بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
المولى ينقسم في اللغة على (١) عشرة أوجه (٢):
أولها: (الأولى)، وهو الأصل والعماد، الذي ترجع إليه المعاني في باقي الأقسام. قال الله تعالى في سورة الحديد: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/57/14" target="_blank" title="الحديد: 14">﴿فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير﴾</a> (3) يريد جل اسمه هي أولى بكم على ما جاء في التفسير (4)، وذكره أهل اللغة المحققون (5).
صفحه ۲۷
قال لبيد (1):
فغدت كلا الفرجين، تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها (2) يريد أولى المخافة. ولسنا نعلم من أهل اللغة في المعنى خلافا.
والثاني: (مالك الرق) قال الله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه " (3) يريد (4) مالكه، والأمر في هذا المعنى أبين من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد.
والثالث: (المعتق).
والرابع: (المعتق).
صفحه ۲۸
والخامس: (ابن العم). قال الشاعر (١):
مهلا بني عمنا مهلا موالينا * لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا (٢) والسادس: (الناصر) قال الله جل وعز: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/47/10" target="_blank" title="محمد: 10">﴿ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم﴾</a> (3)، يريد لا ناصر لهم.
والسابع: (المتولي) يتضمن الجريرة، ويحوز الميراث.
والثامن: (الحليف).
والتاسع: (الجار).
والعاشر: (الإمام السيد المطاع).
وهذه الأقسام. التسعة بعد " الأولى " إذا تؤمل المعنى فيها وجد راجعا إلى " الأولى " ومأخوذا منه. لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من غيره. [كان مولاه].
والمعتق لما كان أولى بميراث المعتق من غيره، كان لذلك مولاه.
والمعتق لما كان أولى بمعتقه في تحمل جريرته، واتصف به ممن (4) أعتقه غيره كان مولاه أيضا لذلك.
صفحه ۲۹
وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن بعد عن نسبه، وأولى بنصرة ابن عمه من الأجنبي، كان مولى لأجل ذلك.
والناصر لما اختص بالنصرة فصار بها أولى كان من أجل ذلك مولى.
والمتولي لتضمن الجريرة لما ألزم نفسه ما يلزم المعتق كان بذلك أولى ممن لم يقبل الولاء، وصار به أولى لميراثه، فكان لذلك مولى.
والحليف لاحق في معناه بالمتولي، فلهذا السبب كان مولى.
والجار لما كان أولى بنصرة جاره ممن بعد عن داره، وأولى بالشفعة في عقاره، فلذا كان أولى.
والإمام المطاع، لما كان له من طاعة الرعية وتدبيرهم ما يماثل الواجب بملك الرق، كان لذلك أولى، فصار جميع المعاني فيما حددناه يرجع إلى معنى الأولى، ويكشف عن نتيجة ما ذكرناه في حقيقته ووصفناه.
وقد حمل العناد الناصبة على أن جحد بعضهم أن يكون " الأولى " أحد أقسام المولى، أو يحصل ذلك في معناه، واعترف بعضهم أنفة من العناد، وادعوا أنه مجاز من الأقسام.
وفيما قدمناه من الدليل على أنه الأصل والعماد بيان فضيحة هؤلاء الأوغاد.
على أنه لا فصل بينهم وبين من جحد الأقسام التسعة، واقتصر به على الأول، فادعى فيها الاستعارة والمجاز، بل هو بهذه الدعوى أقرب إلى الصواب لما شرحناه.
صفحه ۳۰
باب طرف من الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بما استفاض عن النبي صلى الله عليه وآله في يوم الغدير من المقال قد أجمع حملة الأخبار، واتفق نقلة الآثار، على أن النبي صلى الله عليه وآله جمع الناس بغدير خم، عند مرجعه من حجة الوداع، ثم واجه جماعتهم بالخطاب فقال: " ألست أولى بكم منكم؟ - فلما أذعنوا له بالإقرار قال لهم على النسق من غير فصل في الكلام -: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله " (1).
فقررهم صلى الله عليه وآله على فرض طاعته عليهم بصريح الكلام، ثم عطف على اللفظ الخاص بما ينطوي على معناه، وجاء فيه
صفحه ۳۱
بحرف العطف من " الفاء " التي لا يبتدأ بها الكلام، فدل على أنه الأولى دون ما سواه، لما ثبت من حكمته عليه وآله السلام وأراد به البيان، إذ لو لم يرد ذلك وأراد ما عداه، لكان مستأنفا لمقال لا تعلق له بالمتقدم جاعلا لحرف العطف حرف الاستيناف وهذا ما لا يقع إلا من أحد نفسين:
أحدهما: جاهل باللغة والكلام والآخر: قاصد إلى التعمية والألغاز.
ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن الوصفين، وينزه عن النقص في الصفات.
وشئ آخر: لا يخلو رسول الله صلى الله عليه وآله فيما يلفظ به من عبارة " مولى " من وجهين لا ثالث لهما على البيان:
إما أن يكون مراده فيه المعنى الذي قرر به الأنام، من فرض الطاعة على ما ذكرناه. أو يكون أراد غيره من الأقسام.
فإن كان مراده من ذلك فرض طاعته على الأنام، فهو الذي نذهب إليه وقد صحت الإمامة لأمير المؤمنين عليه السلام.
وإن كان مراده سواه من الأقسام، فقد عبر عن مراده بكلام يحتمل خلاف ما أراد، وليس في العقل دليل على ما أراد، وهذا ما لا يقع إلا من جاهل ناقص عاجز عن البيان، أو متعمد لإضلال المخاطبين عن الغرض، وعدوله عن الافهام.
وقد أجل الله نبيه عن هذين القسمين وأشباههما من النقص عن الكمال.
وشئ آخر وهو: إذا كان لفظ " مولى " ينقسم على عشرة أقسام، ثم اعتبرنا ثمانية منها، فأخرج لنا الاعتبار أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقصد إلى شئ منها، ولم يرده على وجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، ثبت
صفحه ۳۲
أنه عليه وآله السلام أراد الخارج عنها من الأقسام، أو بعضه كائنا ما كان، لا محالة، إذ كان لا يخلو كلامه صلى الله عليه وآله من مراد، وهذا مما لا شك فيه ولا ارتياب.
فنظرنا في القسم الذي يلي الأول على ما رتبناه، وهو " مالك الرق " فوجدناه مما لا يجوز أن يقصده النبي عليه وآله السلام، لأنه لم يكن علي مالكا لرق كل من ملك النبي صلى الله عليه وآله رقه، فيكون بذلك مولى من كان مولاه.
ونظرنا في الذي يليه، وهو " المعتق "، وكان القول فيه كالقول في " مالك الرق " سواء، لأن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن معتقا لكل من أعتقه النبي صلى الله عليه وآله من الرق، فيكون لذلك مولاه.
ولا كان عليه السلام معتقا من رق، ولا الرسول كذلك حاشاهما من ذلك.
ولم يجز أن يعنى من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه، لأن هذا لغو من الكلام مع معرفة الجميع بأن عليا عليه السلام ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله، وعلمهم يقينا بالاضطرار بأن ابن عم الرجل هو ابن عم جميع بني عمه على كل حال.
ولا يجوز أن يريد " الناصر "، لأن المسلمين كلهم أنصار من نصره النبي عليه وآله السلام، فلا معنى لتخصيصه من الجماعة بما قد شاركته فيه على البيان، لأن هذا هو العبث في الفعل، واللغو في الكلام.
ولم يكن كل من تولى النبي عليه وآله السلام تولى علما، ولا يجوز أن يخبر بذلك كله لتنافي الكلام، ولا يجب أن يكون قد أوجبه لآمرين:
(الأول): أنه خاطب الكافة، ولم يكونوا بأسرهم أولياء على معنى الاعتزاء إليه بضمان الجرائر، واستحقاق الميراث.
صفحه ۳۳
(والثاني): للاتفاق على أن ذلك لم يكن واجبا في شئ من الأزمان.
ولا يجوز أن يكون قصد معنى " الحليف "، لأنه لم يكن عليه السلام حليفا لجميع حلفاء النبي صلى الله عليه وآله.
ولا معنى لإرادته بلفظ مولى " الجار "، لأنه قد كان معروفا عند جميع من عرف منزلة علي عليه السلام أنه جار من جاوره النبي عليه وآله السلام في الدار، بحلوله معه في المكان، ولا إذا افترقا بالأسفار، ولم يجب أن يكون علي عليه السلام جارا لجيران النبي عليه وآله السلام، وكان الخبر عن ذلك كذبا من الأخبار.
مع أنه لو كان حقا لم يكن فيه فائدة توجب جمع الناس لها، وتقريرهم على الطاعة وتعظيم الشأن.
فلم يبق إلا أنه (ما) أراد بقوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه " إلا الإمامة التي يعبر عنها تارة بلفظ أولى، ويعبر عنها بصريح فرض الطاعة، فإنه أحرى وهذا واضح البرهان.
صفحه ۳۴
باب شواهد الإمامة من هذا المقال بشعر الفصحاء من الشعراء ومما يدل على ما ذكرناه ما تواترت به الأخبار أن حسان بن ثابت (1) شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله استأذن النبي عليه السلام في يوم الغدير أن يقول شعرا في ذلك المقام، فأذن له، فأنشأ يقول:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا فقال: ومن مولاكم ووليكم؟ * فقالوا، ولم يبدوا هناك التعاديا إلهك مولانا وأنت نبينا * فلن تجدن (2) منا لك اليوم عاصيا (3) فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا فقال له النبي صلى الله عليه وآله: " لا تزال يا حسان مؤيدا بروح .
صفحه ۳۵
القدس ما نصرتنا بلسانك " (1).
فلولا أن النبي عليه وآله السلام أراد بما ذكره في ذلك المقام النص على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام على حسب ما صرح به حسان في هذا المقال، لما دعا له النبي (صلى الله عليه وآله) بالتأييد، ومدحه من أجله وأثنى عليه.
ولو كان عليه وآله السلام عنى غيره من أقسام المولى، لأنكر على حسان ولم يقره على ما اعتقده فيه، وبين له غلطه فيما حكاه، لأنه محال مع نصب الله تعالى نبيه للبيان، أن يشهد بصحة الباطل، وهو على الضلال أن يمدح على الغلط من الاعتقاد.
وفي شهادته عليه وآله السلام بصدق حسان فيما حكاه، ونظمه الكلام بمدحه عليه، ودعائه له بالتأييد من أجله على ما بيناه، دليل على صحة ما ذكرناه، وشاهد على أن المولى عبارة في اللغة عن " الإمام " لفهم حسان والجماعة ذلك منها بما شرحناه.
ومن ذلك ما تطابقت به الأخبار، ونقله رواة السير والآثار، ودونه حملة العربية والأشعار، من قول قيس بن سعد بن عبادة (2)، سيد نقباء رسول الله صلى الله عليه وآله من الأنصار رحمه الله، ومعه راية أمير المؤمنين عليه السلام، وهو بين يديه بصفين في قصيدته اللامية التي أولها:
صفحه ۳۶
قلت لما بغى العدو علينا * حسبنا ربنا ونعم الوكيل حسبنا ربنا الذي فتح البصرة * بالأمس والحديث طويل حتى انتهى إلى قوله:
وعلي إمامنا وإمام * لسوانا أتى به التنزيل يوم قال النبي: من كنت مولا * ه فهذا مولاه خطب جليل إن ما قاله النبي على الأمة * حتم ما فيه قال وقيل وفي هذا الشعر دليلان على ما ذكرناه:
أحدهما: أن المولى يتضمن الإمامة عند أهل اللسان، للاتفاق على فصاحة قيس، وأنه لا يجوز عليه أن يعبر عن معنى ما لا يقع عليه من اللفظ عند أهل الفصاحة لا سيما في النظم (1) الذي يعتمد صاحبه فيه الفصاحة والبيان.
والثاني: إقرار أمير المؤمنين عليه السلام قيسا وترك نكيره، وهو ينشد بحضرته، ويشهد بالإمامة له، ويحتج به على الأعداء، وأمير المؤمنين عليه السلام ممن لا يقر على باطل ولا يمسك عن الانكار، لا سيما مع ارتفاع التقية عنه، وتمكنه من الانكار.
ومن ذلك احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام لنفسه بذلك في جوابه لمعاوية (2) عن كتابه إليه من الشام، وقد رام الافتخار فقال: " أعلي يفتخر
صفحه ۳۷
ابن آكلة الأكباد " ثم قال لعبيد الله بن أبي رافع (3) اكتب (4):
محمد النبي أخي وصنوي (5) * وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي (يمسي ويضحي) (1) * يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكنى وعرسي * فخالط (2) لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم (3) له سهم كسهمي سبقتكم إلى الإسلام طرا * صغيرا (4) ما بلغت أوان حلمي (5)
صفحه ۳۸
وأوجب لي ولايته (6) عليكم * رسول الله يوم غدير خم فأوجب الحجة على خصمه بالإمامة على الجماعة، فقال النبي صلى الله عليه وآله فيه يوم الغدير ما قال، وهذا الشعر منقول عنه على الظاهر والانتشار.
ومما يدل على ما ذكرناه أيضا في هذا الباب قول الأخطل (7) - وهو رجل نصراني لا يتحيز إلى فرقة من فرق الإسلام ولا يتهم بالعصبية للشعر، [للشيعة ظ صح] ولا يطعن عليه في العلم باللسان - في قصيدته التي يمدح فيها عبد الملك بن مروان (1) فقد علمت الكافة عداوته لأمير
صفحه ۳۹
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف وأوفى من أبيك وأمجدا فأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس يوري لا صلدا فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا فمدحه بالإمامة ورياسة الجماعة، واقتصر في العبارة على ذلك، وأنه أولى به من الناس كافة على لفظة " مولى " لإفادتها في اللغة ومعرفة أهلها بأنها عبارة عنه، ودالة على معناه، وهذا بين لا خفاء فيه على منصف، ولا ارتياب فيه.
وهذا الكميت بن زيد الأسدي (1) رحمة الله عليه، وإن لم يكن الحجة به في اللغة كحسان وقيس بن سعد، فإنه لا حجة فيها على حال.
وقد أجمع أهل العلم بالعربية على فضله، وثقته (1) في روايته لها،
صفحه ۴۰
واستشهدوا بشعره على صحة بعض ما اختلف منها.
وقال الأعراب (1) كان الكميت بن زيد أعرف الناس بلغات العرب وأشعارها، وكان أوكد ما دعاه إلى التشيع، والقول بالنص على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، قول النبي صلى الله عليه وآله يوم الغدير: " من كنت مولاه فعلي مولاه " وذلك قوله في قصيدته العينية:
ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا ولكن الرجال تبايعوها * فلم أر مثلها خطرا مبيعا فلولا أن لفظة " مولى " تفيد الإمامة، لما جاز من الكميت - وهو من أهل المعرفة باللغة بحيث ما وصفناه - أن يحكم لأمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة بها، ولا أن يحتج بذلك في شعره الذي هو الطريق إلى العلم بمقداره في المعرفة باللسان، ويجعله في نظمه الذي تسير به عنه الركبان.. (2) عند الناصبة في الاعتقاد والشبهة به داخلة عليه في باب الاستدلال.
كيف يجوز أن تلحقه التهمة في الجهل بالعربية عند الخاصة والعامة من الناس، وكيف يجوز أن يعرف (3) بالعصبية في هذا الباب. فإنه حمل لفظا عربيا غير محتمل عند أهله على الوجوه كلها والأسباب، ولم يوجد أحد
صفحه ۴۱
من نظرائه فعل مثل ذلك لعصبية ولا عناد، ولئن جاز هذا عليه مع ما وصفناه ليجوزن على جرير (1) والفرزدق (2) والأخطل بل على لبيد وزهير (3) وامرئ القيس (4) حتى لا يصح الاستشهاد بشئ من أشعارهم على غريب القرآن، ولا على لغة، ولا على إعراب، وهذا قول من صار إليه ظهر جهله عند العقلاء.
فصح مما أثبتناه من هذه الأشعار ودلائلها ما ذكرناه من برهان قول
صفحه ۴۲
رسول الله صلى الله عليه وآله على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام والله الموفق للصواب.
تم كتاب أقسام " المولى " وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلم#
صفحه ۴۳