلا لنا، وكان هذا لقاءنا الرابع.
وقال وهو يهز يدي في حرارة، كما فعل أول مرة: وأخيرا، يريد الله أن نعمل معا يا أستاذ، لقد نقلت إلى هنا منذ اليوم، فقدمني لزملائك!
ولازمني التوفيق هذه المرة، فذكرت الكلمة الأولى من اسمه، وقنعت بتقديمه إلى زملائي على أنه صديقي الأستاذ منصور!
ومضت الأيام لتكشف لنا عن مزايا منصور، حتى إذا كان الشهر الثامن وجدناه - دون أن يسعى إلى ذلك - بمثابة الرئيس والوالد، كان أكبرنا سنا، وأكبرنا مرتبا، وكان - وهو الأهم - أدقنا وأحرصنا، وأدرانا بالعمل، ولم تقف صلتنا بمنصور عند آصرة الزمالة؛ فقد أصبح صديقا شخصيا لكل منا، يشاركه في أفراحه ومتاعبه، ولا يبخل بالعون له من جهده أو ماله، وسرعان ما أحالنا هذا الرجل العجيب إلى أسرة واحدة، كان هو لها بمثابة الأب، وكنا نحن الأربعة بتفاوت أعمارنا وتفاوت نزعاتنا كأبناء لأب واحد سوي كل منهم على خلق يميزه ... مصطفى بوقار الكهولة الزاحف إليه مع بواكير العقد الخامس، وحامد باتزان الشباب الزاحف إلى الرجولة مكبلا بأولاده الأربعة، وسيد بحرارة الشباب الباكر وآماله، وذلك المرح الذي تفيض به نفس شاب عاشق يوشك أن يحظى بليلاه، ثم أنا، في منتصف الطريق أتطلع إلى الرجولة، وأتمهل الشباب، وكان مقدرا لهذه الأسرة أن تظل في هنائها، لولا ما يصيب الأسر أحيانا!
وكان مصاب أسرتنا ذات يوم حين دخل الفراش يستدعي أحدنا لمقابلة الرئيس!
وتبادلنا النظر، وكاد كل واحد منا يهم عن كرسيه، لولا أن منصور كان قد سبقنا، فنهض متجها إلى الباب!
ومر نصف ساعة عاد إلينا بعدها واجما، وجلس إلى مكتبه دون أن يقول كلمة، وأخذ يقلب ما أمامه من أوراق، وكأنه لا يحس وجودنا، فأحسسنا أن شيئا قد وقع له، ولكننا لم نجرؤ على سؤاله، واكتفينا بمشاركته الوجوم!
وفي اليوم التالي قال لنا منصور إنه ارتكب خطأ تداركته المصلحة قبل أن يستحيل كارثة، وإن الرئيس دعاه ليناقشه الحساب، وإنه يتوقع بين لحظة وأخرى توقيع العقاب عليه!
وبعد أسبوع دخلنا المكتب، فقرأ علينا منصور - وهو يضحك - قرار نقله إلى أقصى الصعيد، ووقف علاوته عاما كاملا؛ لأنه أهمل إهمالا كاد يؤدي إلى ضياع بضع مئات من الجنيهات على الحكومة، ولولا طول مدة خدمته واستقامته طوال هذه المدة لكان العقاب أشد صرامة.
وقال منصور ونحن ذاهلون: أليس عجيبا أمر هذه الحكومة؟! أعمل بها ستة وثلاثين عاما في كل منها حسنات وحسنات، فتتمهل في إثابتي طول هذه الأعوام، وأخطئ مرة واحدة، فتعاقبني خلال أسبوع؟!
صفحه نامشخص