Aqeedah of Loyalty and Disavowal - Al-Muqaddim
عقيدة الولاء والبراء - المقدم
ژانرها
عقيدة الولاء والبراء [١]
الولاء والبراء مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام ومقتضيات (لا إله إلا الله)، فلا يصح إيمان أحد إلا إذا والى أولياء الله، وعادى أعداء الله.
وقد فرطت الأمة الإسلامية اليوم في هذا المبدأ الأصيل، فوالت أعداء الله، وتبرأت من أولياء الله؛ ولأجل ذلك أصابها الذل والهزيمة والخنوع لأعداء الله، وظهرت فيها مظاهر البعد والانحراف عن الإسلام، ولن تعود الأمة إلى سالف مجدها إلا إذا حققت كلمة التوحيد بكل مقتضياتها ومفاهيمها، ومن أعظمها وأجلها مفهوم الولاء والبراء.
1 / 1
تميز حقوق المسلمين فيما بينهم بالولاء الكامل
الحمد لله أحمده حمدًا دائمًا بلا فترة، وأشكره على نعمه التي لا تحصى كثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ندخرها نجاة من عذاب الفترة، وسلامًا من العدو في العسرة واليسرة، نحمده على نعماه، ونصلي على عبده ورسوله محمد الذي اختاره واجتباه، وأحبه وارتضاه، وعظمه وكرمه، ورفعه على من سواه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه.
أما بعد: فقد روى أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده).
هذا الحديث رواه أيضًا ابن ماجة والنسائي عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي ﵁ فقلنا: هل عهد إليك رسول الله ﷺ شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة؟ فقال: لا، إلا ما في كتابي هذا.
قال مسدد: فأخرج كتابًا، وقال أحمد: كتابًا من قراب سيفه، فإذا فيه: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)، وزاد في روايته: (من أحدث حدثًا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
هذا الخبر رواه قيس بن عباد، وهو مخضرم، قال: (انطلقت أنا والأشتر) هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي الكوفي، المعروف بـ الأشتر، أدرك الجاهلية، وكان من أصحاب علي ﵁ من تابعي أهل الكوفة، وشهد مع علي الجمل وصفين ومشاهده كلها، وولاه علي مصر، فلما كان بالقلزم شرب شربة عسل فمات.
وقال العجلي في الأشتر: كوفي تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات.
قوله: (إلى علي) يعني: انصرف إلى علي بن أبي طالب ﵁، (فقلنا: هل عهد إليك رسول الله ﷺ أي: هل أوصاك رسول الله ﷺ (شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا) يعني: فهو عندي ليس عند غيري، قال مسدد: (فأخرج كتابًا) أي: أخرج علي كتابًا، وكان في هذا الكتاب ما خصه النبي ﷺ به، وفي لفظ: (من قراب سيفه، فإذا فيه) يعني في هذا الكتاب، وهو الذي عهد به رسول الله ﷺ إلى علي ﵁ (المسلمون تتكافأ دماؤهم) وفي لفظ: (المؤمنون تكافأ دماؤهم) بحذف إحدى التاءين.
والتكافؤ: التماثل والتساوي، قال في شرح السنة: يريد به أن دماء المسلمين متساوية في القصاص، يقاد الشريف منهم بالوضيع، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل، والمرأة بالرجل، وإن كان المقتول شريفًا أو عالمًا والقاتل وضيعًا أو جاهلًا، ولا يقتل به غير قاتله، وهذا على خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية، كانوا لا يرضون في دم الشريف من دم قاتله الوضيع حتى يقتلوا عدة من قبيلة القاتل.
قوله: (ويسعى بذمتهم) الذمة: هي الأمان، ومنه سمي المعاهد ذميًا؛ لأنه أمن على ماله ودمه بالجزية، (أدناهم) أي: أقلهم، فدخل كل وضيع بالنص، ودخل كل شريف بالفحوى، فإذا كان هذا في حق أدنى المسلمين منزلة فكيف بأشرفهم فمن باب الأولى أن تراعى ذمته.
و(أدناهم) قيل: أقلهم عددًا وهو الواحد، أو أقلهم رتبة وهو العبد، والمعنى: إذا أعطى أدنى رجل من المسلمين أمانًا فليس للباقين إخفاره، أو ليس لهم نقض عهده وأمانه، فلو أن واحدًا من المسلمين أمن كافرًا، حرم على عامة المسلمين دمه، وإن كان هذا المجير أدناهم وأقل المسلمين منزلة، مثل أن يكون عبدًا، أو امرأة، أو عتيقًا، أو أجيرًا تابعًا، أو نحو ذلك، فلا تخفر ذمته.
وفي الجامع الصغير: (فيجير على أمتي أدناهم)، أي: أقلهم منزلة يكون ممن يجير.
وقد روى مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ قوله ﷺ: (إن ذمة المسلمين واحدة)، فإذا أمن واحد من المسلمين كافرًا وأجاره؛ لزم باقي المسلمين أن يراعوا هذا العهد، وهذه الذمة، فلا يعتدي على هذا الذي أمنه أي واحد من المسلمين، حتى ولو كان وضيعًا أو عبدًا أو حتى امرأة، ففي الحديث: (إن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
وروى الشيخان عن أم هانئ ﵂ في عام الفتح قالت: (قلت: يا رسول الله! زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلًا قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله ﷺ: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ).
ثم قال ﷺ: (ويجير عليهم أقصاهم) أي: إذا وجه الإمام سرية فأجاروا أحدًا أجاره أيضًا الإمام.
قوله: (ويرد سراياهم على قعدتهم) أو (يرد متسريهم على قاعدهم) القعيدة: هي الجيوش التي تخرج وتمضي في دار الحرب، فيبعثون سراياهم إلى العدو، فما غنمت يرد منه على القاعدين حصتهم؛ لأنهم كانوا ردءًا لهم، مثلًا: خرج الجيش الإسلامي خارج ديار الإسلام للحرب في ديار المشركين، فسرية جلست تكون ردءًا وحماية ووقاية للذين خرجوا، والأخرى خرجت لقتال الأعداء، فإذا غنم هؤلاء المجاهدون فيرد من الغنيمة على الذين كانوا ردءًا لهم؛ لأنهم خرجوا معهم، وكانوا يحمونهم.
قال ﷺ: (وهم يد على من سواهم) أي: أن المؤمنين يد واحدة على من سواهم من غير المؤمنين، وهذا كأنه دليل لما قبله من الأحكام؛ لأن المؤمنين يد على من سواهم، فهم متعاونون متناصرون، مجتمعون يدًا واحدة على غيرهم من أرباب الملل والأديان، فلا يسع أحدًا منهم أن يتقاعد ويتخاذل عن نصرة أخيه المسلم.
ثم يمضي النبي ﷺ في بيان هذا المعنى وتأكيده فيقول: (يرد مشدهم على مضعفهم) المشد: هو الذي دوابه شديدة قوية، والمضعف: هو الذي دوابه ضعاف، بمعنى: أن القوي من الغزاة يساعد الضعيف فيما يكسبه من الغنيمة، كإنسان كان قويًا في جهاده وفي حربه، فإذا غنم غنيمة فإنه يرد منها على الضعيف الذي يضعف عما يستطيعه هو، فإذا كان الأقوياء والضعفاء في القتال لهم الغنيمة، فيصيرون كلهم فيها شركاء على السوية.
ثم قال ﷺ: ومتسريهم على قاعدهم المتسري: هو الذي خرج من الجيش الذي مضى في السرية إلى قصد قتال العدو، وهم طائفة من الجيش يوجهون في الغزو، ويشترط في القاعد أن يكون قاعدًا في الجيش الخارج للقتال، لا أن يكون مقيمًا في دار الإسلام، بل يكون خرج معهم، لكنهم انقسموا إلى فريقين: فريق ذهب لقتال الأعداء، وفريق مكث يحميهم ويكون ردءًا لهم، وأيضًا هم يشتركون في الغنيمة.
ثم قال: (ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)، ثم قال ﷺ: (من أحدث حدثًا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، وقال النبي ﵊ في حديث آخر: (لعن الله من آوى محدثًا)، والمقصود بالحدث: الخيانة والجرم.
قوله: (فعلى نفسه) أي: من جنى جناية كان مأخوذًا بها، ولا يؤخذ بجريمة غيره، (أو آوى محدثًا) أي: ضمه وحماه، وآوى الجاني من قتله، وحال بينه وبين أن يقام عليه الحد من القصاص أو غيره، فالإيواء: هو التقرير عليه والرضا به.
1 / 2
الولاء والبراء عصب كلمة التوحيد وأساسها
من فضائل سورة (الكافرون) أنها براءة من الشرك؛ ولذلك أمر النبي ﷺ من ينام أن يختم أذكار النوم بقراءة هذه السورة، قال: (فإنها براءة من الشرك)، ومن رحمة الله ﷾ وعظيم لطفه بخلقه، أن جعل هذه الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات السماوية، وجعلها ﷾ كاملة صافية نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك، وكتب تبارك اسمه وتعالى جده السعادة في الدارين لأتباع الرسالة، الذين قدروها حق قدرها، وقاموا بها على وفق ما أراد الله، وعلى هدي نبي الله ﷺ، وسماهم أولياء الله وحزبه، وكتب ﷿ الشقاء والذلة على من حاد عن هذه الشريعة، وتنكب الصراط المستقيم، وسماهم أولياء الشيطان وجنده، وأصل هذه الرسالة وأصل الأصول في دين الإسلام هو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
هذه الكلمة الطيبة التي يقول فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، وأسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد.
حقيقة هذه الكلمة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول ﷺ علمًا، والتصديق به عقدًا، والإقرار به نطقًا، والانقياد له محبة وخضوعًا، والعمل به ظاهرًا وباطنًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وتنال الالتزام بهذا كله وتنال هذا التوحيد بالحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده، والطريق إلى ذلك هو تجريد متابعة الرسول ﷺ ظاهرًا وباطنًا، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله ﷺ.
هذه الكلمة بكل مفاهيمها ومقتضياتها -أو بجل ذلك- قد غابت عن حس الناس اليوم إلا من رحم الله، ومن هذه المفاهيم الأساسية التي ترتبط بهذه الكلمة: مفهوم الولاء والبراء.
1 / 3
بعض مظاهر التفريط في مبدأ الولاء والبراء
من مظاهر الفساد الذي عاث في الأمة وغرقت فيه بعد أن تخلت عن مفهوم الولاء والبراء الأساسي لعقيدة التوحيد أن وقع كثير من المسلمين في محبة الكفار وتعظيمهم ونصرتهم على أولياء الله، وتنحية شريعة الله عن الحكم في الأرض، ورميها بالقشور والجمود، وعدم موافقة العقل والتقدم الحضاري.
ومن هذه المظاهر أيضًا: استيراد القوانين الكافرة شرقية كانت أو غريبة، وإحلالها محل شريعة الله الغراء، وغمز كل مسلم يطالب بشرع الله بالتعفن والرجعية والتخلف والتطرف.
ومن مظاهر هذا أيضًا: التشكيك في سنة رسول الله ﷺ، والطعن في دواوينها الكريمة، والحط من قدر أولئك الرجال الأعلام الذين خدموا هذه السنة حتى وصلت إلينا.
ومن ذلك أيضًا: أن قامت دعوات جاهلية جديدة تعتبر ردة في حياة المسلمين، مثل الدعوة إلى القومية العربية، أو الشورانية، أو الهندية، أو أي نوع من هذه القوميات الجاهلية التي وصفها النبي ﷺ بأنها منتنة.
ومن ذلك أيضًا: إفساد المجتمعات الإسلامية عن طريق وسائل التربية والتعليم، وسموم الغزو الفكري في المناهج الإعلامية والتربوية بكل أصنافها.
أمام هذه الصور الكثيرة يحار المسلم حينما يتأمل في واقع المسلمين، وحينما ينظر في منابع الإسلام الصافية فيتساءل: لمن يكون ولاء المسلم؟ ولمن يكون عداؤه؟ ممن يتبرأ؟ ما حكم من يقع ويتورط في موالاة الكفار واتخاذهم أخدانًا وأصحابًا ورفاقًا؟ وما حكم الإسلام في هذه المناهج الكفرية التي يروج لها المستغفلون أو الحاقدون ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وما هم إلا دعاة على أبواب جهنم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فحصل مسخ في تصورات المسلمين، حتى صار بعضهم يظن أن من أقر بتوحيد الربوبية وبأن هناك إلهًا، وأن مجرد الإيمان بوجود الله يكفي، ويسمون ذلك إيمانًا، حتى إن أحدهم ترجم كتابًا ألفه بعض علماء العلوم الطبيعية وسماه: العلم يدعو إلى الإيمان؛ وأصل الكتاب: الإنسان لا يقوم وحده، وما في الكتاب إلا إثبات توحيد الربوبية، فكل عالم -مثلًا- في التشريح أو في النباتات أو في أي علم من العلوم الطبيعية، يحكي كيف توصل إلى معرفة وجود الله ﷾ عن طريق آيات الله الكونية، وهذا اكتشاف للحقائق، الله ﷾ وضعها في الآفاق وفي أنفسنا لنستدل بها على قدرته، ولنتدرج منها إلى الوصول إلى توحيد العبادة، فكما لا يخلق إلا الله إذًا لا يُعبد إلا الله، كما لا يرزق إلا الله إذًا لا يُعبد إلا الله ﷾ وحده، فكثير من الناس يظن أن اليهودي أو النصراني لأنه مؤمن بوجود الله؛ فإنه بذلك يطلق عليه لفظ الإيمان.
نقول: الله ﷾ مع وجود جزئيات من الإيمان عند الكفار ومع ذلك قال: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة:٢٩]؛ مع أنهم قد يؤمنون باليوم الآخر، قد يؤمنون بالبعث والنشور، لكن الإيمان عبارة عن حقيقة كلية تتركب من أجزاء، وهذه الأجزاء مترابطة فيما بينها ومتشابكة بحيث لا ينفك أحدها عن الآخر، فإذا زال أحدها زال الجميع، ومن أجل ذلك يقول الله ﷿: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء:١٢٣]، مع أنه أتاهم رسول واحد، لكن الكفر برسول واحد يصح أن يطلق على من يتلفظ به أنه كافر بجميع الرسل، وكذلك النصارى لما كفروا بمحمد ﷺ صاروا كالكافرين كفرًا كليًا؛ لأنهم أيضًا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فمن انهدم عنده جزء من هذه الحقيقة الكلية انهدمت حقيقة الإيمان كلها؛ ولذلك قال الله ﷿: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:٢٩].
فالإنسان لا بد أن يفهم من لا إله إلا الله أنه: لا معبود بحق إلا الله ﷾، فالمفهوم الذي يشيع عند كثير من المسلمين أن التوحيد إنما هو توحيد الربوبية، هذا التوحيد كان موجودًا عند مشركي مكة، فقد كانوا يؤمنون بوجود الله؛ لكن كانوا يشركون معه غيره في العبادة.
فكون (لا إله إلا لله) فيها ولاء وبراء، وكون (لا إله إلا الله) معناها: توحيد الألوهية والعبادة، هذه معان كادت أن لا تخطر على كثير من الناس إلا من رحم الله.
فالإنسان لا يستقيم له إسلام، ولا يصح له إسلام، ولو قال بالتوحيد ونفى الشرك عن نفسه، إلا بعداوة المشركين وموالاة المؤمنين، يقول الله ﷾: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة:٢٢]، فأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعادة؛ كالنصرة والأنس والمعاونة والجهاد والهجرة ونحو ذلك.
1 / 4
حال الأمة الإسلامية مع مبدأ الولاء والبراء
لقد تغير لدى كثير من المسلمين في هذا الزمان مفهوم الولاء والبراء، وبعد عهدهم عن فهمه، ونوع هذا الجهل والتفريط في حق هذه الحقيقة لا يغير من هذه الحقيقة الناصعة شيئًا؛ لأن الولاء والبراء هما الصورة الفعلية التطبيقية الواقعية لعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهو مفهوم ضخم في حفظ المسلم لمقدار ضخامة وعظمة هذه العقيدة، ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحقون الولاء، والبراء ممن يستحقون البراء، هذه القضية ليست تندرج -كما يحسب بعض الناس- في القضايا الجزئية أو الثانوية، ولكنها قضية إيمان وكفر، كما قال الله ﷾: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:٢٣ - ٢٤]، وقال ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:٥١].
يقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: إنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم -أي: حكم الولاء والبراء- بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده.
أي: أنه لا يوجد حكم في القرآن بعد التوحيد وتحريم الشرك الذي هو ضد التوحيد، لا يوجد حكم أوضح وأقوى وأكثر أدلة من هذا الحكم، الذي هو موالاة المؤمنين ومعاداة المشركين.
لقد قامت الأمة الإسلامية بقيادة البشرية دهرًا طويلًا، حيث نشأت هذه العقيدة الغراء في ربوع المعمورة وأخرجت بالفعل الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ثم ما الذي حدث بعد ذلك؟ لقد تقهقرت هذه الأمة إلى الوراء، بعد أن تركت الجهاد، وأخذت بأذناب البقر، حينما اشتغلوا بالزرع بمتاهات أمور الدنيا، وتراجعت بعد أن زهدت في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، ثم تبعت الأمم الأخرى وصارت في ذيلها بعد أن ركنت إلى حياة الدعة والرفاهية والبذخ والمجون، ثم تبلبلت الأفكار بعد أن خلطت نبعها الصافي بالفلسفات الجاهلية والهرطقة البشرية، ثم دخلت هذه الأمة في طاعة الكافرين، واطمأنت إليهم، وطلبت صلاح دنياها بذهاب دينها؛ فخسرت الدنيا والآخرة، وموالاة الكفار هي منبع هذا الفساد والخسارة، كما قال الله ﷿: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾ [الأنفال:٧٣] يعني: إلا تراعوا حدود الولاء والبراء، ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال:٧٣].
1 / 5
أدلة الكتاب والسنة على أن الولاء والبراء من صميم عقيدة التوحيد
الولاء والبراء من أعظم لوازم ومقتضيات كلمة لا إله إلا الله، قال الله ﷿: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران:٢٨]، ويقول ﷿: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:٣١ - ٣٢].
ويقول ﷿ مبينًا حقيقة أعداء الله من اليهود والنصارى ومن عداهم من المشركين: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء:٨٩]، معلوم أن الإنسان أحيانًا يكون إنسانًا فاسدًا، أو مستغرقًا في الشهوات والفساد وهو يعلم أن هذا فساد؛ لكن تجد الفاسد يحب أن يفسد غيره، فيكونون سواء في هذا الفساد، فتجده فاسدًا في نفسه، ومفسدًا لغيره حريصًا على إفساده، فهذا من مرض القلب، فالله ﷾ الذي يطلع على قلوب هؤلاء الكفار، يخبر عما في قلوبهم فيقول: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
ويقول ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:٥١]، ويقول ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ [المائدة:٥٤].
أما الأحاديث فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي ﵁: (أن رسول الله ﷺ بايعه وقال له: أن تنصح لكل مسلم، وتبرأ من كل كافر)، كان جرير ممن بايعوا النبي ﷺ بيعة خاصة على النصح لكل مسلم، وعلى أن يبرأ من كل كافر، حتى كان الرجل إذا أراد جرير أن يشتري منه شيئًا، أو باع له سلعة بسعر، وهو يرى أن السعر يستحق أكثر من ذلك، فيراجعه ويعطيه السعر الأغلى عملًا بهذا الحديث، حتى لو كان هو المشتري، فيزيد البائع لو علم أن السلعة تستحق أكثر من الثمن الذي طلبه البائع.
وروى ابن أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله ﷺ: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).
وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس ﵄، أن رسول الله ﷺ قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله).
وعن ابن عباس ﵄ قال: (من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك).
إذًا هذه الأمور من أعظم ما تحصل به مرتبة ولاية الله ﷾: (من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا).
قول ابن عباس ﵄: (ووالى في الله) هذا بيان للازم المحبة في الله؛ لأنه بدأ بقوله: من أحب في الله وأبغض في الله، والتطبيق العملي للحب القلبي أن يوالي في الله وأن يعادي في الله ﷾، فهذا فيه إشارة إلى أن مجرد الحب لا يكفي؛ بل لا بد مع ذلك الحب القلبي من الموالاة باطنًا وظاهرًا؛ لأن هذه هي لوازم المحبة، وهي النصرة والإكرام والاحترام وأن يكون مع المحبوبين باطنًا وظاهرًا.
وقوله: (وعادى في الله) هذا أيضًا لازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه، أي: إظهار العداوة بالفعل والجهاد لأعداء الله، والبراءة منهم، والبعد عنهم باطنًا وظاهرًا، وهذا إشارة من ابن عباس ﵄ إلى أنه لا يكفي مجرد البغض؛ بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، كما قال الله ﷿: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة:٤].
فالولاء في الله: هو محبة الله، ونصرة دينه، ومحبة أوليائه ونصرتهم، والبراء هو بغض أعداء الله ومجاهدتهم، وعلى ذلك جاءت تسمية الشارع الحكيم للفريق الأول: بأولياء الله، وسمى الفريق الثاني: أولياء الشيطان، فقال ﷿: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:٢٥٧]، وقال ﷿: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ [النساء:٧٦].
إن أعداء الله تعالى يريدون بكل ما أوتوا من قوة أن يقضوا على هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام، فنجد الملحدين واليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم من أعداء الله يريدون تغيير عقيدة المسلمين وتجريد شخصيتهم؛ حتى ينفذ مخططهم في جعلهم حميرًا للشعب المختار؛ لأن اليهود يعتقدون أن كل الأمم عندهم عبارة عن حمير خلقوا ليستخدمهم اليهود كالحمير؛ لأنهم شعب الله المختار -زعموا- كما نصت على ذلك بروتوكولات حكماء صهيون.
لقد طارت الدعوات الملحدة والمشبوهة لتقضي على هذا الأصل الأصيل، فنادى قوم بالأخوة وبالإنسانية والمساواة، وأن الدين لله، والوطن ليس لله، ويعبرون عنه بقولهم: الدين لله والوطن للجميع، والله يقول: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [آل عمران:١٨٩].
هذه الأدلة التي أسلفناها من الكتاب والسنة توضح أن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي: ألا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويوالي المؤمنين بأي مكان حلوا، ويعادي الكافرين ولو كانوا أقرب قريب.
1 / 6
مفهوم الولاء والبراء في اللغة والاصطلاح
جاء في لسان العرب: يقول ابن الأعرابي: الموالاة: أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح، ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه، فيقال: قد والاه، ووالى فلان فلانًا إذا أحبه.
والمولى: اسم يطلق على معان كثيرة، منها الرب والمالك، والسيد، والمنعم، والمعتِق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والنزيل، والصهر، والعبد، والمعتَق، والمنعم عليه.
ويلاحظ في كل هذه المعاني أنها تقوم على النصرة والمحبة والولاية في النسب والنصرة والعتق.
والموالاة: من والى القوم موالاة، قال الشافعي في قوله ﷺ: (من كنت مولاه فـ علي مولاه): يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد:١١].
والموالاة: ضد المعاداة، والولي: ضد العدو، يقول الله ﷿ حاكيًا عن إبراهيم ﵇: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم:٤٥].
قال ثعلب: كل من عبد شيئًا من دون الله فقد اتخذه وليًا، وقال ﷿: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة:٢٥٧] أي: وليهم في نصرهم على عدوهم، وإظهار دينهم على دين مخالفيهم، وقيل: يتولى ثوابهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم.
والولي: القرب والدنو، والموالاة: المتابعة، والتولي يكون بمعنى الإعراض، ويكون بمعنى الاتباع، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ [محمد:٣٨] يعني: تعرضوا، ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ [محمد:٣٨]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة:٥١] يعني: يتبعهم وينصرهم.
أما البراء: فيقال: برئ إذا تخلص، وبرئ إذا تنزه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر، ومنه قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة:١] أي: إعذار وإنذار، وفي حديث أبي هريرة ﵁ لما دعاه عمر إلى العمل إلى أن يواليه فأبى أبو هريرة، فقال عمر: إن يوسف قد سأل العمل -أي: لما قال: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:٥٥] فقال أبو هريرة: إن يوسف مني بريء، وأنا منه براء، يعني: أنا بريء عن أن أكون مساويًا له في الحكم، وأن أقاس به، يعني: أنا أقل من أن أقاس بيوسف ﵇، فمعنى البراءة هنا: أنا بريء عن مساواته في الحكم وأن أقاس به، ولم يرد براءة الولاية والمحبة؛ لأنه مأمور بالإيمان به.
والولاء بالمعنى الاصطلاحي: هو النصرة والمحبة والإكرام والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهرًا وباطنًا، كما قال ﷿: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة:٢٥٧]، فموالاة الكفار تعني: التقرب إليهم، وإظهار الود لهم بالأقوال والأفعال والنوايا.
أما البراء بالمعنى الاصطلاحي: فهو البعد والخلاص والعداوة بعد الإنذار والإعذار، يقول شيخ الإسلام: الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد، والولي: القريب، يقال: هذا يلي هذا، أي: يقرب منه، ومنه قوله ﷺ: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر)، يعني: لأقرب رجل إلى الميت.
فإذا كان ولي الله هو الموافق والمتابع له حين يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه؛ كان المعادي لوليه معاديًا له، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة:١]، فمن عادى أولياء الله فقد عادى الله، ومن عادى الله فقد حاربه الله، كما جاء في الحديث القدسي: (من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة).
1 / 7
العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بدأت يوم أمر الله ﷾ الملائكة بالسجود لآدم: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:٣٤]، من يومها قال الله ﷿: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [البقرة:٣٦]، وقال ﷿: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [التغابن:٢]، فتكرر ذكر قصة آدم وإبليس في القرآن في سور كثيرة، في سورة البقرة والأعراف وغيرهما.
وقد حذر الله ﷿ من اتباع إبليس اللعين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة:٢٠٨]، وقال ﷿: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف:٢٧]، وقال ﷿ كاشفًا مخططه: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء:١١٨]، وقال الله ﷿: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس:٥٩ - ٦١]، فأي معصية أو شرك في الوجود إنما هو طاعة لإبليس؛ لأنه هو الذي يزينه وجنوده لعباد الله ﷾، فيوقعهم في الشرك وفي المعاصي.
وما زلنا نقرأ في كتب التفاسير وكتب التوحيد أن هذا هو تفسير عبادة الشيطان، وما كان الإنسان يتخيل أنه فعلًا يوجد أناس يعبدون الشيطان حقيقة، حتى أخبرني من أهل الخبرة أخ حديث عهد بأمريكا، أنه يوجد في بعض البلاد في أمريكا فئة تعبد الشيطان، ويسمون أنفسهم (ديفن) و(ستيفر)، أي: عباد الشيطان، ويذكر هذا الأخ الفاضل أن معهم معابد مخصوصة لها سقوف يعبدون فيها الشيطان، ويأتي بعض المغفلين -للأسف- من أبناء المسلمين أو المحسوبين على المسلمين يسمعون تلك الأغاني الأمريكية الساخرة ويرددونها، مع أن فيها مقاطع من عبادة الشيطان! فهم مثل الببغباوات، يرددون ولا يفقهون ما يقولون، وهو فسق على فسق، وزيادة في الكفر، فأولئك يعبدون الشيطان حقيقة، وهناك معابد لعبادة الشيطان، ولا يستخفون بذلك، وهذا من أعجب ما نسمعه في هذه الأزمان! أما المشهد الأخير الذي يحكيه الله سبحانه الله وتعالى، وهو يقع بين الشيطان وعباده، فهو خطبة إبليس حينما يقف خطيبًا يوم القيامة: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ [إبراهيم:٢٢]، هذا الشرك لم يكن إلا مجرد أن دعاهم فاستجابوا له، كما جاء على لسانه، وكما يقولون: الأشياء تعود لأصلها، فأشباه إبليس يعودون إلى أصلهم وهو إبليس، والذي هو عدو آدم، وأولياء الرحمن وأتباع رسله يعودون إلى آدم.
1 / 8
استمرار العداوة مع الشيطان إلى يوم القيامة
العداوة قائمة منذ اليوم الأول بين آدم وبين إبليس، فهذه الحرب وهذه العداوة قائمة لا تنقطع أبدًا، وأي نوع من الأعداء يمكن أن تكسبه بمعاهدة أو بإحسان إليه، أو بأي شيء: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:٣٤]، إلا الشيطان فإنه لا يجدي معه إلا أن تتخذه عدوًا: ﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر:٦] لا يجري معه أي شيء آخر، ولا يصلح معه أي حيلة ولا معاهدة ولا إحسان ولا أي شيء، سوى أن تتخذه عدوًا كما قال الله ﷿.
أما أشباه إبليس وحزبه فيقول الله في شأنهم: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة:٢١٢]، وقال ﷿ أيضًا في شأنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين:٢٩] إلى آخر الآيات، وقال في المؤمنين: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة:٢٥٧].
فالحرب والعداوة والتميز في الخصائص أمر قائم ومستمر بين الحزبين، حزب الرحمن وحزب الشيطان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: فمن سنة الله أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
أولياء الشيطان بماذا أجابوا المرسلين؟ ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة:١٧٠]، وقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [المائدة:١٠٤]، وقال: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ [النساء:٤٦]، أما المؤمنون: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور:٥١].
ويقول ابن القيم: كل من كذب رسول الله ﷺ، وأعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته، واتبع غير سنته، ولم يتمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والفساد من قلبه، والجحود والكفر من صدره، والعصيان والمخالفة من جوارحه؛ فهو ولي الشيطان.
انتهى كلامه.
إن الحقائق والأدلة المسبقة تبين أن المؤمنين الذين هم أولياء الله لا يلتقون مع أعدائهم في منتصف الطريق بين الكفر والإسلام، أو أن يحيدوا يمينًا وشمالًا؛ بل يقولون كما قال إمامهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة:٤]، هذه هي الغاية الوحيدة التي يمكن أن يتلاقى المؤمنون أولياء الله مع غيرهم بأن يتنازلوا هم ويتراجعوا عن شركهم وكفرهم، ويحققوا معنى لا إله إلا الله، كما ذكرنا.
1 / 9
مظاهر الانحراف من مبدأ الولاء والبراء
فبعض الناس يبدءون مثل هذه البداية، لكن لا يستقيمون على هذا الطريق، فشياطين الإنس يزينون لهم كثيرًا من السبل التي تحرفهم عن هذه الحقيقة الأصيلة من حقائق الإسلام، وهو الولاء والبراء.
1 / 10
التحالف مع الأحزاب العلمانية
ومن ذلك أيضًا -وهو من أشد التلبيس على بعض الجماعات المنحرفة-: التحالف مع الأحزاب العلمانية، وكلمة (علمانية) أعتقد أنها كلمة مخفية جدًا لأكثر الحقائق، ويترجمونها بتعبير أشد فيقولون: اللادينية؛ لكن هي في الحقيقة الكفر الصراح، والعلمانية تعني رفض الأديان، وفصل الدين عن الحياة، وجعل الدين عبارة عن قضية شخصية بين العبد وربه، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله! فالعلمانية ما هي إلا كفر؛ بل هي أقصر الطرق الموصلة إلى الكفر، فهذا أيضًا من الضلال المبين والانحراف الخطير الذي شوش على عقيدة عوام المسلمين، وغير هذا الحد المتميز وهو موالاة المسلمين ومعاداة الكافرين، وقضى على هذا الأصل الأصيل من ملة إبراهيم ﵇: ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ [الممتحنة:٤]، فكيف نضع أيدينا بأيدي حزب الوفد أو الأحرار أو غيرهم من أحزاب الشيطان؟! هل أعلنوا أن إحدى مطالبهم في الحياة هي نصرة دين الإسلام؟
الجواب
لا.
إذًا: هذه التحالفات هي من الجهل ومن السفاهة، ومن الانحراف في فهم أصل الإسلام الأصيل، ألا وهو عقيدة التوحيد ولوازمها من البراءة من المشركين وموالاة المؤمنين.
1 / 11
الدعوة إلى تقارب الأديان
لذلك نجد من يدعو إلى تقارب الأديان، وأن الأديان كلها شيء واحد، ومن يدعو إلى الأخوة الإنسانية، وعدم التعصب، ونحو هذه الدعوات المعروفة؛ بل بعض الناس من المسلمين الجهلة يتصورون ويدعون إلى أنه يمكن فعلًا أن يتوحد المسلمون مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى من أجل مواجهة الإلحاد! وكأن الذي هم عليه ليس بإلحاد؛ بل مع أن عبادة المسيح، وسب الله ﷾ -كما عند اليهود- والتكذيب برسله وقتلهم، هذا من شر الإلحاد والكفر.
فهذا من التلبيس، ولا يمكن أبدًا أن يتلاقى المؤمنون مع الكافرين، فمحاولة الالتقاء هذا جهل بحقيقة هذا التوحيد، وبحقيقة الولاء والبراء التي هي أصل أصيل من أصول الإيمان، فلا يمكن أبدًا أن يلتقي المؤمنون مع الكتابيين مثلًا من أجل محاربة الإلحاد؛ لأن الله أخبر عنهم فقال: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء:٨٩]، وقال ﷿: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة:١٠٥]، وقال ﷿ خبر صادق: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة:١٢٠]، وأيضًا نحن لا نواليهم حتى يؤمنوا بالله وحده.
1 / 12
وجوب البراءة من المشركين وعداوتهم
لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحد الله وترك الشرك- إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغض، كما قال الله ﷿: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا﴾ [المجادلة:٢٢] يعني: لا يمكن أن تجد قومًا ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة:٢٢].
إن هذه البراءة من المشركين هي القاسم المشترك بين كل الملل غير دين الإسلام، كل ما سوى الإسلام القاسم المشترك بينها: أننا نعاديهم في الله، ونتبرأ منهم ومن طريقتهم، مهما كانت أصنافهم من مشركين وكفار ومنافقين.
فطبيعة المنهج الإسلامي تعكس طبيعة التعارض والتنافر الصريح بين منهجين في الحياة لا التقاء بينهما في صغيرة ولا كبيرة، فكما يصر المؤمنون على التمكين لدينهم في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ كذلك يصر الكفار على سحق المنهج الرباني الذي يهدد وجودهم ومنهاجهم: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة:٢١٧]، فليس للمشركين همٌّ ولا شغل إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم، وهم يبذلون في سبيل ذلك الأموال الطائلة: ﴿فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [الأنفال:٣٦].
أما المشركون فقد أخبرنا الله عن دخيلة في قلوبهم، وعما في صدورهم، فقال الله ﷿: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:٣٢ - ٣٣]، وقال ﷿: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة:١٠٥]، أما في أهل الكتاب فقال ﷿ مخبرًا عما في قلوبهم تجاه المسلمين: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة:١٢٠]، وقال ﷿: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة:٨٢] ما علة ذلك؟ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة:٨٢]، القسيسون: هم العلماء، والرهبان: هم العباد.
قوله: «وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» يعني: إذا سمعوا القرآن آمنوا به وتواضعوا للحق لما جاءهم، فهذا وصف فيمن أسلم ودخل في دين الإسلام، أما من أعرض عن القرآن من النصارى أو من غيرهم فإنه يدخل في قوله تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:٢٧٥].
وقال ﷿: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ [النساء:٤٤]، وقال ﷿: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ [آل عمران:١١٩].
وقال في المنافقين: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة:٩]، وقال فيهم: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة:١٦]، وقال أيضًا: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون:٧ - ٨].
فجاء الرد الحاسم والحازم تجاه هذه المؤامرات من أعداء الله: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ [البقرة:١٢٠]، هذا أسلوب حصر وقصر للهدى فيما جاء به الله ﷿، فما عداه ليس بهدى.
فحقيقة العداوة هي اختلاف الدينين، وافتراق المنهجين: إما اتباع دين الله، أو اتباع ملة الكفر والطغيان.
بعض الناس يتصور أن المسلمين قضيتهم فقط إقامة الحدود، فإذا استجاب الحكام لهذه المطالب، بأن تقطع يد السارق، ويجلد الشارب، ويرجم الزاني وهكذا، فإن القضية قد انتهت القضية ليست مساومة على بعض المطالب، القضية هي أنه لا بد أن يكون هناك إسلام لله ﷾، أن ينقاد كل الناس لله تعالى ولشرعه، وليس مجرد الأخذ بجزئيات من الشريعة والإعراض عنها من الجانب الآخر.
فالقضية قضية إسلام لله، وليس الإسلام المقيد ببعض جزئيات الإسلام، وهذه المطالب لا شك أنها إسلامية، وواجبات من واجبات الأمة الإسلامية؛ لكن المشكلة أن هذه هي هدفنا في هذه الحياة، قد يجاملنا البعض بذكر آيات من القرآن أو يتبرك بها، أو يقيم بعض الحدود، فنرضى منه بذلك، كما يقولون: يركب الموجة لأن هذا يرضي الناس، وهذا كما نرى اليوم في بعض معارض الملابس يقول لك: هذه ملابس المحجبات، مع أنه حجاب نصفي، ليس هو الحجاب الذي أراده الله، بل هي كما يقولون: موضة إسلامية! يحاولون أن يصرفوا المرأة ويحرفوها عن الطريق الصحيح.
فالقضية ليست قضية أحكام محددة، لكن القضية قضية شريعة في حالة إعراض عنها، ونبذ لها وراء ظهورهم، هذه هي القضية، فلا بد من إسلام لله ﷾ بالمعنى الشامل للإسلام، وليس مجرد هذه الجزئيات، فلا نحصر همنا في أشياء محدودة، ولكن الأمر والقضية أوسع من ذلك وأكبر من ذلك، فإما دين الله واتباع شرعه، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، أو دين باطل، واتباع الهوى والشهوات، والانضمام إلى حزب الشيطان، فعلى أولياء الرحمن أن يستعلوا بدينهم، وأن يعتزوا بهذا الدين فوق وطأة الباطل، فإنهم هم المنصورون، يقول الله ﷿: (من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)، وقال ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:١٢٨]، وقال سبحانه: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال:١٢]، وقال ﷿: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد:١١].
1 / 13
تنبيهات تتعلق بمبدأ الولاء والبراء
هنا بعض التنبيهات التي تتعلق بقضية الولاء والبراء، منها:
1 / 14
وجوب موالاة المؤمن لأخيه ولو ظلمه وأساء إليه
الأمر الثاني: أن المؤمن يوالي أخاه المؤمن والمسلم حتى ولو ظلمه أخوه؛ لأن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، ولا يقضي على الأخوة الإسلامية، يقول الله ﷿: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات:٩]، ويقول الله ﷿ بعد ذلك: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات:١٠]، فمع وقوع الاقتتال أثبت الأخوة الإيمانية، فالقتال قد يكون فيه ظالمًا ومظلومًا، ومع ذلك لا تنقطع الأخوة الإيمانية؛ لأنه ما زال في دائرة الإسلام والإيمان، فالمسلم الذي ظلمك لا تساوه بالكافر، حتى وإن أحسن إليك الكافر وعدل معك، فهذا الكافر ليس معه أعظم شعب الإيمان، وهو لا إله إلا الله، فهو منجس ومقذر بأقذر شيء في الوجود وهو الشرك، فهذا الكافر لا يستوي بالمسلم أبدًا، حتى ولو تلبس المسلم ببعض المعاصي.
ولكننا نجد بعض الناس المخذولين، الذين خذلهم الله ولم يوفقهم إلى هذا الفهم، يفضلون الكافر على المسلم لمجرد أن يصدر من المسلم معصية أو تقصير في جانب معين، وقد يخادعه الكافر في نوع من الإحسان بصورة أو بأخرى فيقول: انظر الكافر نفعني أفضل من المسلم، النصارى أحسن من المسلمين وهكذا!! فيخذل وينطق الشيطان على لسانه بهذه الكلمات العظيمة، فالمشرك ولو عدل معك وأحسن إليك فهو أعدى عدو للناس، يقول الله ﷿: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت:٦ - ٧]، يعني: زكاة قلوبهم من هذا الشرك، لا يطهرون قلوبهم من الشرك، فالمشرك أقذر مخلوق في الوجود، حتى لو بدا جسده في أنظف صورة؛ لأنه نجس بأعظم شيء في الوجود: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة:٢٨]، فينبغي الالتفات إلى هذا المعنى.
1 / 15
موالاة المؤمنين ومعاداتهم بحسب ما فيهم من الخير والشر
أيضًا: إذا اجتمع في الرجل الواحد شر وخير، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، فهذا خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فهو يستحق من الموالاة بقدر ما فيه من الخير، ويستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فقد يجتمع في الإنسان الواحد بعض موجبات الإكرام وبعض موجبات الإهانة.
فالمسلم مثلًا قد تقطع يده بسبب سرقته؛ ولكنه مع ذلك يعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، والدليل على هذا المعنى وهو أن المسلم قد يحب من وجه ويبغض من وجه، يحب لإسلامه ويبغض لفسقه أو بدعته أو معصيته، حديث عبد الله بن حمار، الذي كان يضحك الرسول ﷺ، وكان يؤتى به كثيرًا وقد شرب الخمر، فكان يقام عليه الحد، والمفروض أن الإنسان متى أقيم عليه الحد فلا يعير به ولا يشنع عليه، ولا يلام؛ لأن هذا الحد يطهره من المعصية، فلما أتي به يومًا قال رجل من الحاضرين: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي ﷺ: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله).
1 / 16
البراءة من كل من حاد الله ورسوله
أولًا: أن المؤمن يتبرأ ممن حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب إليه؛ لقول الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:٢٣ - ٢٤].
وقال ﷿: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة:٥٥ - ٥٦]، وقال ﷿: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ﴾ [التوبة:٧١].
فهذا هو التنبيه الأول: أن المؤمن يتبرأ ممن حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب إليه، وجاء في تفسير قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:٧٨ - ٧٩]، يخبر النبي ﷺ في بعض الأحاديث أن أول ما دخل الشر والنقص على بني إسرائيل: (أن الرجل منهم كان يلقى أخاه على ما يكره على معصية الله، فيقول: يا أخي! اتق الله ودع هذا؛ فإن هذا لا يحل لك، ثم يأتيه من الغد فيجده على نفس الحالة التي كان عليها بالأمس، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده)، يعني: بمذهب صيغة المبالغة، قال:) فيتمادى في مؤاكلته ومشاربته ومجالسته، ولا يغضب لله، ولا يتمعر وجهه في سبيل الله، فمن أجل ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم كما ذكر في كتابه).
1 / 17
عقيدة الولاء والبراء [٢]
من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فيجب محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين والمنافقين والبراءة منهم، ومن خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فإنه يحب من وجه ويبغض من آخر، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
2 / 1
البراءة من أهل البدع
البراءة من أهل البدع تكون بعدم توقيرهم، وعدم الإنصات لهم، وعدم السماح لهم بنشر بدعتهم في الناس.
عن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح بابًا من أبواب القدر فتكلم فيه، فقال له ابن سيرين: إما أن تقوم، وإما أن أقوم.
وعن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لـ أيوب: أكلمك بكلمة؟ قال: لا.
ولا بنصف كلمة.
وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي داود وكنت في جنازته، حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس وجاء الثوري فقال الناس: جاء الثوري، فجاء حتى خرق الصفوف، والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة، ولم يصل عليه؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء.
وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة.
وعن سعيد الثوري قال: مرض سفيان الثوري فبكى في مرضه بكاءً شديدًا، فقيل له: ما يبكيك أتجزع من الموت؟ قال: لا.
ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه.
وعن فضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه.
وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.
وعنه قال: إذا رأيت مبتدعًا في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله ﷿ عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكرًا، الحمد الله الذي أماته، هكذا قالوا.
وعن محمد بن أسلم قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن الحسن قال: لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك.
وعن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا، وإني واثق بنفسي، فمن يأمن بغير الله على دينه طرفة عين سلبه إياه.
يعني: من أمن على إيمانه سلبه الله هذا الإيمان.
وقال الأوزاعي: لا تمكنوا صاحب بدعة من جبل فيورث قلوبكم من فتنته ارتيابًا.
وعن أيوب قال: لقيني سعيد بن جبير فقال: ألم أرك مع طلق؟ قلت: بلى، فما له؟ قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب: وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للرجل المسلم إذا رأى من أخيه شيئًا يكرهه أن ينصحه.
هذه بعض النصوص في ذم أهل البدع، وفي معاداتهم.
2 / 2
مراحل الولاء والبراء في الدين الإسلامي
لقد مر مبدأ الولاء والبراء بمراحل كثيرة في مكة وفي المدينة، نشير إليها باختصار: لقد أمر المسلمون في مكة بالكف عن المشركين، والصبر والإعراض عنهم، إلى أن انتهت هذه المرحلة بنزول سورة الكافرون: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون:١ - ٢] إلى آخر السورة التي هي براءة من الشرك.
أما في العهد المدني فقد تمكنت موالاة المسلمين في مؤاخاة النبي ﷺ بين الأوس والخزرج، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، حتى كانوا يتوارثون، وتعرض المسلمون لكيد أهل الكتاب، وكيد المنافقين، فأمروا بالبراءة منهم وعداوتهم.
2 / 3