فقالت: إن داءهم الأنانية، وإن بلاءهم في نصف بصيرتهم ونصف سمعهم، أجل إن أكثرهم لذو عين واحدة وأذن واحدة، وإنهم إذا ما نظروا إلي لا يرون غير نصفي الأدنى. ومنهم من لا يرى غير جزء منه، وإذا هم أنصتوا لي فلا يسمعون غير صدى كلماتي العالية. فخير لهم وهذه حالهم أن يناجوا شياطينهم، من أن يطوفوا حول معبدي، ويرددون القوافي القديمة المصدئة في المديح والرثاء، وبعد ذلك يتأوهون وينتحبون. - ربة الشعر، حلمك ربة الشعر، التساهل منك. - ويحك أتسألني التساهل. وهل تريد أن لا أبالي؟ معاذ الله أن أنكر أبنائي، وإن كان فيهم من عجائب المخلوقات، ذوي النصف البصيرة، والأذن الواحدة. معاذ الله أن أنكر عبادي وإن كانوا من أهل الندب والنحيب. ولكني أخشى مثلك على عرشي من دموعهم وأخشى على قيثارتي من أنانيتهم. هم أبنائي ورب الكائنات. ولكني وأنا أمهم، وإن ضلوا السبيل إلي، وربة وحيهم وإن جهلوا في أكثر الأحايين مصادره القدسية - أخشى أن أركب خيالهم، فأحسب نفسي كما يحسبون أنفسهم، محور الكون وركنه الأعظم ...
فقلت: ومن أين يجيئهم هذا الخيال إن لم يكن من وحيك الأسمى؟
فقالت: هو من وحي الشيطان، لا من وحيي، معاذ الله أن يكون في وحيي شيء من الوهم والضلال، معاذ الله أن أضلل أولادي، فأوردهم التهلكة وأحرمهم الخلود. هذا بالرغم عما أقاسي منهم ومن قوافيهم. صدقني يا بني إن أبنائي الصينيين وإخوانهم الجاويين هم اليوم أقرب إلى قلبي وإلى فهمي من إخوانك الناطقين بالضاد المتكبرين المفاخرين، المرددين أصوات الأولين، الطامعين بالإمارات والنياشين.
فقلت: وهل كلهم سواء؟
فقالت: لا، يا بني. ولكن كلهم مزعج. كلهم يزعجون أمهم، ويغيظونها. وماذا يبتغون مني؟ اسمع وع. يصيح الواحد منهم في نظمه قائلا: افتحي لي أبواب وحيك. وهو يظن أن أبواب الوحي المفتوحة لأبنائي في العالم أجمع على الدوام، إنما هي في كتب القريض والدواوين. فيهرول إليها فيفتحها فرحا، ويكد القريحة طالبا جامعا حافظا. وهو يعتقد أني دليله وهداه، أحمل له مصباح الوحي في سراديب الأوزان والقوافي، وفي مثل هذا يتنافس وإخوانه، وعندما يغلق عليهم يلجأون إلى القاموس فأفر منهم هاربة فينادوني ثم ينادوني، وبالدواوين يرموني ليرشوني، وهم دائما يفاخرون بلا خجل ويكابرون، وبعد ذلك يجهشون ويبكون.
فقلت: شأن الأطفال وأمهم الحنون.
فقالت: أخطأت يا بني لست بالأم الحنون، وليس الحب مزيتي الكبرى، لا ورب الكائنات أنا أم ولا كالأمهات، فمن له بصيرتان من أبنائي بصيرة مادية وبصيرة روحية أدخله قلبي، ومن له بصيرة واحدة أدخله معبدي، ومن ليس لهم غير نصف بصيرة أتركهم في ذرا المعبد يلعبون. - ربة الشعر رحماك. - استرحم رب العالمين. - وهل في الوجود كله أبلغ منك رسولا وأبر منك وسيطا لديه تعالى. - نعم هناك العالم.
ولكن العالم لا قلب له أو أن قلبه يابس، وإن علمه فوق ذلك لا يدوم على حال، أما أنت فإنك في وحيك دائمة خالدة؛ قلبا وروحا وعقلا. - وكذلك هو الفيلسوف. - ولكن فينا من يرفعك حتى على الفلاسفة، وقد علمتنا ربة التاريخ أن للفلسفة حدودا وإن اتسعت من زمن إلى زمن، وإن الفلاسفة هم غالبا مثل العلماء ذوو بصيرة واحدة وقلوبهم يابسة، أما الشاعر «ذو البصيرتين»؛ ذاك الذي «تدخلينه قلبك»؛ فهو أقرب المقربين إليه تعالى بل هو في مقدمة الخالدين، وإن في ذلك فخرك وفخر العالمين.
قلت هذا، وبادرت إلى ثوبها أقبل ردنه؛ فمالت بوجهها إلى المشرق وهي تبتسم ابتسامة الرضى، ثم مدت يدها إلى القمر الطالع من وراء ربوة عند قدميها؛ فازداد نوره ضياء فسربلها وخفاها عن ناظري.
الشاعر والوطن
صفحه نامشخص