غريب على الخليج
مرحى غيلان
أغنية في شهر آب
غارسيا لوركا
تعتيم
المخبر
عرس في القرية
مرثية الآلهة
من رؤيا فوكاي
قافلة الضياع
يوم الطغاة الأخير
إلى جميلة بوحيرد
رسالة من مقبرة
في المغرب العربي
مرثية جيكور
تموز جيكور
جيكور والمدينة
العودة لجيكور
رؤيا في عام 1956
قارئ الدم
ثعلب الموت
المبغى
النهر والموت
المسيح بعد الصلب
مدينة السندباد
أنشودة المطر
سربروس في بابل
مدينة بلا مطر
بور سعيد
المومس العمياء
حفار القبور
الأسلحة والأطفال
غريب على الخليج
مرحى غيلان
أغنية في شهر آب
غارسيا لوركا
تعتيم
المخبر
عرس في القرية
مرثية الآلهة
من رؤيا فوكاي
قافلة الضياع
يوم الطغاة الأخير
إلى جميلة بوحيرد
رسالة من مقبرة
في المغرب العربي
مرثية جيكور
تموز جيكور
جيكور والمدينة
العودة لجيكور
رؤيا في عام 1956
قارئ الدم
ثعلب الموت
المبغى
النهر والموت
المسيح بعد الصلب
مدينة السندباد
أنشودة المطر
سربروس في بابل
مدينة بلا مطر
بور سعيد
المومس العمياء
حفار القبور
الأسلحة والأطفال
أنشودة المطر
أنشودة المطر
تأليف
بدر شاكر السياب
غريب على الخليج
الريح تلهث بالهجيرة، كالجثام، على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار
من كل حاف نصف عاري
وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج
ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج
أعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج
صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى عراق
كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق!
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانه
هي دورة الأفلاك من عمري، تكور لي زمانه
في لحظتين من الزمان، وإن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يئوب
من الدروب
وهي المفلية العجوز وما توشوش عن «حزام»
1
وكيف شق القبر عنه أمام «عفراء» الجميله
فاحتازها ... إلا جديله
زهراء، أنت أتذكرين
تنورنا الوهاج تزحمه أكف المصطلين؟
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين؟
ووراء باب كالقضاء
قد أوصدته على النساء
أيد تطاع بما تشاء؛ لأنها أيدي رجال
كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال
أفتذكرين؟ أتذكرين؟
سعداء كنا قانعين
بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء
حشد من الحيوات والأزمان، كنا عنفوانه
كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه
أفليس ذاك سوى هباء؟
حلم ودورة أسطوانه؟
إن كان هذا كل ما يبقى فأين هو العزاء؟
أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه
يا أنتما، مصباح روحي أنتما - وأتى المساء
والليل أطبق، فلتشعا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب إلي ما كمل اللقاء!
الملتقى بك والعراق على يدي هو اللقاء!
شوق يخض دمي إليه، كأن كل دمي اشتهاء
جوع إليه ... كجوع كل دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولاده!
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق
وا حسرتاه، متى أنام
فأحس أن على الوساده
من ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق؟
بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبه
غنيت تربتك الحبيبه
وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه
فسمعت وقع خطى الجياع تسير، تدمى من عثار
فتذر في عيني، منك ومن مناسمها، غبار
ما زلت أضرب، مترب القدمين أشعث، في الدروب
تحت الشموس الأجنبيه
متخافق الأطمار، أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل وحمى: ذل شحاذ غريب
بين العيون الأجنبيه
بين احتقار، وانتهار، وازورار أو «خطيه»
2
والموت أهون من «خطيه»
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبيه
قطرات ماء ... معدنيه!
فلتنطفي، يا أنت، يا قطرات، يا دم، يا نقود
يا ريح، يا إبرا تخيط لي الشراع، متى أعود
إلى العراق؟ متى أعود؟
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
بي الخليج، ويا كواكبه الكبيرة ... يا نقود! •••
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض، بلا بحار!
ما زلت أحسب يا نقود، أعدكن وأستزيد
ما زلت أنقص، يا نقود، بكن من مدد اغترابي
ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي وبابي
في الضفة الأخرى هناك فحدثيني يا نقود
متى أعود؟ متى أعود؟
أتراه يأزف، قبل موتي، ذلك اليوم السعيد؟
سأفيق في ذاك الصباح، وفي السماء من السحاب
كسر، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب
وأزيح بالثؤباء بقيا من نعاسي كالحجاب
من الحرير، يشف عما لا يبين وما يبين
عما نسيت وكدت لا أنسى، وشك في يقين
ويضيء لي، وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي
ما كنت أبحث عنه في عتمات نفسي من جواب
لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب؟
اليوم - واندفق السرور علي يفجؤني - أعود! •••
وا حسرتاه ... فلن أعود إلى العراق!
وهل يعود
من كان تعوزه النقود؟ وكيف تدخر النقود
وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما يجود
به الكرام على الطعام؟
لتبكين على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك، دون جدوى، للرياح وللقلوع!
الكويت 1953
مرحى غيلان
«بابا ... بابا» •••
ينساب صوتك في الظلام، إلي، كالمطر الغضير
ينساب من خلل النعاس وأنت ترقد في السرير
من أي رؤيا جاء؟ أي سماوة؟ أي انطلاق؟
وأظل أسبح في رشاش منه، أسبح في عبير
فكأن أودية العراق
فتحت نوافذ من رؤاك على سهادي كل واد
وهبته عشتار الأزاهر والثمار كأن روحي
في تربة الظلماء حبة حنطة وصداك ماء
أعلنت بعثي يا سماء
هذا خلودي في الحياة تكن معناه الدماء ••• «بابا» كأن يد المسيح
فيها، كأن جماجم الموتى تبرعم في الضريح
تموز عاد بكل سنبلة تعابث كل ريح ••• «بابا ... بابا»
أنا في قرار بويب
1
أرقد، في فراش من رماله
من طينه المعطور والدم من عروقي في زلاله
ينثال كي يهب الحياة لكل أعراق النخيل
أنا بعل أخطر في الجليل
على المياه، أنث في الورقات روحي والثمار
والماء يهمس بالخرير، يصل حولي بالمحار
وأنا بويب أذوب في فرحي وأرقد في قراري ••• «بابا ... بابا»
يا سلم الأنغام، أية رغبة هي في قرارك؟ «سيزيف» يرفعها فتسقط للحضيض مع انهيارك
يا سلم الدم والزمان من المياه إلى السماء
غيلان يصعد فيه نحوي، من تراب أبي وجدي
ويداه تلتمسان - ثم - يدي وتحتضنان خدي
فأرى ابتدائي في انتهائي «بابا ... بابا»
جيكور
2
من شفتيك تولد، من دمائك، في دمائي
فتحيل أعمدة المدينة
أشجار توت في الربيع ومن شوارعها الحزينه
تتفجر الأنهار، أسمع من شوارعها الحزينه
ورق البراعم وهو يكبر أو يمص ندى الصباح
والنسغ في الشجرات يهمس، والسنابل في الرياح
تعد الرحى بطعامهن
كأن أوردة السماء
تتنفس الدم في عروقي والكواكب في دمائي
يا ظلي الممتد حين أموت، يا ميلاد عمري من جديد
الأرض (يا قفصا من الدم والأظافر والحديد
حيث المسيح يظل ليس يموت أو يحيا كظل
كيد بلا عصب، كهيكل ميت، كضحى الجليد
النور والظلماء فيه متاهتان بلا حدود)
عشتار فيها دون بعل
والموت يركض في شوارعها ويهتف يا نيام
هبوا، فقد ولد الظلام
3
وأنا المسيح، أنا السلام
والنار تصرخ يا ورود تفتحي، ولد الربيع
وأنا الفرات، ويا شموع
رشي ضريح البعل بالدم والهباب وبالشحوب
والشمس تعول في الدروب
بردانة أنا والسماء تنوء بالسحب الجليد ••• «بابا ... بابا»
من أي شمس جاء دفؤك أي نجم في السماء؟
ينسل للقفص الحديد، فيورق الغد في دمائي؟
أغنية في شهر آب
تموز يموت على الأفق
وتغور دماه مع الشفق
في الكهف المعتم والظلماء
نقالة إسعاف سوداء
وكأن الليل قطيع نساء
كحل، وعباءات سود
الليل خباء
الليل نهار مسدود •••
ناديت مربية الأطفال الزنجيه
الليل أتى يا مرجانه
فأضيئي النور وماذا؟ إني جوعانه
و... نسيت، أما من أغنيه؟
بم يهذر هذا المذياع؟
في لندن، موسيقى جاز، يا مرجانه
فإليها، إني فرحانه
والجاز من الدم إيقاع •••
تموز يموت ومرجانه
كالغابة تربض بردانه •••
وتقول، ويخذلها النفس: «الليل، الخنزير الشرس
الليل شقاء!»
مرجانة هل قرع الجرس
فتقول، ويخذلها النفس : «في الباب نساء»
وتعد القهوة مرجانه •••
وعلى الأكتاف البيض فراء
الذئب يدثر إنسانه
وعلى الأثداء من النمر
شرق يتسلسل، ملء الغاب، من الشجر
والليل يطول مع السمر
الليل كتنور من أشباح البشر
خبز يتنشق نيرانه
والضيفة تأكل جوعانه
من هذا الزاد ومرجانه
كالغابة تربض بردانه •••
والضيفة تضحك وهي تقول: «خطيب سعاد
جافاها، وانطوت الخطبه!
الكلب تنكر للكلبه»
تموز يموت بدون معاد
والبرد ينت من القمر
فتلوذ بمدفأة من أعراض البشر
والليل يطفئ شطآنه
والضيفة تقبع بردانه
وفراء الذئب تغطيها
وتطفأت النيران اللاتي كانت بالدم تذكيها •••
ليل وجليد
يتساقط عبرهما صوت، رنات حديد
وعواء ذئاب يخفيها
الصوت بعيد
والضيفة مثلي بردانه •••
فتعال وشاركني بردي
بالله تعال
يا زوجي، ها إني وحدي
والضيفة مثلي بردانه
فتعال تعال
فأمامك وحدك أقدر أن أغتاب الناس بلا استثناء
بالله تعال
فالناس كثير والظلماء
نقالة موتى سائقها أعمى، وفؤادك جبانه.
غارسيا لوركا
في قلبه تنور
النار فيه تطعم الجياع
والماء من جحيمه يفور
طوفانه يطهر الأرض من الشرور
ومقلتاه تنسجان من لظى شراع
تجمعان من مغازل المطر
خيوطه، ومن عيون تقدح الشرر
ومن ثدي الأمهات ساعة الرضاع
ومن مدى تسبل منها لذة الثمر
ومن مدى للقابلات تقطع السرر
ومن مدى الغزاة وهي تمضغ الشعاع
شراعه الندي كالقمر
شراعه القوي كالحجر
شراعه السريع مثل لمحة البصر
شراعه الأخضر كالربيع
الأحمر الخضيب من نجيع
كأنه زورق طفل مزق الكتاب
يملأ مما فيه، بالزوارق النهر
كأنه شراع كولمبس في العباب
كأنه القدر.
تعتيم
حين يذر النور
يلقي به التنور
عن وجهك الظلماء
ويهمس الديجور
آهاته السمراء
على محياك
تهجس عيناك
بكل حزن الدهور
وكل أعيادها
أفراح ميلادها
وغمغمات النذور
وزهرها والخمور! •••
النور والظلماء
أسطورة منحوتة في الصخور
كم ذاد بالنار
من أسد ضاري
وكم أخاف النمور
إنسان تلك العصور
بالنور والنار!
فأطفئي مصباحنا أطفئيه
ولنطفئ التنور
وندفن الخبز فيه
كي لا تعيد الصخور
أسطورة للنار، ظلت تدور
حتى غدا أول ما فيها
آخر ما فينا، وليل القبور
أول ما فيها
ولنبق في الديجور
كي لا ترانا نمور
تجوس في الظلماء
لترجم الأحياء
من غابة في السماء
بالصخر والنار
وتستبيح القبور!
المخبر
أنا ما تشاء أنا الحقير
صباغ أحذية الغزاة، وبائع الدم والضمير
للظالمين أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ. أنا الدمار، أنا الخراب!
شفة البغي أعف من قلبي، وأجنحة الذباب
أنقى وأدفأ من يدي كما تشاء ... أنا الحقير!
لكن لي من مقلتي - إذا تتبعتا خطاك
وتقرتا قسمات وجهك وارتعاشك - إبرتين
ستنسجان لك الشراك
وحواشي الكفن الملطخ بالدماء، وجمرتين
تروعان رؤاك إن لم تحرقاك!
وتحول دونهما ودونك بين كفي الجريده
فتند آهتك المديده
وتقول: «أصبح لا يراني.» بيد أن دمي يراك
أني أحسك في الهواء وفي عيون القارئين
لم يقرءون لأن تونس تستفيق على النضال؟
ولأن ثوار الجزائر ينسجون من الرمال
ومن العواصف والسيول ومن لهاث الجائعين
كفن الطغاة؟ وما تزال قذائف المتطوعين
يصفرن في غسق القنال؟
لم يقرءون وينظرون إلي حينا بعد حين
كالشامتين؟
سيعلمون من الذي هو في ضلال
ولأينا صدأ القيود ... لأينا صدأ القيود
لأينا
نهض الحقير
وسأقتفيه فما يفر، سأقتفيه إلى السعير
أنا ما تشاء أنا اللئيم، أنا الغبي، أنا الحقود
لكنما أنا ما أريد أنا القوي، أنا القدير
أنا حامل الأغلال في نفسي، أقيد من أشاء
بمثلهن من الحديد، وأستبيح من الخدود
ومن الجباه أعزهن، أنا المصير، أنا القضاء
الحقد كالتنور في إذا تلهب بالوقود
الحبر والقرطاس، أطفأ في وجوه الأمهات
تنورهن، وأوقف الدم عن ثدي المرضعات
في البدء كان يطيف بي شبح يقال له: الضمير
أنا منه مثل اللص يسمع وقع أقدام الخفير
شبح تنفس ثم مات
واللص عاد هو الخفير
في البدء لم أك في الصراع سوى أجير
كالبائعين حليبهن، كما تؤجر - للبكاء
ولندب موتى غير موتاهن - في الهند النساء
قد أمعن الباكي على مضض، فعاد هو البكاء! •••
الخوف والدم والصغار فأي شيء أرتجيه؟
فعلى يدي دم وفي أذني وهوهة الدماء
وبمقلتي دم، وللدم في فمي طعم كريه!
أثقل ضميرك بالآثام فلا يحاسبك الضمير
وانس الجريمة بالجريمة والضحية بالضحايا
لا تمسح الدم عن يديك فلا تراه وتستطير
لفرط رعبك أو لفرط أساك واحتضن الخطايا
بأشد ما وسع احتضان تنج من وخز الخطايا •••
قوتي وقوت بني لحم آدمي أو عظام
فليحقدن علي، كالحمم المستعرة، الأنام
كي لا يكونوا إخوة لي آنذاك، ولا أكون
وريث قابيل اللعين، سيسألون
عن القتيل فلا أقول: «أأنا الموكل - ويلكم - بأخي؟» فإن المخبرين
بالآخرين موكلون! •••
سحقا لهذا الكون أجمع وليحل به الدمار!
ما لي وما للناس؟ لست أبا لكل الجائعين
وأريد أن أروى وأشبع من طوى كالآخرين
فلينزلوا بي ما استطاعوا من سباب واحتقار
لي حفنة القمح التي بيدي ودانية السنين
خمس وأكثر أو أقل، هي الربيع من الحياة
فليحلموا هم بالغد الموهوم يبعث في الفلاة
روح النماء، وبالبيادر وانتصار الكادحين!
فليحلموا إن كانت الأحلام تشبع من يجوع
إني سأحيا لا رجاء ولا اشتياق ولا نزوع
لا شيء غير الرعب والقلق الممض على المصير
ساء المصير!
رباه، إن الموت أهون من ترقبه المرير
ساء المصير
لم كنت أحقر ما يكون عليه إنسان حقير؟!
عرس في القرية
مثلما تنفض الريح ذر النضار
عن جناح الفراشة، مات النهار
النهار الطويل
فاحصدوا يا رفاقي، فلم يبق إلا القليل
كان نقر الدرابك منذ الأصيل
يتساقط، مثل الثمار
من رياح تهوم بين النخيل
يتساقط مثل الدموع
أو كمثل الشرار
إنها ليلة العرس بعد انتظار
مات حب قديم، ومات النهار
مثلما تطفئ الريح ضوء الشموع
الشموع ... الشموع
مثل حقل من القمح عند المساء
من ثغور العذارى تعب الهواء
حين يرقصن حول العروس
منشدات: «نوار، اهنئي يا نوار!
حلوة أنت مثل الندى، يا عروس»
يا رفاقي، سترنو إلينا نوار
من عل في احتقار
زهدتها بنا حفنة من نضار
خاتم أو سوار، وقصر مشيد
من عظام العبيد
وهي، يا رب، من هؤلاء العبيد!
ولو أنا وآباءنا الأولين
قد كدحنا طوال السنين
وادخرنا، على جوع أطفالنا الجائعين
ما اكتسبناه في كدنا من نقود
ما اشترينا لها خاتما أو سوار !
خاتم ضم في ماسه الأزرق
من رفات الضحايا مئات اللحود
اشتراها به الصيرفي الشقي
مثلما تنثر الريح عند الأصيل
زهرة الجلنار
أقفر الريف لما تولت نوار
بالصبابات، يا حاملات الجرار
رحن واسألنها: «يا نوار
هل تصيرين للأجنبي الدخيل؟
للذي لا تكادين أن تعرفيه؟
يا ابنة الريف، لم تنصفيه!
كم فتى من بنيه
كان أولى بأن تعشقيه!
إنهم يعرفونك منذ الصغر
مثلما يعرفون القمر
مثلما يعرفون حفيف النخيل
وضفاف النهر
والمطر
والهوى، يا نوار ...»
احصدوا يا رفاقي، فإن المغيب
طاف بين الروابي يرش اللهيب
من أباريق مجبولة من نضار
والزغاريد تصدي بها كل دار
أوقد القصر أضواءه الأربعين
فاتبعوني إليها مع الرائحين
اتركوني أغني أمام العريس
وأراقص ظلي كقرد سجين
وأمثل دور المحب التعيس
ضاحكا من جراحات قلبي الحزين
من هواي المضاع
من قلوب الجياع
حين تهوى، ومن ذلة الكادحين
سوف آكل حتى ينز الدم
من عيوني فما زال عندي فم
كل ما عندنا نحن، هذا الفم!
كان وهما هوانا، فإن القلوب
والصبابات وقف على الأغنياء!
لا عتاب فلو لم نكن أغبياء
ما رضينا بهذا، ونحن الشعوب.
مرثية الآلهة
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع
1
ويبقى اليتامى بعدنا والمصانع
ويبقى «كرب»
2
الجالب الكرب كالصدى
يغص المنادي بالردى، وهو راجع
كأن الأميبى
3
توأم وهو توأم
لها، فهو في منجى من الموت قابع
ولكنه الفرد الذي يزحف الورى
إلى حيث ترمي مقلتيه المطامع
أعنقاء من صحراء نجد تقحمت
بها مغرب الشمس البعيد الزعازع
أم انسل من أهرام فرعون هاجع
وقته انتقاص الدود منه، المباضع؟
ومن ليس يحيا لن يرى وهو هالك
فلو كان يحيا ما عدته الفواجع
وما كان إلا اسما «كرب» ابن مثله
به يدمغ اثنان الورى والبضائع
ولكنه اسم بالأسامي يغتذي
تهجاه زفار اللظى والمدافع
تمنيت أني آلة لا يصيبها
كلال ولا وقت بها مر ضائع
لها من دماء الناس قوت وخلفها
من المال عن أن ينفذ القوت مانع
وما تخطئ الآلات في الجمع تارة
وفي الطرح، إن يخطئ من الناس جامع
ولا عاقبتها عصبة من ورائها
علينا عقاب برئوا منه، واقع
ألا كم رفعنا من إله وكم هوى
إله وأضحى ثالث وهو رابع
فما جاوزتنا صورة منه خطها
على غفلة منا مجيع وجائع
وما كان معبودا سوى ما نخافه
ونرجوه أو ما خيلته الطبائع
فتموز مثل اللات، والرعد ما رمى
بغير الذي تطوى عليه الأضالع
وكم أله التمر التهامي معشر
لما ليس يحيا دونه الناس راكع
فلما شكا بعد الأثافي قدرها
وضنت على الشدق الحفي المراضع
كفى كل ثغر كان يدعوه جوعه
إله أحاطته المدى والأصابع
دمي هذه الخمر التي تشربونها
ولحمي هو الخبز الذي نال جائع
ولما تشظى قلب نرسيس وانثنى
يلم الشظايا منه شار وبائع
وغذى بها القلب الذي حين ذاقها
نما فيه نابا كوسج فهو قاطع
هوى كل عال من إله وسافل
إلى حيث ما من راحل ثم راجع
وأفضى إلى العرش السديمي معدن
بما امتاح من أحداق «ميدوز»
4
لامع
هو الشمس إلا أن في زمهريره
من الموت ظلا حجبته البراقع
جزى أمه الأرض التي من عروقها
ربا واغتذى في جوفها وهو هاجع
بشر الذي يجزى به شر من غذا
وأروى، ويجزاه العدو المنازع
فأدمي بنيها وارتعي من بناتها
حقولا ترجى، فهي شوه بلاقع
كقابيل يعتال الأشقاء، راكل
كأوديب، للخبز الإلهي صافع
وهذا الإله الأملس الفظ ما جلا
لنرسيس يجثو عنده وهو خاشع
سوى وجه نرسيس الرخامي، شابه
شحوب يهوذي التلاوين ناقع
وأوفى من الأرباب جيل يئمه
على قمة الأولمب رب مخادع
ترى «فحم» إذ يلقاه يلقاه راجفا
و«فولاذ» من تلماح عينيه مائع
5
ويا عهد كنا كابن حلاج واحدا
مع الله إن ضاع الورى فهو ضائع
أكل الرجال الجوف أن يملئوا به
خواء الحشا هذا الإله المضارع
فعاد الفقير الروح من ليس كاسيا
به ظاهرا منا فحل التنازع.
من رؤيا فوكاي
فوكاي: كاتب في البعثة اليسوعية في هيروشيما، جن من هول ما شاهده غداة ضربت بالقنبلة الذرية. *** (1) هياي ... كونغاي، كونغاي
1
ما زال ناقوس أبيك يقلق المساء
بأفجع الرثاء: «هياي ... كونغاي، كونغاي»
فيفزع الصغار في الدروب
وتخفق القلوب
وتغلق الدور ببكين وشنغهاي
من رجع كونغاي، كونغاي!
فلتحرقي وطفلك الوليد
ليجمع الحديد بالحديد
والفحم والنحاس بالنضار
والعالم القديم بالجديد
آلهة الحديد والنحاس والدمار
أبوك رائد المحيط، نام في القرار
من مقلتيه لؤلؤ يبيعه التجار
2
وحظك الدموع والمحار
وعاصف عات من الرصاص والحديد
وذلك المجلجل المرن من بعيد
لمن، لمن يدق: «كونغاي، كونغاي»؟
أهم بالرحيل في «غرناطة» الغجر؟
فاخضرت الرياح، والغدير، والقمر؟
3
أم سمر المسيح بالصليب فانتصر
وأنبتت دماؤه الورود في الصخر؟
أم أنها دماء كونغاي؟
ورغم أن العالم استسر واندثر،
4
ما زال طائر الحديد يذرع السماء
وفي قرارة المحيط يعقد الكرى
أهداف طفلك اليتيم، حيث لا غناء
إلا صراخ «البابيون»: «زادك الثرى
فازحف على الأربع فالحضيض والعلاء
سيان، والحياة كالفناء!»
سيان «جنكيز»، و«كونغاي»
هابيل قابيل، وبابل كشنغهاي
وليست الفضة كالحديد
هياي كونغاي، كونغاي!
الصين حقل شاي
وسوق شنغهاي
يعج بالمزارعين قبل كل عيد
هياي ... كونغاي، كونغاي! (2) تسديد الحساب
تلك الرواسي كم انحط النهار على
أقصى ذراها، وكم مرت بها الظلم
فما فرحن بآلاف الشموس، ولا
من ألف نجم تردى مسها ألم
صماء، بكماء، لم تأخذ، ولا هبت
ولا ترصدها موت ولا هرم
لو أودع الله إياها أمانته
لنالهن على استيداعها ندم
ولاقتسمن مع الأحياء ما دفعت
من جزية لا توفى حين تقتسم
عن كل قهقهة من صرخة ثمن
وما استجد دم إلا وضاع دم
وما تحمل آلام المخاض ولم
يقرب من النور إلا الفكر والرحم
وإن يكن أسعد الأحياء أكملها
فإنما هو أشقاهن لا جرم؟ «قابيل» باق، وإن صارت حجارته
سيفا، وإن عاد نارا سيفه الخذم
ورد «هابيل» ما قاضاه بارئه
عن خلقه، ثم ردت باسمه الأمم
واليوم، في حين وفى الدين غارمه
إلا بقايا وكادت تخلص الذمم
وكاد يرجع للدنيا بشاشتها
ما قربته الضحايا وهي تبتسم
مشى على الأرض خلق عاش في دمه
من وحشها في المخاض الأول الضرم
خلق تراءى ل «يحيى»
5
ساعة افترست
عينيه رؤيا لها من هؤلاء فم
لو يقبض النور بالأيدي لسوره
دون الورى ... ولتعم العالم الظلم
ريان عطشان لا يروى، بلا فرح
جذلان، باد عليه الجوع والبشم
كأنه - وهو ماض في غوايته
من نفسه اقتص، فهو الماء والحمم
تفجر الضحك المسلوب من رئة
منخوبة بعد أخرى هدها السقم
عن ضحكة أطلقوها فهي صاعقة
أصابهم والورى من رجعها صمم
واستنزفوا متعة الأحياء ما دفعوا
عنها، ولا غارما ما استنزفوا رحموا
ثم استزادوا فإن لم يذهبوا دية
أو يقصروا عن طماح يرجح العدم! (3) حقائق كالخيال
6
ماذا تريد العيون السود من رجل
قد حاش زهر الخطايا حين لاقاها
زهرا على جسمي المحموم أقطفه
في باقة من جراح بت أصلاها
هذا الربيع الذي تهدي شقائقه
ريح المنايا إلى قلبي برياها
أزهار تموز
7
ما أرعى أسلمه
في عتمة العالم السفلي إياها؟
أم صل حواء بالتفاح كافأني
وهو الذي أمس بالتفاح أغواها؟
ماذا تريد العيون السود؟ إن لها
ما لست أنساه منها حين أنساها
ما بالهن استعضن البوم أوعية
عن أوجه الغيد ... حتى ضاع معناها؟
أين المناقير من لعس مراشفها
ربي؟ وأين ابتسام كان يغشاها
من هذه الخربة الظلماء محدقة
بي أعين البوم من أجداث موتاها؟
قفراء من غير ثكلى شف مئزرها
عن وهج فانوسها الكابي وأخفاها
تسعى كما اصطاد في ليل يراعته
8
طفل، وطارت وقد ألوى جناحاها
محنية تتقرى كل شاهدة
من كل قبر، كما لو كان طفلاها
في كل قبر يذوقان الردى دية
عمن يؤاوي وعن أحياء دنياها
نادتهما فانبرى يزقو لصيحتها
من حيث رد الصدى، بوم وناداها: «أماه إنا هنا ريح بنا عصفت
لم ندر أين انتهينا بعد لقياها.»
وانشق من خلفها قبر ليبلعها
واحتازها واشرأبت منه كفاها
يختص فانوسها التمتام بينهما
والريح خرساء تعبى غير «ها ... ها ... ها» •••
ويلم سازاك
9
كيف اندك حائطه
حتى تعرى لي السهل الذي حجبا؟
سهل يكن الصلال الرقط، أجهضه
عاد من المحل حتى يفزع العطبا
وانبحت التربة العجفاء من عطش
عن أشدق فاغرات تنبح السحبا
والشمس كالأطلس
10
المسعور تنهشه
والريح تصليه من تنورها لهبا
الريح؟ لا، ليست الريح التي ركضت
بيضاء سوداء رقطاء القفا عجبا
عنقاء
11
في مسعر الجوزاء أعينها
والصخر يرفض من أظلافها شهبا
تلك الزرافات
12
في السهل العقيم لها
مرعى روى من سراب، ينبت السغبا
ما روعتها سوى ضوضاء خشخشة
في كف أبرص يعدو خلفها خببا
تخفيه عنها ضمادات، ويظهره
ما نز من قيحه الدامي وما شخبا
نادى، وكفاه تختضان: «وا حربا!»
فاستعبر العاصف المصدور: «وا حربا!» «ماء اسق يا ماء ...» تلهاث مقاطعه
منزوعة من لسان يشبه الخشبا
حتى استجاب السحاب الجون فانعقدت
في الجو حباته الغبراء فاحتجبا
وانهل لا عن ندى صاف ولا مطر
بل عن دم، من ثدي مزقت حلبا
أو عن مشاش من الأحداق فقأها
سيخ لجنكيز
13
دام ينفث اللهبا «ماء، اسق يا ماء ...» والغيث الرهيب كلى
مفرية سحت الآجال والكربا
لم يبق من مرتو أو ظامئ، بفم
أو دون ... إلا ومن ماء الردى شربا •••
ويل لسازاك! ماذا ينتوي بدمي
من نية فهو يستصفي ويمتار؟
تلك الزجاجات أشلاء مجزأة
مني، دمي مختز فيهن موار!
لم تثن سازاك عن شحذ لمديته
آهات مرضى، ولا ألهاه زوار
إني لدار باني حين يشرعها
ران إليها، فملدوغ، فمنهار
هل تبتغي شفرتاها غير آنية
فيها دمي راجف، والداء والعار؟
ما كنت يوما ولا المرضى سوى عرض
في عين سازاك، يجبى منه إيجار
ست وعشرون أعداد على سرر
أما الأصحاء والمرضى فأصفار!
فالرقم «عشرون» لا يسقى سوى لبن
والرقم «عشر» نعاه اليوم محرار
واليوم لم يبق ما أعطيه عن مرض
إلا دعائي وقولي: «نعمت الدار!»
فليلق سازاك من يسمى «ثمانية»
غيري، ويستوف أجر القبر حفار!
قافلة الضياع
أرأيت قافلة الضياع؟ أما رأيت النازحين؟
الحاملين على الكواهل، من مجاعات السنين
آثام كل الخاطئين
النازفين بلا دماء
السائرين إلى وراء
كي يدفنوا «هابيل» وهو على الصليب ركام طين؟ «قابيل، أين أخوك، أين أخوك؟»
جمعت السماء
آمادها لتصيح. كورت النجوم إلى نداء «قابيل، أين أخوك؟» «يرقد في خيام اللاجئين
السل يوهن ساعديه، وجئته أنا بالدواء
والجوع لعنة آدم الأولى وإرث الهالكين
ساواه والحيوان ثم رماه أسفل سافلين
ورفعته أنا بالرغيف، من الحضيض إلى العلاء»
الليل يجهض، والسفائن مثقلات بالغزاه
بالفاتحين من اليهود
يلقين في حيفا مراسيهن. كابوس تراه
تحت التراب محاجر الموتى فتجحظ في اللحود
الليل يجهض فالصباح من الحرائق ... في ضحاه
الليل يجهض فالحياه
شيء ترجح لا يموت ولا يعيش بلا حدود
شيء تفتح جانباه على المقابر والمهود
شيء يقول: «هنا الحدود!
هذا لكل اللاجئين، وكل هذا لليهود!» •••
النار تصرخ في المزارع والمنازل والدروب
في كل منعطف تصيح: «أنا النضار، أنا النضار»
من كل سنبلة تصيح ومن نوافذ كل دار: «أنا عجل «سيناء» الإله، أنا الضمير، أنا الشعوب
أنا النضار!»
النار تتبعنا، كأن مدى اللصوص وكل قطاع الطريق
يلهثن فيها بالوباء، كأن ألسنة الكلاب
تلتز منها كالمبارد وهي تحفر في جدار النور باب
تتصبب الظلماء كالطوفان منه، فلا تراب
ليعاد منه الخلق، وانجرف المسيح مع العباب
كان المسيح بجنبه الدامي ومئزره العتيق
يسد ما حفرته ألسنة الكلاب
فاجتاحه الطوفان حتى ليس ينزف منه جنب أو جبين
إلا دجى كالطين تبنى منه دور اللاجئين
النار تركض كالخيول وراءنا أهم المغول
على ظهور الصافنات؟ وهل سألت الغابرين
أروضوا أمس الخيول؟
أم نحن بدء الناس كل تراثنا أنصاب طين •••
النار تصهل من ورائي والقذائف لا تنام
عيونها وأبي على ظهري، وفي رحمي جنين
عريان دون فم ولا بصر تكور في الظلام
في بركة الدم وهو يفرك أنفه بيد وكالجرس الصغير
يرن ملء دمي صداه - تكاد تومض كل روحي بالسلام
حتى أكاد أراه في غبش الدماء المستنير
عريان دون فم كأفقر ما يكون بلا عظام
وبلا أب، وبدون حيفا دون ذكرى - كالظلام!
أسريت وأعبر، تحت أجنحة الحديد به الزمان
من الحقول إلى المراعي فالكهوف
والأرض تطمس من وراء ظهورنا، كالأبجديه
الدور فيها والدوالي شاخصات كالحروف
فكأن أمس غد يلوح وليس بينهما مكان
لم يخرجونا من قرانا وحدهن ولا من المدن الرخيه
لكنهم قد أخرجونا من صعيد الآدميه!
فاليوم تمتلئ الكهوف بنا ونعوي جائعين
ونموت فيها لا نخلف للصغار على الصخور
سوى هباب ما نقشنا فيه من أسد طعين!
ونموت فيها لا نخلف بعدنا حتى قبور
ماذا نحط على شواهدها؟ أ«كانوا لاجئين»؟
اليوم تمتلئ الكهوف بنا تظلل بالخيام
وبالصفيح، وقد تغلفهن بالآجر دور
والنور كالتابوت فيها، ليس فيه سوى ظلام •••
بين الكهوف وبين حيفا من ظلام ألف عام أو يزيد
بين الكهوف وبين أمس هناك بئر لا قرار
لها، كهاوية الجحيم تلز فاها دون نار
تتعلق الأجداث فيها كالجلامد في جدار
لحدا على لحد، أزيح الطين عنها والحجار
من يدفن الموتى وقد كشفوا وماتوا من جديد؟
من يدفن الموتى
ليولد، تحت صخرة كل شاهدة، وليد؟
من يدفن الموتى لئلا يرخموا باب الحياة
على أكف القابلات؟
من يدفن الموتى لنعرف أننا بشر جديد!
في كل شهر من شهور الجوع يومئ يوم عيد
فنخف نحمل من «تذاكرنا» صليب اللاجئين: «يا مكتبا للغوث في سيناء هب للتائهين
منا وسلوى من شعير، والمشيمة للجنين
واجعل له المطاط سره
وارزقه ثديا من زجاج واحش بالإدريج صدره» •••
وبأيما لغة نقول فيستجيب الآخرون
ونورث الدم للصغار؟
أعلمت - حين نقول دار أو سماء - أي دار
أو سماء تخطران على العنوان؟
هيهات، ليس للاجئين ولاجئات من قرار
أو ديار
إلا مرابع كان فيها أمس معنى أن نكون
سنظل نضرب كالمجوس نجس ميلاد النهار!
كم ليلة ظلماء كالرحم انتظرنا في دجاها
نتلمس الدم في جوانبها ونعصر من قواها
شع الوميض على رتاج سمائها مفتاح نار
حتى حسبنا أن باب الصبح يفرج، ثم غار
وغادر الحرس الحدود
واختص رعد في مقابر صمتها يعد القفار
ثم اضمحل إلى غبار بين أحذية الجنود
الليل أجهض ناره الحمى وديمته انتخاب الضائعين
الليل أجهض: ليس فيه سوى مجوس اللاجئين •••
النار تركض كالخيول وراءنا أهم المغول
على ظهور الصافنات؟ وهل سألت الغابرين
أروضوا أمس الخيول؟
أم نحن بدء الناس: كل تراثنا أنصاب طين؟
يوم الطغاة الأخير
أغنية ثائر عربي من تونس لرفيقته «إلى الملتقى ...» وانطوى الموعد
وظل الغد
غد الثائرين القريب
يدا بيد من غمار اللهيب
سنرقى إلى القمة العاليه
وشعرك حقل حباه المغيب
أزاهيره القانيه •••
نرى الشمس تنأى وراء التلال
وبين الظلال
وقد رف، مثل الجناح الكسير
على كومة من حطام القيود
على عالم بائد لن يعود
سناها الأخير
تقولين لي: «هل رأيت النجوم؟
أأبصرتها قبل هذا المساء
لها مثل هذا السنا والنقاء؟»
تقولين لي: «هل رأيت النجوم
وكم أشرقت قبل هذا المساء
على عالم لطخته الدماء
دماء المساكين والأبرياء!»
تقولين لي: «هل رأيت النجوم
تطل على أرضنا وهي حره
لأول مره؟»
نعم، أمس حين التفت إليك
تراءين كالهجس في مقلتيك •••
وإذ يستضيء المدى بالحريق
فيندك سجن ويجلى طريق
ويذكى بأطيافه الدافئه
محياك باللهفة الهانئه؟
تقولين: «نحن ابتداء الطريق
ونحن الذين اعتصرنا الحياه
من الصخر تدمى عليه الجباه
ويمتص ري الشفاه
من الموت في موحشات السجون
من البؤس، من خاويات البطون
لأجيالها الآتيه
لنا الكوكب الطالع
وصبح الغد الساطع
وآصاله الزاهيه!»
إلى جميلة بوحيرد
لا تسمعيها إن أصواتنا
تخزى بها الريح التي تنقل
باب علينا من دم مقفل
ونحن في ظلماتنا نسأل:
من مات؟ من يبكيه؟ من يقتل؟
من يصلب الخبز الذي نأكل؟
نخشى إذا واريت أمواتنا
أن يفزع الأحياء ما يبصرون
إذ يقفر الكهف الذي يأهلون
إن عربد الوحش الذي يطعمون
من أكبد الموتى، فمن يبذل؟ •••
يا أختنا المشبوحة الباكيه
أطرافك الداميه
يقطرن في قلبي ويبكين فيه
يا من حملت الموت عن رافعيه
من ظلمة الطين التي تحتويه
إلى سماوات الدم الواريه
حيث التقى الإنسان والله، والأموات والأحياء في شهقة
في رعشة للضربة القاضيه
الأرض، أم الزهر والماء والأسماك والحيوان والسنبل
لم تبل في إرهاصها الأول
من خضة الميلاد ما تحملين
ترتج قيعان المحيطات من أعماقها، ينسح فيها حنين
والصخر منشد بأعصابه - حتى يراها - في انتظار الجنين
الأرض؟ أم أنت التي تصرخين؟
في صمتك المكتظ بالآخرين؟
في ذلك الموت، المخاض، المحب، المبغض، المنفتح، المقفل
ونحن؟ أم أنت التي تولدين؟
أسخى من الميلاد ما تبذلين
والموت، أقسى منه، من كل ما عاناه أجيال من الهالكين
أن الذي من دونه الجلجله
والسوط والسجان والمقصله
أن الذي يفديك أو تفتدين
غير الذي آذوه بالنار أو بالعار والماء الذي تشربين
عبء من الآجال ما أثقله!
كم حاول الجلاد أن ينزله
كم ود أن تلقيه إذ تعجزين
مشبوحة الأطراف فوق الصليب
مشبوحة العينين عبر الظلام
يأتيك من وهران - يا للزحام!
حشد مشع باشتعال المغيب
يأتيك كل الناس، كل الأنام
يرجون، مما تبذلين، الطعام
والأمن والنعماء والعافيه
وأنت مثل الدوحة العاريه
لم يبق منك البغي إلا الجذور
الموت واه دونها، والنشور
فيها، وتجري دونك الساقيه
ما شب في وهران من برعم
أو أزهرت في أطلس عوسجه
إلا ودبت في مسيل الدم
نمنمة منعشة مبهجه
توحي بأن الأرض ظلت تدور
طاحونة للقاتل المجرم
تسحق منه واهن الأعظم
وأن ألوان الأذى والعذاب
ذخر لنا، نجلوه يوم الحساب
نسقي به الباغين، نروي التراب
من لفحه، أن الهوى والشباب
لم يذهبا، أن البعاد اقتراب
أن من الدمع الذي تسكبين
أسلحة في أذرع الثائرين.
جاء زمان كان فيه البشر
يفدون من أبنائهم للحجر: «يا رب عطشى نحن، هات المطر!
رو العطاشى منه رو الشجر»
وجاء حين عاد فيه البشر
يفدون بالأنعام ما تحبس السماء في أعماقها من قدر
وجاء عصر سار فيه الإله
عريان، يدمى، كي يروي الحياه
واليوم ولى محفل الآلهه
اليوم يفدي ثائر بالدماء
الشيب والشبان، يفدي النساء
يفدي زروع الحقل، يفدي النماء
يفدي دموع الأيم الوالهه
بالأمس دوى في ثرى يثرب
صوت قوي من فقير نبي
ألوى ببغي الصخر لم يضرب
وحطم التيجان أي انطلاق
في مصر، في سورية، في العراق
في أرضك الخضراء كان انعتاق!
بالأمس وارى قومك الآلهه
عشتار، أم الخصب، والحب، والإحسان، تلك الربة الوالهه
لم تعط ما أعطيت، لم ترو بالأمطار ما رويت: قلب الفقير
لم يعرف الحقد الذين يعرفون
والحسد الآكل حتى العيون
نحن بنو الفقر الذي يزعمون
في كل عصر أنهم وارثوه
قابيل فينا ما تهاوى أخوه
من ضربة الحقد التي يضربون
يوم ابتدأنا كان عبء السماء
ملقى على أطلس
يزحمه بالمنكب الأملس
ثم ارتقى «إيفل»،
1
تم البناء
فانحط ذاك العبء حينا عليه
ثم انطلقنا نحن من جانبيه
حتى حملنا عبئها، كل ما فيها من الأبراج والأنجم
يا أختنا المشبوحة الباكيه
أطرافك الداميه
يقطرن في قلبي ويبكين فيه
لم يلق ما تلقين أنت المسيح
أنت التي تفدين جرح الجريح
أنت التي تعطين ... لا قبض ريح
يا أختنا، يا أم أطفالنا
يا سقف أعمالنا
يا ذروة تعلو لأبطالنا
ما حز سوط البغي في ساعديك
إلا، وفي غيبوبة الأنبياء
أحسست أن السوط، أن الدماء
أن الدجى، أن الضحايا ... هباء
من أجل طفل ضاحكته السماء
فرحان في أرضه
وبعضه فرحان من بعضه
أحسسته يحبو على راحتيك
سمعته يضحك في مسمعيك
يهتف: «يا جميله
يا أختي النبيله
يا أختي القتيله
لك الغد الزاهر كما تشتهين»
وأنت إذ أحسست، إذ تسمعين
تعلو بك الآلام فوق التراب
فوق الذرى، فوق انعقاد السحاب
تعلين حتى محفل الآلهه
كالربة الوالهه
كالنسمة التائهه •••
لا تسمعيها إن أصواتنا
تخزى بها الريح التي تنقل
باب علينا، من دم، مقفل
ونحن نحصي، ثم، أمواتنا
الله لولا أنت يا فاديه
ما أثمرت أغصاننا العاريه
أو زنبقت أشعارنا القافيه
إنا هنا في هوة داجيه
ما طاف لولا مقلتاك الشعاع
يوما بها نحن العراة الجياع
لا تسمعي ما لفقوا، ما يذاع
ما زينوا، ما خط ذلك اليراع
إنا هنا كوم من الأعظم
لم يبق فينا من مسيل الدم
شيء نروي منه قلب الحياه
إنا هنا موتى، حفاة، عراه
لا تسمعيها، إن أصواتنا
تخزى بها الريح التي تنقل
باب علينا، من دم، مقفل
ونحن في ظلمائنا نسأل: «من مات؟ من يبكيه؟ من يقتل؟»
يا نفحة من عالم الآلهه
هبت على أقدامنا التائهه
لا تمسحيها من شواظ الدماء
إنا سنمضي في طريق الفناء
ولترفعي «أوراس» حتى السماء
حتى تروى من مسيل الدماء
أعراق كل الناس، كل الصخور
حتى نمس الله
حتى نثور!
رسالة من مقبرة
إلى المجاهدين الجزائريين
من قاع قبري أصيح
حتى تئن القبور
من رجع صوتي، وهو رمل وريح:
من عالم في حفرتي يستريح
مركومة في جانبيه القصور
وفيه ما في سواه
إلا دبيب الحياه
حتى الأغاني فيه، حتى الزهور
والشمس، إلا أنها لا تدور
والدود نخار بها في ضريح
من عالم في قاع قبري أصيح: «لا تيأسوا من مولد أو نشور!» •••
النور من طين هنا أو زجاج
قفل على باب سور
النور في قبري دجى دون نور
النور في شباك داري زجاج
كم حدقت بي خلفه من عيون
سوداء كالعار
يجرحن بالأهداب أسراري
فاليوم داري لم تعد داري
والنور في شباك داري ظنون
تمتص أغواري
وعند بابي يصرخ الجائعون: «في خبزك اليومي دفء الدما»
فاملأ لنا، في كل يوم، وعاء
من لحمك الحمي الذي نشتهيه
فنكهة الشمس فيه
وفيه طعم الهواء!»
وعند بابي يصرخ الأشقياء: «اعصر لنا من مقلتيك الضياء
فإننا مظلمون!»
وعند بابي يصرخ المخبرون: «وعر هو المرقى إلى الجلجله
1
والصخر، يا سيزيف، ما أثقله
سيزيف ... إن الصخرة الآخرون!» •••
لكن أصواتا كقرع الطبول
تنهل في رمسي
من عالم الشمس
هذي خطى الأحباء بين الحقول
في جانب القبر الذي نحن فيه
أصداؤها الخضراء
تنهل في داري
أوراق أزهار
من عالم الشمس الذي نشتهيه
أصداؤها البيضاء
يصدعن من حولي جليد الهواء
أصداؤها الحمراء
تنهل في داري
شلال أنوار
فالنور في شباك داري دماء
ينضحن من حيث التقى، بالصخور
في فوهة القبر المغطاة، سور
هذا مخاض الأرض لا تيأسي
بشراك يا أجداث، حان النشور!
بشراك في «وهران» أصداء صور
سيزيف ألقى عنه عبء الدهور
واستقبل الشمس على «الأطلس»! •••
آه لوهران التي لا تثور!
في المغرب العربي
قرأت اسمي على صخره
هنا، في وحشة الصحراء!
على آجرة حمراء
على قبر فكيف يحس إنسان يرى قبره؟
يراه وإنه ليحار فيه:
أحي هو أم ميت؟ فما يكفيه
أن يرى ظلا له على الرمال
كمئذنة معفرة
كمقبرة
كمجد زال!
كمئذنة تردد فوقها اسم الله
وخط اسم له فيها
وكان محمد نقشا على آجرة خضراء
يزهو في أعاليها
فأمسى تأكل الغبراء
والنيران، من معناه
ويركله الغزاة بلا حذاء
بلا قدم
وتنزف منه، دون دم
جراح دونما ألم
فقد مات
ومتنا فيه، من موتى ومن أحياء
فنحن جميعا أموات
أنا ومحمد والله
وهذا قبرنا أنقاض مئذنة معفرة
عليها يكتب اسم محمد والله
على كسر مبعثرة
من الآجر والفخار
فيا قبر الإله، على النهار
ظل لألف حربة وفيل
ولون أبرهه
وما عكسته منه يد الدليل
والكعبة المحزونة المشوهة
قرأت اسمي على صخره
على قبرين بينهما مدى أجيال
يجعل هذه الحفره
تضم اثنين: جد أبي، ومحض رمال
ومحض نثارة سوداء منه، استنزلا قبره
وإياي، ابنه في موته والمضغة الصلصال •••
وكان يطوف من جدي
مع المد
هتاف يملأ الشطآن: يا ودياننا ثوري!
ويا هذا الدم الباقي على الأجيال
يا إرث الجماهير
تشظ الآن واسحق هذه الأغلال
وكالزلزال
هز النير، أو فاسحقه واسحقنا مع النير
وكان إلهنا يختال
بين عصائب الأبطال
من زند إلى زند
ومن بند إلى بند •••
إله الكعبة الجبار
تدرع أمس في ذي قار
بدرع من دم النعمان في حافاتها آثار
إله محمد وإله آبائي من العرب
تراءى في جبال الريف يحمل راية الثوار
وفي يافا رآه القوم يبكي في بقايا دار
وأبصرناه يهبط أرضنا يوما من السحب
جريحا كان في أحيائنا يمشي ويستجدي
فلم نضمد له جرحا
ولا ضحى
له منا بغير الخبز والإنعام من عبد! •••
وأصوات المصلين ارتعاش من مراثيه
إذا سجدوا ينز دم
فيسرع بالضماد فم
بآيات يغض الجرح منها خير ما فيه
تداوي خوفنا من علمنا أنا سنحييه
إذا ما هلل الثوار منا: «نحن نفديه!» •••
أغار، من الظلام على قرانا
فأحرقهن، سرب من جراد
كأن مياه دجلة، حيث ولى
تنم عليه بالدم والمداد
أليس هو الذي فجأ الحبالى
قضاه، فما ولدن سوى رماد؟
وأنعل، بالأهلة في بقايا
مآذنها، سنابك من جواد؟
وجاء الشام يسحب في ثراها
خطى أسدين جاعا في الفؤاد ؟
فأطعم أجوع الأسدين عيسى
وبل صداه من ماء العماد
وعض نبي مكة ... فالصحاري
وكل الشرق ينفر للجهاد؟ •••
أعاد، اليوم، كي يقتص من أنا دحرناه؟
وأن الله باق في قرانا، ما قتلناه؟
ولا من جوعنا يوما أكلناه؟
ولا بالمال بعناه
كما باعوا
إلهم الذي صنعوه من ذهب كدحناه؟
كما أكلوه إذ جاعوا
إلههم الذي من خبزنا الدامي جبلناه؟
وفي باريس تتخذ البغايا
وسائدهن من ألم المسيح
وبات العقم يزرع في حشاها
فم التنين: يشهق بالفحيح
ويقذف من حديد في حمانا
جحافل كالفوارس، دون روح
تجد وراء مكة في الصياصي
أقمناها، ويثرب في السفوح •••
قرأت اسمي على صخره
وبين اسمين في الصحراء
تنفس عالم الأحياء
كما يجري دم الأعراق بين النبض والنبض
ومن آجرة حمراء ماثلة على حفره
أضاء ملامح الأرض
بلا ومض
دم فيها، فسماها
لتأخذ منه معناها
لأعرف أنها أرضي
لأعرف أنها بعضي
لأعرف أنها ماضي، لا أحياه لولاها
وأني ميت لولاه، أمشي بين موتاها
أذاك الصاخب المكتظ بالرايات وادينا؟
أهذا لون ماضينا
تضوأ من كوى «الحمراء»
ومن آجرة خضراء
عليها تكتب اسم الله بقيا من دم فينا؟
أنبر من أذان الفجر؟ أم تكبيرة الثوار
تعلو من صياصينا ...؟
تمخضت القبور لتنشر الموتى ملايينا
وهب محمد وإلهه العربي والأنصار
إن إلهنا فينا.
مرثية جيكور
يا صليب المسيح ألقاك ظلا
فوق «جيكور»
1
طائر من حديد
يا لظل كظلمة القبر في اللون، وكالقبر في ابتلاع الخدود
والتهام العيون من كل عذراء كعذراء «بيت لحم» الولود
مر عجلان بالقبور العواري من صليب على النصارى شهيد
فاكتست منه بالصليب الذي ما كان إلا رمز الهلاك الأبيد:
لا رجاء لها بأن يبعث الموتى ولا مأمل لها بالخلود!
ويل جيكور؟ أين أيامها الخضر وليلات صيفها المفقود؟
والعشاء السخي في ليلة العرس وتقبيلة العروس الودود
وانتظار له على الباب: «محمود، تأخرت يا أبا محمود
ناد محمود!»
ثم يوفي على الجمع بمنديل عرسه المعقود
نقطته الدماء يشهدن للخدر بعذراء، يا لها من شهود
2
لا على العقم والردى، بل على الميلاد والبعث والشباب الجديد!
أي صوت يصيح: «محمود، محمود تأخرت!» كالنواح البعيد؟
أين محمود؟ ليس محمود في الدار ولا الحقل!
يا أبا محمود
ناد محمود كاد أن يهتف الديك وما زال جمعنا في الوصيد
قل له يبرز الدماء فأنا في انتظار لها وشوق مبيد!
ذر نجم الصباح محمود، محمود، أأقبلت بالدم المنشود؟
أي جرح ينز منه الدم الموار في باب دارك المرصود؟
إنه منك! منك هذا الدم الثر ومن جانب العروس القديد!
الصليب، الصليب! إنا رأيناه وقد مر كالخيال الشرود
قد رأيناه في الصباح وفي الليل سمعنا كقعقعات الرعود
أهو هذا الذي يريدون؟ أشلاء وأنقاض منزل مهدود؟
أفما قامت الحضارات في الأرض كعنقاء من رماد اللحود؟
لا ولم تفرخ العقول على المجهول يسبرن فيه غور الوجود!
أو يشق العباب قلع يصك الريح صكا إلى البعيد البعيد؟
أو يلم النسيم عقدا من النور ويذروه باقة من ورود
ساحر فجر المدى عن مدى ملآن باللحن مترع بالنشيد؟
أو تدق الأجراس: «يا أرض، يا بشراك بالحب والمسيح الوليد؟»
لا ولم يختم الزجاج على كل «هرقل»
3
من العقار الأكيد
يخنق الموت كلما هم بالناس ويجتاح كاسرات الأسود؟
لا ولا قيس بعد ما لفه الليل من الأرض واحتوى من حدود
بالذي قاس حافة الساعة القوراء في قرصها ذراعا حديد؟
أو يفض الظلام؟ إلا لكي تندك «جيكور» بالسلاح الجديد؟
كي يراها على اتساع المدى والشأو من ليس طرفه بالحديد؟
من وراء المحيط والليل والغابات والبيد والذرى والسدود!
أين من شال «جين» أطمار «كلثوم»؟ وأن الغضا من الأركيد؟
فيم أسرى صحاب «جين» المغاوير إلى زوج «كلثم» المنكود؟
يا رمادا تذره الزعزع الشعثاء في مقلة القمير الوحيد
أنت «جيكور» كل جيكور: أحداق العذارى وباسلات الزنود
والرءوس التي حثا فوقهن الدهر ما في رحاه من تنكيد
صرد القمح من نثار لها اللون، ولم تحظ بالرغيف الوئيد
فهي صحراء تزفر الملح آهات وشكوى، لمائها الموءود!
خورس:
4
شيخ اسم الله ترللا
قد شاب ترل ترل ترار وما هلا
ترلل العيد ترللا
ترللا عرس «حمادي»
زغردن ترل ترللا
الثوب من الريز ترللا
والنقش صناعة بغداد •••
إنها الريح! فاملئي الريح يا جيكور بالضحك أو نثار الورود!
قطب الصمت حيث كانت أغانيك، وحيث العبير نتن الصديد
جاء قرن وراح والمدن في ضوضاء، ما زلن من حساب النقود
ضاع صوت الضعاف فيها وآهات النبين وابتهال الطريد
واستحال الفضاء، من ضجة الآلات فيها ومن لهاث العبيد،
غير هذا الفضاء شيئا لغير الآدميين، ربما للقرود
ربما للذئاب والدود والأدنى من الدود في الحضيض البليد!
ظل ذاك الضجيج كالجيفة الحبلى بما ليس غير عقم الولود
ثمة التم في كرات من النار فألقى عليك صمت اللحود!
لا عليك السلام يا عصر «تعبان بن عيسى» وهنت بين العهود!
ها هو الآن فحمة تنخر الديدان فيها فتتلظى من جديد
ذلك الكائن الخرافي في جيكور، «هومير»
5
شعبه المكدود
جالس القرفصاء في شمس آذار وعيناه في بلاط «الرشيد»
يمضغ التبع والتواريخ والأحلام، بالشدق والخيال الوئيد
ما تزال «البسوس» محمومة الخيل لديه، وما خبا من «يزيد»
نار عينين ألقتاها على «الشمر»
6
ظلالا مذبحات الوريد!
كلما لز شمره الخيل أو عرى أبو زيده
7
التحام الجنود
شد راحا وأطلق المغزل الدوار يدحوه للمدار الجديد!
وانتهى من حديثه الضخم عن ضخم من الغزل، وانتهى من قعود
نصف عريان يسحب الطرف عن صدر تعرى وعن قميص فقيد
غير بقيا على فم دق حتى عن فم العنكبوت، في رأس عود:
مغزل ينقض الذي حاكه النول، وجهد أضاع شتى جهود
فهو كد وليس بالكد، أردى قبله اثنين وادعى بالمزيد
حاضر غير حاضر، منه للماضي فناء وللغد الموعود!
لا عليك السلام يا عصر تعبان بن عيسى وهنت بين العهود
أنت أيتمت كل روح من الماضي، وسودت آلة من حديد
تسكب السم واللظى لا حليب الأم أو رحمة الأب المفقود:
سلم في الحضيض أعلاه، مرقاه انخفاض وإن بدا كالصعود
حدقت منه في الورى مقلتا «فوكاي» تستشرفان أيام «هود»
والمسيح المبيع بخسا بما لو بيع لحما لناء عن تسديد!
حدقي حيث شئت، يا عين فوكاي المدماة، من مداك المديد!
فهي سوق تباع فيها لحوم الآدميين دون سلخ الجلود
كل أفريقيا وآسية السمراء، ما بين زنجها والهنود
واشترى لحم كل من نطق الضاد تجار تبيعه لليهود!
هكذا قد أسف من نفسه الإنسان وانهار كانهيار العمود
فهو يسعى وحلمه الخبز والأسمال والنعل واعتصار النهود!
والذي حارت البرية فيه
8
بالتآويل، كائن ذو نقود!
تموز جيكور
1
ناب الخنزير يشق يدي
ويغوص لظاه إلى كبدي
ودمي يتدفق، ينساب
لم يغد شقائق أو قمحا
لكن ملحا «عشتار» وتخفق أثواب
وترف حيالي أعشاب
من نعل يخفق كالبرق
كالبرق الخلب ينساب
لو يومض في عرقي
نور، فيضيء لي الدنيا!
لو أنهض! لو أحيا!
لو أسقي! آه لو أسقي!
لو أن عروقي أعناب!
وتقبل ثغري عشتار
فكأن على فمها ظلمه
تنثال علي وتنطبق
فيموت بعيني الألق
أنا والعتمه
2
جيكور ستولد جيكور
النور سيورق والنور
جيكور ستولد من جرحي
من غصة موتي، من ناري
سيفيض البيدر بالقمح
والجرن سيضحك للصبح
والقرية دارا عن دار
تتماوج أنغاما حلوه
والشيخ ينام على الربوه
والنخل يوسوس أسراري
جيكور ستولد لكني
لن أخرج فيها من سجني
في ليل الطين الممدود
لن ينبض قلبي كاللحن
في الأوتار
لن يخفق فيه سوى الدود
3
هيهات أتولد جيكور
إلا من خضة ميلادي؟
هيهات أينبثق النور
ودمائي تظلم في الوادي؟
أيسقسق فيها عصفور
ولساني كومة أعواد؟
والحقل؟ متى يلد القمحا
والورد، وجرحي مفغور
وعظامي ناضحة ملحا؟
لا شيء سوى العدم العدم
والموت هو الموت الباقي
يا ليل أظل مسيل دمي
ولتغد ترابا أعراقي!
هيهات. أتولد جيكور
من حقد الخنزير المتدثر بالليل
والقبلة برعمة القتل
والغيمة رمل منثور
يا جيكور؟
جيكور والمدينة
وتلتف حولي دروب المدينه
حبالا من الطين يمضغن قلبي
ويعطين، عن جمرة فيه، طينه
حبالا من النار يجلدن عري الحقول الحزينه
ويحرقن جيكور في قاع روحي
ويزرعن فيها رماد الضغينه
دروب تقول الأساطير عنها
على موقد نام ما عاد منها
ولا عاد من ضفة الموت سار
كأن الصدى والسكينه
جناحا أبي الهول فيها، جناحان، من صخرة في ثراها دفينه
فمن يفجر الماء منها عيونا لتبنى قرانا عليها؟
ومن يرجع الله يوما إليها؟ •••
وفي الليل، فردوسها المستعاد
إذا عرش الصخر فيها غصونه
ورص المصابيح تفاح نار
ومد الحوانيت أواق تينه
فمن يشعل الحب في كل درب وفي كل مقهى وفي كل دار؟
ومن يرجح المخلب الآدمي يدا يمسح الطفل فيها جبينه؟
وتخضل من لمسها، من ألوهية القلب فيها، عروق الحجار؟
وبين الضحى وانتصاف النهار
إذا سبحت باسم رب المدينه
بصوت العصافير في سدرة يخلق الله منها قلوب الصغار
رحى معدن في أكف التجار
لها ما لأسماك جيكور من لمعة واسمها من معان كثار
فمن يسمع الروح؟ من يبسط الظل في لافح ومن هجير النضار؟
ومن يهتدي في بحار الجليد إليها فلا يستبيح السفينه؟
وجيكور، من غلق الدور فيها - وجاء ابنها
يطرق الباب - دونه؟
ومن حول الدرب عنها ... فمن حيث دار اشرأبت إليه المدينه؟
وجيكور خضراء مس الأصيل ذرى النخل فيها
بشمس حزينه
يمد الكرى لي طريقا إليها
من القلب يمتد، عبر الدهاليز، عبر الدجى والقلاع الحصينه ...
وقد نام في بابل الراقصون
ونام الحديد الذي يشحذونه
وغشى، على أعين الخازنين، لهاث النضار الذي يحرسونه
حصاد المجاعات في جنتيها
رحى من لظى مر دربي عليها
وكرم عساليجه العاقرات شرايين تموز عبر المدينه
شرايين في كل دار وسجن ومقهى
وسجن وبار وفي كل ملهى
وفي كل مستشفيات المجانين
في كل مبغى لعشتار
يطلعن أزهارهن الهجينه
مصابيح لم يسرج الزيت فيها وتمسسه نار
وفي كل مقهى وسجن ومبغى ودار: «دمى ذلك الماء، هل تشربونه؟
ولحمي هو الخبز، لو تأكلونه!»
وتموز تبكيه لاة الحزينه •••
ترفع بالنواح صوتها مع السحر
ترفع بالنواح صوتها، كما تنهد الشجر
تقول «يا قطار، يا قدر
قتلت - إذا قتلته - الربيع والمطر»
وتنشر «الزمان» و«الحوادث» الخبر
1
ولاة تستغيث بالمضمد، الحفر
أن يرجع ابنها يديه، مقلتيه، أيما أثر!
وترسل النواح: «يا سنابل القمر
دم ابني الزجاج في عروقه انفجر
فكهرباء دارنا أصابت الحجر
وصكه الجدار، خضه، رماه لمحة البصر
أراد أن ينير، أن يبدد الظلام ... فاندحر»
وترسل النواح
ثم يصمت الوتر •••
وجيكور خضراء
مس الأصيل
ذرى النخل فيها
بشمس حزينه
ودربي إليها كومض البروق
بدا واختفى ثم عاد الضياء فأذكاه حتى أنار المدينه
وعرى يدي من وراء الضماد كأن الجراحات فيها حروق
وجيكور من دونها قام سور
وبوابة
واحتوتها سكينه
فمن يخرق السور؟ من يفتح الباب؟ يدمي على كل قفل يمينه؟
ويمناي: لا مخلب للصراع فأسعى بها في دروب المدينه
ولا قبضة لابتعاث الحياة من الطين
لكنها محض طينه •••
وجيكور من دونها قام سور
وبوابة
واحتوتها سكينه.
العودة لجيكور
1
على جواد الحلم الأشهب
أسريت عبر التلال
أهرب منها، من ذراها الطوال
من سوقها المكتظ بالبائعين
من صبحها المتعب
من لينها النابح والعابرين
من نورها الغيهب
من ربها المغسول بالخمر
من عارها المخبوء بالزهر
من موتها الساري على النهر
1
يمشي على أمواجه الغافيه
أواه لو يستيقظ الماء فيه
لو كانت العذراء من وارديه
لو أن شمس المغرب الداميه
تبتل في شطيه أو تشرق
لو أن أغصان الدجى تورق
أو يوصد الماخور عن داخليه
2
على جواد الحلم الأشهب
وتحت شمس المشرق الأخضر
في صيف جيكور السخي الثري
أسريت أطوي دربي النائي
بين الندى والزهر والماء
أبحث في الآفاق عن كوكب
2
عن مولد للروح تحت السماء
عن منبع يروي لهيب الظماء
عن منزل للسائح المتعب
3
جيكور، جيكور أين الخبز والماء؟
الليل وافى وقد نام الأدلاء؟
والركب سهران من جوع ومن عطش
والريح صر، وكل الأفق أصداء
بيداء ما في مداها ما يبين به
درب لنا، وسماء الليل عمياء
جيكور مدي لنا بابا فندخله
أو سامرينا بنجم فيه أضواء!
4
من الذي يسمع أشعاري؟
فإن صمت الموت في داري
والليل في ناري
من الذي يحمل عبء الصليب
في ذلك الليل الطويل الرهيب؟
من الذي يبكي ومن يستجيب
للجائع العاري؟
من ينزل المصلوب عن لوحه؟
من يطرد العقبان عن جرحه؟
من يرفع الظلماء عن صبحه؟
ويبدل الأشواك بالغار؟
3
أواه يا جيكور لو تسمعين!
أواه يا جيكور ... لو توجدين!
لو تنجبين الروح، لو تجهضين
كي يبصر الساري
نجما يضيء الليل للتائهين
5
نزع ولا موت
نطق ولا صوت
طلق ولا ميلاد
من يصلب الشاعر في بغداد؟
من يشتري كفيه أو مقلتيه؟
من يجعل الإكليل شوكا عليه؟
جيكور يا جيكور
شدت خيوط النور
أرجوحة الصبح
فأولمي للطيور
والنمل من جرحي •••
هذا طعامي أيها الجائعون
هذي دموعي أيها البائسون
هذا دعائي أيها العابدون
أن يقذف البركان نيرانه
أن يرسل الفرات طوفانه
كي نشرق الظلمه
كي نعرف الرحمه
جيكور يا جيكور
شدت خيوط النور
أرجوحة الصبح
فأولمي للطيور
والنمل من جرحي!
6
هذا حرائي
4
حاكت العنكبوت
خيطا إلى بابه
يهدي إلي الناس إني أموت
والنور في غابه
يلقي دنانير الزمان البخيل
من شرفة في سعفات النخيل
جيكور، يا جيكور: خل وماء
ينساب من قلبي
من جرحي الواري
من كل أغواري
أواه يا شعبي
جيكور، يا جيكور هل تسمعين؟
فلتفتحي الأبواب للفاتحين
ولتجمعي أطفالك اللاعبين
في ساحة القرية هذا العشاء
هذا حصاد السنين
الماء خمر، والخوابي غذاء
5
هذا ربيع الوباء
7
أقوى من الأسوار هذا الجواد: «أقوى جواد الحلم الأشهب»
لأن الحديد المغتذي بالحداد
وانخذل الموكب
جيكور، ماضيك عاد
هذا صياح الديك ذاب الرقاد
وعدت من معراجي الأكبر
الشمس أم السنبل الأخضر
خلف المباني، رغيف
لكنها في الرصيف
أغلى من الجوهر
والحب «هل تسمعين
هذا الهتاف العنيف؟
ماذا علينا؟ إن عبد اللطيف
6
يدري بأنا ... ما الذي تحذرين؟»
وانخطفت روحي، وصاح القطار
ورقرقت في مقلتي الدموع
سحابة تحملني، ثم سار
يا شمس أيامي، أما من رجوع؟ •••
جيكور، نامي في ظلام السنين.
رؤيا في عام 1956
1
حطت الرؤيا على عيني صقرا من لهيب
إنها تنقض، تجتث السواد
تقطع الأعصاب تمتص القذى من كل
جفن، فالمغيب
عاد منها توأما للصبح أنهار المداد
ليس تطفي غلة الرؤيا: صحارى من نحيب
من جحور تلفظ الأشلاء، هل جاء المعاد؟
أهو بعث، أهو موت، أهي نار أم رماد؟
أيها الصقر الإلهي الغريب
أيها المنقض من أولمب في صمت المساء
رافعا روحي لأطباق السماء
رافعا روحي غنيميدا
1
جريحا
صالبا عيني تموزا مسيحا
أيها الصقر الإلهي ترفق
إن روحي تتمزق
إنها عادت هشيما يوم أن أمسيت ريحا •••
في غيمة الرؤيا
يوم بلا ميعاد
جنكيز هل يحيا
جنكيز في بغداد؟
عين بلا أجفان
تمتد من روحي
شدق بلا أسنان
ينداح في الريح
يعوي أنا الإنسان
2
يا جوادا راكضا يعدو على جسمي الطريح
يا جوادا ساحقا عيني بالصخر السنابك
رابطا بالأربع الأرجل قلبي
فإذا بالنبض نقر للدرابك
وإذا بالنار دربي
سحت الرؤيا ضياء من لظاها
صابغا ما تبصر العين القريح
مازجا بالشيء ظله
خالطا فيها يهوذا بالمسيح
مدخلا في اليوم ليله
بانيا في عروة المهد الضريح
الدماء
الدماء
الدماء
وحدت بالمجرمين الأبرياء
نصبت في شدقي الذئبة كرسي القضاء
ماذا جنى شعبي؟
حلت به اللعنه
من زاده المحنه
رحماك يا ربي
من مائه الديدان
من لبسه الأكفان
من طيره الغربان
ينقرن في قلبي
واليوم في بيدري
لم يبق من حبي
شيء هنا حبتان
فأمطري أمطري
وإن يكن نيران
وأثمري أثمري
وإن يكن ثعبان
3
ما الذي يبدو على الأشجار حولي من ظلال؟
منجل يجتث أعراق الدوالي
قاطعا أعراق تموز الدفينه
وعلى القنب أشلاء حزينه
رأس طفل سابح في دمه
نهد أم تنقر الديدان فيه، في سكينه
أي آه من دم في فمه؟
ما الذي ينطف من حلمته، من لحمه؟
يا حبال القنب التفي كحيات السعير
واخنقي روحي وخلي الطفل والأم الحزينه؟
يا حبالا تسحب الموتى إلى قبر كبير
جفنة قد هيئوها للوليمه
يا حبالا تسحب الأحياء من شيخ كبير
من فتاة أو عجوز، من ضلوع حطموها
علقت فيها تميمه
من صدور مزقوها
زرعوا فيها بذورا من رصاص، من حديد
ما الذي تثمر هاتيك البذور
غير أحجار القبور؟
غير تفاح الصديد؟
4
تموز هذا، أتيس
2
هذا، وهذا الربيع
يا خبزنا يا أتيس
أنبت لنا الحب وأحي اليبيس
التأم الحفل وجاء الجميع
يقدمون النذور
يحيون كل الطقوس
ويبذرون البذور
سيقان كل الشجر
ضارعة، والنفوس
عطشى تريد المطر
شدوا على كل ساق
يا رب، تمثالك
فلتسق كل العراق
فلتسق فلاحيك، عمالك
شدوا على كل ساق
أواه، ما شدوا؟
أواه، ما سمروا؟
أغصان زيتوننا أثقلها الورد
ورد الدم، الأحمر
شدوا على كل ساق
يا رب تمثالك
فاسمع صلاة الرفاق
ولترع فلاحيك، عمالك
تمثالك البعل
تمثالك الطفل
تمثالك العذراء
تمثالك الجانون والأبرياء
تمثالك الأم الشماليه
لأنها ليست شيوعيه
يقطع نهداها
تسمل عيناها
تصلب صلبا فوق زيتونه
تهزها الريح الجنوبيه
تمثالك الآلاف، مجنونه
من رعبها، تمثالك الأحمر
كأنه الشقيق
3
إذ يزهر
5
عشتار
4
على ساق الشجره
صلبوها، دقوا مسمارا
في بيت الميلاد الرحم
عشتار بحفصة
5
مستتره
تدعى لتسوق الأمطارا
تدعى لتساق إلى العدم
عشتار العذراء الشقراء مسيل دم
صلوا هذا طقس المطر
صلوا هذا عصر الحجر
صلوا، بل أصلوها نارا
تموز تجسد مسمارا
من حفصة يخرج والشجره
النهد الأعذر فاض ليطعم كل فم
خبز الألم «الأقة» صاح القصاب: «من هذا اللحم بفلسين»
اقطع من لحم النهدين
اللحم لنا، والأثواب
ستكون لمسح السكينه
من آثار دم الأطفال
من آثار دم المسكينه
فتلحي زنود العمال
في قلبي دمدم زلزال
فجنائن بابل تندثر
في قلبي يصرخ أطفال
في قلبي يختنق القمر
الظلمة تعبس في قلبي
والجو رصاص
والريح تهب على شعبي
والريح رصاص
أواه لقد هجم التتر
فالصبح رصاص
والليل رصاص
6
الرؤيا تلمح كالقلع
في بحر يزبد غضبانا
طورا للأغوار وأحيانا
يعلو فنراه، وفي سمعي
أصداء تصمت أو تعلو
وبياني يغمض أو يجلو •••
أي حشد من وجوه كالحات
من أكف كالتراب
نبتها الآجر والفولاذ كالأرض اليباب؟
أي حشد من ذئاب؟
يطعمون الجو ريح المعمل؟
أي نعش، أي شكوى، أي دمع من نساء ثاكلات؟
أي جمع من عذارى نادبات
أي موت مثكل
يا لعشتاراتنا يبكين تموز القتيل •••
العازر قام من النعش
شخنوب
6
العازر قد بعثا
حيا يتقافز أو يمشي
كم ظل هناك وكم مكثا
أترى عاما أم عامين؟
أم دامت ميتته ساعه؟
شخنوب العامل، من راعه؟
فتنكر للدينارين
وتواثب يركض مذعورا؟
الموت الزائف خاتمة
لحياة زائفة مثله
والبعث الزائف عاقبة
للموت الزائف من قبله
7
ولفني الظلام في المساء
فامتصت الدماء
صحراء نومي تنبت الزهر
فإنما الدماء
توائم المطر.
قارئ الدم
أنا أيها الطاغوت مقتحم الرتاج على الغيوب
أبصرت يومك وهو يأزف
هذه سحب الغروب
يتوهج الدم في حفافيها وتنثر في الدروب
شفق البنفسج والورود ولون أردية الضحايا
فتشع أعمدة عوابس، والرصيف من الصبايا
والنسوة المتهامسات كحقل قمح، والسطوح
كأن بابل أودعتها من جنائنها بقايا
لو أن غرسا كان من بشر، وأسمع من يصيح: «هو ذا يساق إلى الحساب.» كأن أعراق المغيب
قطعت فصاح، كأن صوتا على لظى حملته ريح
من كل أودية الجحيم، هواه ... •••
إني شهدت سواك ينسفه اختناق للصدور
بغيظها، وسمعت قفقفة الضحايا في القبور
ودم الحوامل وهو تشربه الأجنحة في دجاها
فسمعت وقع خطاك خائرة تجر إلى السعير
حطام جسمك، والسعير مدى تراها
تحتز من قصبات صدرك ثأر كل دم العصور
إني أكلت مع الضحايا في صحاف من دماء
وشربت ما ترك الفم المسلول منه على الوعاء
وشممت ما سلخ الجذام من الجلود على ردائي
ونشقت ماء جوارب السجناء في نفس الهواء
فشممت فيه دخان دارك واحتراق بنيك فيها
وشواء لحم بنيك، لولا أن شيمة محرقيها
ألا يذوق الأبرياء جزاء غير الأبرياء
إني شببت مع الجياع، مع الملايين الفقيره
فعرفت أسرارا كثيره
كل اختلاجات القلوب وكل ألوان الدعاء
إغضاءة المقل الضريره
يتطلع الدم في ظلام جفونهن إلى الضياء
والحاملات نذورهن إلى قبور الأولياء
الموقدات شموعهن تلق ألسنها الكثيره
كسر الرغيف ويعتصرن دم الثدي إلى الذماء
وتأوه المستنقعات وزفة البردي فيها
وطنين أجنحة البعوض كأن غرقى ساكنيها
يتنفسون من القرار ويضرعون إلى السماء
أن ينجو الأطفال من غرق وحمى في الهواء
وملالة الأكواخ تشرب كل أمطار الشتاء
حتى تغص بها فللقصب النقيع بكل ماء
شهقات محتضر يغر وإن تقيأ بالدواء
وتنهد الأشجار عطشى يابسات في الظهيره
تنكسر الورقات فيها والمناقير الصغيره
فكأن مقبرة الهجيره
تمتص من رحم الحياة لتسقي الموتى عصيره •••
أنا قارئ الدم لا تراه وأنت أنت المستبيح
أفلست تجرؤ أن تحدق فيه علك تستريح
من ازدياد دم تذر على جفونك منه نار
لزج يسل مع الرقاد كأن بؤبؤك الذبيح؟
قابيل حدق في دماء أخيه أمس
وأنت يأخذك الدوار
من رؤية الدم وهو ينزف ثم يركد فالغبار
من تحته كفم الرضيع له اختلاج وافترار
أتخاف أن تطأ النبوءة مقلتيك «هو الدمار»
أتخاف منها أن تفر كأن سرب قطا يثار
فأنت مع هلع تخض إلى المشاش «هو الدمار»
إني خبرت الجوع يعصر من دمي ويمص مائي
وعرفت ما قلق الطريد يكاد كل فم ورائي
يعوي ب «ها هو ذا» وتوشك كل عين ألتقيها
أن يومض اسمي في قرارتها وجهلي بالدروب
ولست أسأل عابريها عن بعيد عن قريب
من منتهاها واكتئابي والحنين مع الغروب
وتوقع المتعقبين خطاي أحسب في صداها
وقع الخطى وأكاد ألتفت التفاتة مستريب
ألا تشد يد على كتفي وأوشك أن أراها
أعرفت ذاك؟ فسوف تعرف منه دنيا في مداها
تصطف أعمدة عوابس ثم تسمع من يصيح: «هو ذا يساق إلى الحساب.» كأنما اطرحت رداها
جثث القبور، كأن صوتا من لظى حملته ريح
من كل أودية الجحيم هوا ... ه!
ثعلب الموت
كم يمض الفؤاد أن يصبح الإنسان صيدا لرمية الصياد؟
مثل أي الظباء، أي العصافير، ضعيفا
قابعا في ارتعادة الخوف، يختض ارتياعا؛ لأن ظلا مخيفا
يرتمي ثم يرتمي في اتئاد
ثعلب الموت، فارس الموت، عزرائيل يدنو ويشحذ
النصل آه
منه آه، يصك أسنانه الجوعى ويرنو مهددا يا إلهي
ليت أن الحياة كانت فناء
قبل هذا الفناء، هذي النهايه
ليت هذا الختام كان ابتداء
وا عذاباه، إذ ترى أعين الأطفال هذا المهدد المستبيحا
صابغا بالدماء كفيه، في عينيه نار وبين فكيه نار
كم تلوت أكفهم واستجاروا
وهو يدنو ... كأنه احتث ريحا
مستبيحا
مستبيحا، مهددا، مستبيحا
من رآها، دجاجة الريف، إذ يمسي عليها المساء في بستانه؟
حين ينسل نحوها الثعلب الفراس، يا للصريف من أسنانه!
وهي تختص، شلها الرعب، أبقاها بحيث الردى
كأن الدروب
استلها مارد، كأن النيوبا
سور بغداد موصد الباب، لا منجى لديه ولا خلاص ينال
هكذا نحن حينما يقبل الصياد عزريل
رجفة فاغتيال.
المبغى
بغداد؟
1
مبغى كبير: «لواحظ المغنية
كساعة تتك في الجدار
في غرفة الجلوس في محطة القطار»
يا جثة على الثرى مستلقيه
الدود فيها موجة من اللهيب والحرير •••
بغداد كابوس: «ردى فاسد
يجرعه الراقد
ساعاته الأيام، أيامه الأعوام، والعام نير
العام جرح ناغر في الضمير» •••
عيون المها بين الرصافة والجسر
ثقوب رصاص رقشت صفحة البدر
ويسكب البدر على بغداد
من ثقبي العينين شلالا من الرماد
الدور دار واحده
وتعصر الدروب، كالخيوط، كلها
في قبضة مارده
تمطها، تشلها
تحيلها دربا إلى الهجير
وأوجه الحسان كلهن وجه «ناهده»: «حبيبتي التي لعابها عسل
صغيرتي التي أردافها جبل
وصدرها قلل» •••
ونحن في بغداد؟ من طين
يعجنه الخزاف تمثالا
دنيا كأحلام المجانين
ونحن ألوان على لجها المرتج أشلاء وأوصالا •••
بالأمس كان العيد، عيد الزهور
الزاد تحثوه الربى، والخمور
والرقص، والأغنيات
والحب، والكركرات
ثم انتهى إلا بقايا طيور
تلتقط الحب، وإلا دماء
مما نماه الحقل، طير وشاء
وغير أطفال يطوفون أور: ••• «العيد، من قال انتهى عيدنا؟
فلتملأ الدنيا أناشيدنا
فالأرض ما زالت بعيد تدور ...»
بالأمس كان العيد، عيد الزهور
واليوم ما نفعل؟
نزرع أم نقتل؟ •••
أهذه بغداد؟
أم أن عاموره
عادت فكان المعاد
موتا؟ ولكنني في رنة الأصفاد
أحسست ... ماذا؟ صوت ناعوره
أم صيحة النسغ الذي في الجذور؟
النهر والموت
1
بويب
بويب
أجراس برج ضاع في قرارة البحر
الماء في الجرار، والغروب في الشجر
وتنضح الجرار أجراسا من المطر
بلورها يذوب في أنين «بويب يا بويب!»
فيدلهم في دمي حنين
إليك يا بويب
يا نهري الحزين كالمطر
أود لو عدوت في الظلام
أشد قبضتي تحملان شوق عام
في كل إصبع، كأني أحمل النذور
إليك، من قمح ومن زهور
أود لو أطل من أسرة التلال
لألمح القمر
يخوض بين ضفتيك، يزرع الظلال
ويملأ السلال
بالماء والأسماك والزهر
أود لو أخوض فيك، أتبع القمر
وأسمع الحصى يصل منك في القرار
صليل آلاف العصافير على الشجر
أغابة من الدموع أنت أم نهر؟
والسمك الساهر هل ينام في السحر؟
وهذه النجوم، هل تظل في انتظار
تطعم بالحرير آلافا من الإبر؟
وأنت يا بويب
أود لو غرقت فيك، ألقط المحار
أشيد منه دار
يضيء فيها خضرة المياه والشجر
ما تنضح النجوم والقمر
وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر!
فالموت عالم غريب يفتن الصغار
وبابه الخفي كان فيك، يا بويب
2
بويب يا بويب
عشرون قد مضين، كالدهور كل عام
واليوم، حين يطبق الظلام
وأستقر في السرير دون أن أنام
وأرهف الضمير: دوحة إلى السحر
مرهفة الغصون والطيور والثمر
أحس بالدماء والدموع كالمطر
ينضحهن العالم الحزين
أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين
فيدلهم في دمي حنين
إلى رصاصة يشق ثلجها الزؤام
أعماق صدري كالجحيم يشعل العظام
أود لو عدوت أعضد المكافحين
أشد قبضتي ثم أصفع القدر
أود لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة. إن موتى انتصار!
المسيح بعد الصلب
بعدما أنزلوني، سمعت الرياح
في نواح طويل تسف النخيل
والخطى وهي تنأى إذن فالجراح
والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل
لم تمتني. وأنصت كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينه
مثل حبل يشد السفينه
وهي تهوي إلى القاع كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح
والدجى في سماء الشتاء الحزينه
ثم تغفو على ما تحس المدينه •••
حينما يزهر التوت والبرتقال
حيت تمتد «جيكور» حتى حدود الخيال
حين تخضر عشبا يغني شذاها
والشموس التي أرضعتها سناها
حين يخضر حتى دجاها
يلمس الدفء قلبي، فيجري دمي في ثراها
قلبي الشمس إذ تنبض الشمس نورا
قلبي الأرض، تنبض قمحا وزهرا وماء نميرا
قلبي الماء، قلبي هو السنبل
موته البعث يحيا بمن يأكل
في العجين الذي يستدير
ويدحى كنهد صغير، كثدي الحياه
مت بالنار أحرقت ظلماء طيني، فظل الإله
كنت بدءا، وفي البدء كان الفقير
مت، كي يؤكل الخبز باسمي، لكي يزرعوني مع الموسم
كم حياة سأحيا ففي كل حفره
صرت مستقبلا، صرت بذره
صرت جيلا من الناس، في كل قلب دمي
قطرة منه أو بعض قطره •••
هكذا عدت، فاصفر لما رآني يهوذا
فقد كنت سره
كان ظلا، قد اسود مني، وتمثال فكره
جمدت فيه واستلت الروح منها
خاف أن تفضح الموت في ماء عينيه ... (عيناه صخره
راح فيها يواري عن الناس قبره)
خاف من دفئها، من محال عليه، فخبر عنها: «أنت؟ أم ذاك ظلي قد ابيض وارفض نورا؟
أنت من عالم الموت تسعى؟ هو الموت مره
هكذا قال آباؤنا، هكذا علمونا، فهل كان زورا؟»
ذاك ما ظن لما رآني، وقالته نظره •••
قدم تعدو، قدم قدم
القبر يكاد بوقع خطاها ينهدم
أترى جاءوا؟ من غيرهم؟
قدم ... قدم ... قدم
ألقيت الصخر على صدري
أوما صلبوني أمس؟ ... فها أنا في قبري
فليأتوا. إني في قبري
من يدري أني ...؟ من يدري؟!
ورفاق يهوذا! من سيصدق ما زعموا؟
قدم قدم
ها أنا الآن عريان في قبري المظلم
كنت بالأمس ألتف كالظن، كالبرعم
تحت أكفاني الثلج يخضل زهر الدم
كنت كالظل بين الدجى والنهار
ثم فجرت نفسي كنوزا فعريتها كالثمار
حين فصلت جيبي قماطا وكمي دثار
حين دفأت يوما بلحمي عظام الصغار
حين عريت جرحي، وضمدت جرحا سواه
حطم السور بيني وبين الإله •••
فاجأ الجند حتى جراحي ودقات قلبي
فاجأوا كل ما ليس موتا وإن كان في مقبره
فاجئوني كما فاجأ النخلة المثمره
سرب جوعى من الطير في قرية مقفره •••
أعين البندقيات يأكلن دربي
شرع تحلم النار فيها بصلبي
إن تكن من حديد ونار، فأحداق شعبي
من ضياء السماوات، من ذكريات وحب
تحمل العبء عني فيندى صليبي، فما أصغره
ذلك الموت، موتي، وما أكبره! •••
بعد أن سمروني وألقيت عيني نحو المدينه
كدت لا أعرف السهل والسور والمقبره
كان شيء، مدى ما ترى العين
كالغابة المزهره
كان في كل مرمى، صليب وأم حزينه
قدس الرب!
هذا مخاض المدينه.
مدينة السندباد
1
جوعان في القبر بلا غذاء
عريان في الثلج بلا رداء
صرخت في الشتاء
أقض يا مطر
مضاجع العظام والثلوج والهباء
مضاجع الحجر
وأنبت البذور، ولتفتح الزهر
وأحرق البيادر العقيم بالبروق
وفجر العروق
وأثقل الشجر
وجئت يا مطر
تفجرت تنثك السماء والغيوم
وشقق الصخر
وفاض من هباتك الفرات واعتكر
وهبت القبور، هز موتها وقام
وصاحت العظام
تبارك الإله، واهب الدم المطر
فآه يا مطر!
نود لو ننام من جديد
نود لو نموت من جديد
فنومنا براعم انتباه
وموتنا يخبئ الحياه
نود لو أعادنا الإله
إلى ضمير غيبه الملبد العميق
نود لو سعى بنا الطريق
إلى الوراء، حيث بدؤه البعيد
من أيقظ «العازر» من رقاده الطويل؟
ليعرف الصباح والأصيل
والصيف والشتاء
لكي يجوع أو يحس جمرة الصدى
ويحذر الردى
ويحسب الدقائق الثقال والسراع
ويمدح الرعاع
ويسفك الدماء!
من الذي أعادنا، أعاد ما نخاف؟
من الإله في ربوعنا؟
تعيش ناره على شموعنا
يعيش حقده على دموعنا
2
أهذا أدونيس، هذا الحواء؟
وهذا الشحوب، وهذا الجفاف؟
أهذا أدونيس، أين الضياء؟
وأين القطاف؟
مناجل لا تحصد
أزاهر لا تعقد
مزارع سوداء من غير ماء!
أهذا انتظار السنين الطويله؟
أهذا صراخ الرجوله؟
أهذا أنين النساء؟
أدونيس! يا لاندحار البطوله
لقد حطم الموت فيك الرجاء
وأقبلت بالنظرة الزائغه
وبالقبضة الفارغه
بقبضة تهدد
ومنجل، لا يحصد
سوى العظام والدم
اليوم؟ والغد؟
متى سيولد؟
متى سنولد؟
3
الموت في الشوارع
والعقم في المزارع
وكل ما نحبه يموت
الماء قيدوه في البيوت
وألهث الجداول الجفاف
هم التتار أقبلوا، ففي المدى رعاف
وشمسنا دم، وزادنا دم على الصحاف
محمد اليتيم أحرقوه فالمساء
يضيء من حريقه، وفارت الدماء
من قدميه، من يديه، من عيونه
وأحرق الإله في جفونه
محمد النبي في «حراء» قيدوه
فسمر النهار حيث سمروه
غدا سيصلب المسيح في العراق
ستأكل الكلاب من دم البراق
1
4
يا أيها الربيع
يا أيها الربيع ما الذي دهاك؟
جئت بلا مطر
جئت بلا زهر
جئت بلا ثمر
وكان منتهاك مثل مبتداك
يلفه النجيع ...
وأقبل الصيف علينا أسود الغيوم
نهاره هموم
وليله نسهر فيه نحسب النجوم
حتى إذا السنابل
نضجن للحصاد
وغنت المناجل
وغطت البيادر الوهاد
خيل للجياع أن ربة الزهر
عشتار، قد أعادت الأسير للبشر
وكللت جبينه الغضير بالثمر
خيل للجياع أن كاهل المسيح
أزاح عن مدفنه الحجر
فسار يبعث الحياة في الضريح
ويبرئ الأبرص أو يجدد البصر؟
من الذي أطلق من عقالها الذئاب؟
من الذي سقى من السراب؟
وخبأ الوباء في المطر؟
الموت في البيوت يولد
يولد قابيل لكي ينتزع الحياه
من رحم الأرض ومن منابع المياه
فيظلم الغد
وتجهض النساء في المجازر
ويرقص اللهيب في البيادر
ويهلك المسيح قبل العازر
دعوه يرقد
دعوه فالمسيح ما دعاه!
ما تبتغون! لحمه المقدد
يباع في مدينة الخطاه
مدينة الحبال والدماء والخمور
مدينة الرصاص والصخور!
أمس أزيح من مداها فارس النحاس
أمس أزيح فارس الحجر
فران في سمائها النعاس
ورنق الضجر
وجال في الدروب فارس من البشر
يقتل النساء
ويصبغ المهود بالدماء
ويلعن القضاء والقدر!
5
كأن بابل القديمة المسوره
تعود من جديد
قبابها الطوال من حديد
يدق فيها جرس كأن مقبره
تئن فيه، والسماء ساح مجزره
جنانها المعلقات زرعها الرءوس
تجزها قواطع الفئوس
وتنقر الغربان من عيونها
وتغرب الشموس
وراء شعرها الخصيب في غصونها
أهذه مدينتي؟ أهذه الطلول
خط عليها: «عاشت الحياه»
من دم قتلاها، فلا إله
فيها، ولا ماء، ولا حقول؟
أهذه مدينتي؟ خناجر التتر
تغمد فوق بابها، وتلهث الفلاه
حول دروبها، ولا تزورها القمر؟
أهذه مدينتي أهذه الحفر
وهذه العظام؟
يطل من بيوتها الظلام
وتصبغ الدماء بالقتام
لكي تضيع، لا يراها قاطع الأثر؟
أهذه مدينتي؟ جريحة القباب
فيها يهوذا أحمر الثياب
يسلط الكلاب
على مهود إخوتي الصغار ... والبيوت
تأكل من لحومهم وفي القرى تموت
عشتار عطشى، ليس في جبينها زهر
وفي يديها سلة ثمارها حجر
ترجم كل زوجة به وللنخيل
في شطها عويل.
أنشودة المطر
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهر
يرجه المجذاف وهنا ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما، النجوم •••
وتغرقان في ضباب من أسى شفيف
كالبحر سرح اليدين فوقه المساء
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف
والموت، والميلاد، والظلام، والضياء
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء
ونشوة وحشية تعانق السماء
كنشوة الطفل إذا خاف من القمر!
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
وقطرة فقطرة تذوب في المطر
وكركر الأطفال في عرائش الكروم
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر
مطر
مطر
تثاءب المساء، والغيوم ما تزال
تسح ما تسح من دموعها الثقال
كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه التي أفاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال
قالوا له: «بعد غد تعود»
لا بد أن تعود
وإن تهامس الرفاق أنها هناك
في جانب التل تنام نومة اللحود
تسف من ترابها وتشرب المطر
كأن صيادا حزينا يجمع الشباك
ويلعن المياه والقدر
وينثر الغناء حيث يأفل القمر
مطر
مطر
أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
بلا انتهاء - كالدم المراق، كالجياع
كالحب كالأطفال، كالموتى - هو المطر!
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروق
سواحل العراق بالنجوم والمحار
كأنها تهم بالشروق
فيسحب الليل عليها من دم دثار
أصيح بالخليج: «يا خليج
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!»
فيرجع الصدى
كأنه النشيج: «يا خليج
يا واهب المحار والردى» •••
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن البروق في السهول والجبال
حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الواد من أثر
أكاد أسمع النخيل يشرب المطر
وأسمع القرى تئن، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
عواصف الخليج، والرعود، منشدين: «مطر
مطر
مطر
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحى تدور في الحقول حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموع
ثم اعتللنا - خوف أن نلام - بالمطر
مطر
مطر
ومنذ أن كنا صغارا، كانت السماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام - حين يعشب الثرى - نجوع
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
مطر ...
مطر
مطر
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي، واهب الحياة!
مطر
مطر
مطر
سيعشب العراق بالمطر» •••
أصيح بالخليج: «يا خليج
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!»
فيرجع الصدى
كأنه النشيج: «يا خليج
يا واهب المحار والردى»
وينثر الخليج من هباته الكثار
على الرمال، رغوه الأجاج، والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج والقرار
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
من زهرة يربها الفرات بالندى
وأسمع الصدى
يرن في الخليج: «مطر
مطر
مطر
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي، واهب الحياة» •••
ويهطل المطر.
سربروس في بابل
ليعو سربروس
1
في الدروب
في بابل الحزينة المهدمه
ويملأ الفضاء زمزمه
يمزق الصغار بالنيوب، يقضم العظام
ويشرب القلوب
عيناه نيزكان في الظلام
وشدقه الرهيب موجتان من مدى
تخبئ الردى
أشداقه الرهيبة الثلاثة احتراق
يؤج في العراق
ليعو سربروس في الدروب
وينبش التراب عن إلهنا الدفين
تموزنا الطعين
يأكله يمص عينيه إلى القرار
يقصم صلبه القوي، يحطم الجرار
بين يديه، ينثر الورود والشقيق
أواه لو يفيق
إلهنا الفتي، لو يبرعم الحقول
لو ينثر البيادر النضار في السهول
لو ينتضي الحسام، لو يفجر الرعود والبروق والمطر
ويطلق السيول من يديه آه لو يئوب!
لحافنا التراب، فوقه من القمر
دم، ومن نهود نسوة العراق طين
ونحن إذ نبص من مغاور السنين
نرى العراق، يسأل الصغار في قراه: «ما القمح؟ ما الثمر؟»
ما الماء؟ ما المهود؟ ما الإله؟ ما البشر؟
فكل ما نراه
دم ينز أو حبال، فيه، أو حفر
أكانت الحياه
أحب أن تعاش، والصغار آمنين؟
أكانت الحقول تزهر؟
أكانت السماء تمطر؟
أكانت النساء والرجال مؤمنين
بأن في السماء قوة تدبر
تحس، تسمع الشكاة، تبصر
ترق، ترحم الضعاف، تغفر الذنوب؟
أكانت القلوب
أرق، والنفوس بالصفاء تقطر؟
وأقبلت إلهة الحصاد
رفيقة الزهور والمياه والطيوب
عشتار ربة الشمال والجنوب
تسير في السهول والوهاد
تسير في الدروب
تلقط منها لحم تموز إذا انتثر
تلمه في سلة كأنه الثمر
لكن سربروس بابل، الجحيم
يحب في الدروب خلفها ويركض
يمزق النعال في أقدامها، يعضعض
سيقانها اللدان، ينهش اليدين أو يمزق الرداء
يلوث الوشاح بالدم القديم
يمزج الدم الجديد بالعواء
ليعو سربروس في الدروب
لينهش الإلهة الحزينة، الإلهة المروعه
فإن من دمائها ستخضب الحبوب
سينبت الإله، فالشرائح الموزعه
تجمعت، تململت، سيولد الضياء
من رحم ينز بالدماء.
مدينة بلا مطر
مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب
تحم دروبها والدور، ثم تزول حماها
ويصبغها الغروب بكل ما حملته من سحب
فتوشك أن تطير شرارة ويهب موتاها: «صحا من نومه الطيني تحت عرائش العنب
صحا تموز، عاد لبابل الخضراء يرعاها»
وتوشك أن تدق طبول بابل، ثم يغشاها
صفير الريح في أبراجها وأنين مرضاها
وفي غرفات عشتار
تظل مجامر الفخار خاوية بلا نار
ويرتفع الدعاء، كأن كل حناجر القصب
من المستنقعات تصيح: «لاهثة من التعب
تئوب إلهة الدم، خبز بابل، شمس آذار
ونحن نهيم كالغرباء من دار إلى دار
لنسأل عن هداياها
جياع نحن وا أسفاه! فارغتان كفاها
وقاسيتان عيناها
وباردتان كالذهب
سحائب مرعدات مبرقات دون إمطار
قضينا العام، بعد العام، بعد العام، نرعاها
وريح تشبه الإعصار، لا مرت كإعصار
ولا هدأت. ننام ونستفيق ونحن نخشاها
فيا أربابنا المتطلعين بغير ما رحمه
عيونكم الحجار نحسها تنداح في العتمه
لترجمنا بلا نقمه
تدور كأنهن رحى بطيئات تلوك جفوننا
حتى ألفناها
عيونكم الحجار كأنها لبنات أسوار
بأيدينا، بما لا تفعل الأيدي، بنيناها
عذارانا حزانى ذاهلات حول عشتار
يغيض الماء شيئا بعد شيء من محياها
وغصنا بعد غصن تذبل الكرمه
بطيء موتنا المنسل بين النور والظلمه
له الويلات من أسد نكابد شدقه الأدرد!
أنار البرق في عينيه أم من شعلة المعبد؟
أفي عينيه مبخرتان أوجرتا لعشتار؟
أنافذتان من ملكوت ذاك العالم الأسود
هنالك حيث يحمل، كل عام، جرحه الناري
جرح العالم الدوار، فاديه
ومنقذه الذي في كل عام من هناك يعود بالأزهار
والأمطار، تجرحنا يداه لنستفيق على أياديه؟
ولكن مرت الأعوام، كثرا ما حسبناها
بلا مطر ولو قطره
ولا زهر ولو زهره
بلا ثمر، كأن نخيلنا الجرداء أنصاب أقمناها
لنذبل تحتها ونموت
سيدنا جفانا آه يا قبره
أما في قاعك الطيني من جره؟
أما فيها بقايا من دماء الرب أو بذره؟
حدائقه الصغيرة أمس جعنا فافترسناها
سرقنا من بيوت النمل، من أجرانها، دخنا وشوفانا
وأوشابا زرعناها
فوفينا - وما وفى لنا - نذره!» •••
وسار صغار بابل يحملون سلال صبار
وفاكهة من الفخار، قربانا لعشتار
ويشعل خاطف البرق
بظل من ظلال الماء والخضراء والنار
وجوههم المدورة الصغيرة وهي تستسقي
فيوشك أن يفتح - وهي تومض - حقل نوار
ورف، كأن ألف فراشة نثرت على الأفق
نشيدهم الصغير: «قبور إخوتنا تنادينا
وتبحث عنك أيدينا
لأن الخوف ملء قلوبنا، ورياح آذار
تهز مهودنا فنخاف والأصوات تدعونا
جياع نحن مرتجفون في الظلمه
ونبحث عن يد في الليل تطعمنا، تغطينا
نشد عيوننا المتلفتات بزندها العاري
ونبحث عنك في الظلماء، عن ثديين، عن حلمه
فيا من صدرها الأفق الكبير وثديها الغيمه
سمعت نشيجنا ورأيت كيف نموت ... فاسقينا!
نموت، وأنت - وا أسفاه - قاسية بلا رحمه
فيا آباءنا، من يفتدينا؟ من سيحيينا؟
ومن سيموت يولم لحمه فينا؟»
وأبرقت السماء كأن زنبقة من النار
تفتح فوق بابل نفسها، وأضاء وادينا
وغلغل في قرارة أرضنا وهج فعراها
بكل بذورها وجذورها وبكل موتاها
وسح، وراء ما رفعته بابل حول حماها
وحول ترابها الظمآن، من عمد وأسوار
سحاب لولا هذه الأسوار رواها!
وفي أبد من الإصغاء بين الرعد والرعد
سمعنا، لا حفيف النخل تحت العارض السحاح
أو ما وشوشته الريح حيث ابتلت الأدواح
ولكن خفقة الأقدام والأيدي
وكركرة و«آه» صغيرة قبضت بيمناها
على قمر يرفرف كالفراشة ، أو على نجمه
على هبة من الغيمه
على رعشات ماء، قطرة همست بها نسمه
لنعلم أن بابل سوف تغسل من خطاياها!
بور سعيد
يا حاصد النار من أشلاء قتلانا
منك الضحايا، وإن كانوا ضحايانا
كم من ردى في حياة، وانخذال ردى
في ميتة، وانتصار جاء خذلانا!
إن العيون التي طفأت أنجمها
عجلن بالشمس أن تختار دنيانا
وامتد، كالنور، في أعماق تربتنا
غرس لنا من دم، واخضل موتانا
فازلزلي يا بقايا كاد أولنا
يبقي عليها، من الأصنام، لولانا
نحن الذين اقتلعنا من أسافلها
لاة وعزى، وأعليناه إنسانا
حييت بورت سعيد، من مسيل دم
لولا افتداء لما يغليه، ما هانا
حييت من قلعة صماء ناطحها
عاد من الوحش يزجيهن قطعانا
عاناك في الليل داج من جحافلها
نورا من الله أعماها ونيرانا
ما عاد ليل قد استخفى بأقنعة
من أوجه الناس، لولا أنت، عريانا
ليل تعيذ الكهوف السود آنية
فيها وفكا لموتاها وصوانا
من بعض ما فيه من ظلماء، ما عرفت
باسم لها، فهي قبل اسم إذا كانا
حييت من قلعة ما آد كاهلها
عبء السماوات إلا خف إيمانا
أمسكتها أن يميد الظالمون بها
دينا لنا وانتصارات وعنوانا
يا مرفأ النور، ما أرجعت وادعة
من غير زاد، ولا آويت قرصانا
ولا تلفظت من مرساك معتديا
إلا مدمى ذليل الهام خزيانا
جمعت من شط صور لمح أحرفها
واخترت من بابل واحتزت مروانا
والنيل ساق العذارى من عرائسه
للخصب، في موكب الفادين، قربانا!
فالويل لو كان للعادين ما قدروا!
لانهد من حاضر ماض فأخزانا
فلا ابتنى هرما بان، ولا لبست
تيجانها، في انتظار الروح، موتانا
ولا تفجر في «ذي قار» فتيتها
ولا تنفست الصحراء قرآنا!
حييت موتى، وأحياء، وأبنية
مستشهدات أو استعصين أركانا
والنار والباذرون النار كم زرعوا
من كل ثكلى لعزرائيل بستانا!
من كل وجه لطفل فيه زنبقة
تدمى، وتلتم فيه الريح غربانا
الجو مما يلزون الحديد به
قاع الجحيم التظى وانصب طوفانا
سقاك من كل غيم فيه أحرزه
جوف الثرى واشتهته النار أزمانا
كأس الرصاص التي غنى بتوأمها «سقراط» وابتل منها جرح وهرانا
1
من أيما رئة؟ من أي قيثار
تنهل أشعاري؟
من غابة النار؟
أم من عويل الصبايا بين أحجار
منها تتز المياه السود واللبن المشوي كالقار؟
من أي أحداق طفل فيك تغتصب؟
من أي خبز وماء فيك ما صلبوا؟
من أيما شرفة؟ من أيما دار؟
تنهل أشعاري
كالثار؟
كالنور في رايات ثوار؟
من مائك السهران أوتاري؟
أم برجك الهاري
يبكي دما من جرح بحار؟
أطفالك الموتى، على المرفأ
يبكون في الريح الشماليه
والنور من مصباحه المطفأ
قد غار كالمديه
في صدري العاري
أطفالك الأموات عار الحديد
في عرسه الدامي، وذل الرصاص
مالوا بملك شقاء العبيد
واستنزلوا أربابه للقصاص
في ساحة النار
يبكون في الريح الشماليه
أسرى على السفن الصليبيه
والريح كالمديه
تجتث أظفاري
يبكون في داري •••
بالقش والطين سدوا كوة القمر
والريح في الشجر
قد كمموا فاها
كي لا تصيح: «اخبئوا عن أعين الغجر
أطفالكم، فهي ما ترتد إحداها
إلا وحال الذي تلقى، إلى حجر»
الريح قيثاري
قد كمموا فاها.
هاويك أعلى من الطاغوت فانتصبي
ماذل غير الصفا - للنار - والخشب
حييت من قلعة شق الفضاء بها
أس لها في صدور الفتية العرب
الطين فيها دم منا، وجندلها
من عزمة، والحديد الصلد من غضب
أنت السماوات والأرض، التي خلقت
في عشرة تحسب الأيام بالحقب
والصخر فيك استمد الروح إذ لمست
عقم الجمادات فيه إصبع اللهب
في كل أنقاض دار، من صفاه يد
جبارة تصفع العادين كالشعب
ما انهد إلا وأعلى في ضمائرنا
سدا من الثار أعيى حيلة النوب
والماء، حتى زلال الماء، فيك مدى
من فضة الله توهي جحفل الذهب
ما بل للجحفل المأجور غلته
حتى جبى قدر ماء من دم سرب!
أملى على كل شيء فيك جوهره
خلف لجيشين ذي قربى وذي أرب
إن الحديد الذي صنت الحياة به
غير الحديد الذي وافاك بالعطب
والخير في بندقيات قذائفها
حتف المغيرين، والميلاد في قضب
لكنه الشر في خبز حقائبه
عون لأعدائك الجوعى، وفي قرب!
ليت المسيح الذي داجى بشرعته
من باع مثواه، راء فيك عن كثب
خرس نواقيسك الثكلى ودامية
فيك الأناجيل، والموتى بلا صلب
والحابس الماء عن جرحاك حملها
عبء الصليبيين من حمى ومن خشب
واستنطق الأم ثكلى أين جيرتها
من فتية لاصطياد العسكر اللجب؟
فالتم في مقلتيها، وهي تنظره
كل المخاضات والتسهيد والنصب
كأنما استودعتها كل والدة
آجال كل الذراري طيلة الحقب
فاختارت الموت صعلوكا مراضعها
معروكة في رحى تترى من الركب
تفدي بما يستبيح الجند من دمها
والنار، أعراض كل الخرد العرب
أبناء «جنكيز» في روح، وإن بعدوا
في نسبة رب قربى دون منتسب
شر اللصوص، إذا عف التتار فما
عفوا عن الريش والأسمال واللعب!
فلتنفخ الصور في أفريقيا أمم
بالأمس قد أنزلوها أسفل الرتب
ولتسمعن الزنوج البيض صيحتها: «إنا إلى الله أدنى منك في نسب!»
حييت فالوحش أوهى فيك مخلبه
يا غابة النار قد أثمرت بالغلب!
من أي عبء على روحي ومسمار
من أعين، في صليب تحت أسواري
تأتيك أشعاري؟
حمراء خضراء من جرح ومن غار
خضراء من راية، حمراء من نار
خضراء كالماء في فردوسك الجاري؟
يا ليت أوتاري
خضراء حمراء من قلبي ومن ثاري!
يا ليت أبواب قلبي منك تلتهب!
يا ليتها دون قفل، ليتها خشب!
أو خرب الجند قلبي، فهي تنتحب
في كل إعصار!
سود، كما اسودت الأموات، أنهاري
فالطين فيها فم يمتص أسفاري
والريح في داري
سوداء ما رف منها باللظى عصب
لا تسألي بعد عنها إنها عشب
أعواده السود غذى عجله الذهب
منها، فخبأت في عيني قيثاري!
كوني لأشعاري
وحيا، وشدي ببأس منك أوتاري
يا مرفأ النور، كن مرسى لأفكاري!
يا مرفأ النار
ألهبت أغواري
بالثار
مزقت عنها سود أستار
فانهلت الشمس على داري •••
كم من دفين، كل ماء القنال
في مده العاتي وفي جزره
يلقى على صدره
عبئا من الظلماء، كان القتال
من أجل أن يرتاح في قبره!
ما كان إلا من دموع الرجال
والنسوة الباكين في قعره
هذا الذي بين العبابين سال !
كالليل هذا الماء فوق القبور
كالنار، كالإعصار، كالداء
تختض في ليل الخليج الصدور
والشمس تحسو كل ماء الصدور
في عالم لم تمش فيه العصور
من ملتقى للماء بالماء!
كالليل هذا الماء، ند الحياه
الموت والميلاد بوابتاه
في قاعة الموتى قد استبدلوا
بالنبض، ما يرغي به المرجل
في موقرات، من سفين الغزاه
بالموت مما يصنع المعمل
حتى إذا ما رش عار العتاه
بالدمع من عينيه، والنار
من قالبه المورق بالغار
إنسانك العملاق ظل الإله
ظل الملايين التي مقلتاه
عنها ترى ما في خيال تراه
هذا الذي أعصابها في قواه
أحيا دم الموتى، فخر الطغاه!
فليحرس الأحياء باب الحياه!
غاص المغيرون عن واديك وانحسروا
فالأرض تدمى بقتلاها وتزدهر
وازدارك الموت لا ملسا ملامحه
بيضا، كما تهلك الأنعام والشجر
حاشاك! فالموت توري فيك حدته
طعم الدم الحي، ما يرقى به البشر
أخفاه عنك التزام فيك واشتباك يد
في مثلها، فهو حيث اجتازه البصر
حتى إذا ارتد واستبشعت صورته
أدركت أي انتصار ذلك الظفر!
أدركت أن الضحايا رد كاثرها
فيك الأقل المضحي أنها كثر
من سدد النار في أيديك، يوردها
كيد المغيرين منه الظن والنظر؟
واحتاز في قلبه الأحقاب، يزرعها
في جانب منه واستبسالك الثمر؟
واستنفر الشرق حتى كاد ميته
يسعى، أهذا صلاح الدين أم عمر؟
هذا الذي حدثتنا عنه أنفسنا
في كل دهياء نبلوها وننتظر
هذا الذي كل، عن سحق لبذرته
بالخيل والذابلات، الروم والتتر
يا أمة تصنع الأقدار من دمها
لا تيأسي إن «سيف الدولة» القدر
أعطى لكل انتصار فيك جدته
فاخضل واخضلت الآيات والسور
في مسجد أم مشاء بأمته
فيه المصلين، حتى كبر الحجر!
واستشرف الساح ناء عنه يحمله
ما بين جنبيه، رام فيه منتصر
عين لسيناء ترقى كل رابية
فيها، وعين وراء النيل تنحدر
أو تنفض الأفق، حتى ضاء من لهب
حملاقها، فهي مما راء تستعر!
جاءوك! جاء الصليبيون، قاصفة
تنقض في إثر أخرى، فاللظى مطر
في كل فانوس موتى من قذائفها
نور له اختضت الأبعاد والعصر
فالشرق عار مدى عينيه، منبسط
كالراحة الدور، والأكواخ والحفر
يكاد يبصر ما أبقاه مكتدح
في جبهة، واغتذى من مقلة سهر
إيماضة البرق ألا أنها حقب
تطوى، ومستقبل يبنى ويدخر!
المجد لله والإنسان إن يدا
تحيي وقلبا يداوي، منهما أثر!
يا قلعة النور تدمي كل نافذة
فيها، وتلظى، ولا تستلم، الحجر
أحسست بالذل أن يلقاك دون دمي
شعري، وأني بما ضحيت أنتصر
لكنها باقة أسعى أليك بها
حمراء يخضل فيها من دمي زهر!
1956
المومس العمياء
الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينه
والعابرون، إلى القرارة مثل أغنية حزينه
وتفتحت، كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق
كعيون «ميدوزا»،
1
تحجر كل قلب بالضغينه
وكأنها نذر تبشر أهل «بابل» بالحريق •••
من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف
من أي وجر للذئاب؟
من أي عش في المقابر دف أسفع كالغراب؟ «قابيل»
2
أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف
وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء
ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء!
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينه
والليل زاد لها عماها
والعابرون
الأضلع المتقوسات على المخاوف والظنون
والأعين التعبى تفتش عن خيال في سواها
وتعد آنية تلألأ في حوانيت الخمور
موتى تخاف من النشور
قالوا: سنهرب، ثم لاذوا بالقبور من القبور! •••
من هؤلاء العابرون؟
أحفاد «أوديب»
3
الضرير ووارثوه المبصرون «جوكست» أرملة كأمس، وباب «طيبة» ما يزال
يلقي «أبو الهول» الرهيب عليه، من رعب ظلال
والموت يلهث في سؤال
باق كما كان السؤال، ومات معناه القديم
من طول ما اهترأ الجواب على الشفاه
وما الجواب؟ «أنا.» قال بعض العابرين
وانسلت الأضواء من باب تثاءب كالجحيم
تطفو عليهن البغايا كالفراشات العطاش
يبحثن في النيران عن قطرات ماء عن رشاش •••
لا تثقلن خطاك فالمبغى «علائي»
4
الأديم
أبناؤك الصرعى تراب تحت نعلك مستباح
يتضاحكون ويعولون
أو يهمسون بما جناه أب يبرئه الصباح
مما جناه، ويتبعون صدى خطاك إلى السكون •••
الحارس المكدود يعبر، والبغايا متعبات
النون في أحداقهن يرف كالطير السجين
وعلى الشفاه أو الجبين
تترنح البسمات والأصباغ ثكلى، باكيات
متعثرات بالعيون وبالخطى والقهقهات
وكأن عاريات الصدور
أوصال جندي قتيل كللوها بالزهور
وكأنها درج إلى الشهوات، تزحمه الثغور
حتى تهدم أو يكاد ... سوى بقايا من صخور •••
جيف تستر بالطلاء، يكاد ينكر من رآها
أن الطفولة فجرتها ذات يوم، بالضياء
كالجدول الثرثار، أو أن الصباح رأى خطاها
في غير هذا الغار تضحك للنسائم والسماء
ويكاد ينكر أن شقا لاح من خلل الطلاء
قد كان، حتى قبل أعوام من الدم والخطيئة
ثغرا يكركر، أو يثرثر بالأقاصيص البريئة
لأب يعود بما استطاع من الهدايا في المساء
لأب يقبل وجه طفلته الندي أو الجبين
أو ساعدين كفرختين من الحمائم في النقاء
ما كان يعلم أن ألف فم كبئر دون ماء
ستمص من ذاك المحيا كل ماء للحياء
حتى يجف على العظام، وأن عارا كالوباء
يصم الجباه فليس تغسل منه إلا بالدماء
سيحل من ذاك الجبين به ويلحق بالبنين
والساعدين الأبيضين، كما تنور في السهول
تفاحة عذراء، سوف يطوقان، مع السنين
كالحيتين، خصور آلاف الرجال المتعبين
الخارجين، خروج آدم، من نعيم في الحقول
تفاحه الدم والرغيف وجرعتان من الكحول
والحية الرقطاء ظل من سياط الظالمين
يا أنت، يا أحد السكارى
يا من يريد من البغايا ما يريد من العذارى: «ما ظل يحلم، منذ كان، به ويزرع في الصحارى
زبد الشواطئ والمحارا
مترقبا ميلاد «أفروديت»
5
ليلا أو نهارا»
أتريد من هذا الحطام الآدمي المستباح
دفء الربيع وفرحة الحمل الغرير مع الصباح
ودواء ما تلقاه من سأم وذل واكتداح؟
المال، شيطان المدينه
لم يحظ، من هذا الرهان، بغير أجساد مهينه «فاوست»
6
في أعماقهن يعيد أغنية حزينه
المال، شيطان المدينة، رب «فاوست» الجديد
جارت على الأثمان وفرة ما لديه من العبيد
الخبز والأسمال حظ عبيده المتذللين
مما يوزع من عطايا، لا اللآلئ والشباب
والمومس العجفاء، لا «هيلين»،
7
والظمأ اللعين
لا حكمة الفرح المجنح والخطيئة والعذاب
الخيل من سأم تحمحم وهي تضرب بالحوافر
8
حجر الطريق
هلم فالحوذي يبحث عن مسافر
والريح صر، والبغي بلا زبائن منذ حين
إن لم تضاجعها وصد سواك عنها معرضين
فكيف تحيا؟ وهي، مثلك لا تعيش بلا طعام؟
لا تخش منها أن تراع بما تأكله الجذام
من صدرك النخر العريض، وأنت ويحك يا أخاها
ماذا تريد، وعم تبحث في الوجوه؟ ويا أباها
اطعن بخنجرك الهواء فأنتما لن تقتلاها
هي لن تموت
سيظل غاصبها يطاردها وتلفظها البيوت
ستظل ما دامت سهام التبر تصفر في الهواء
تعدو، ويتبعها «أبولو»
9
من جديد كالقضاء
وتظل تهمس، إذ تكاد يداه أن تتلقفاها: «أبتي أغثني!» بيد أنك لا تصيخ إلى النداء
لو كنت من عرق الجبين ترشها ومن الدماء
وتحيلها امرأة بحق، لا متاعا للشراء
كللت منها، بالفخار وبالبطولات، الجباها! •••
وكأن ألحاظ البغايا
إبر تسل بها خيوط من وشائع في الحنايا
وتظل تنسج، بينهن وبين حشد العابرين
شيئا كبيت العنكبوت يخضه الحقد الدفين
حقد سيعصف بالرجال
والأخريات النائمات هناك في كنف الرجال
والساهرات على المهود وفي بيوت الأقربين
حول الصلاء بلا اطراح للثياب ولا اغتسال
في الزمهرير، ودون عد لليالي والسنين! •••
ويمر عملاق يبيع الطير، معطفه الطويل
حيران تصطفق الرياح بجانبيه، وقبضتاه
تتراوحان فللرداء يد وللعبء الثقيل
يد، وأعناق الطيور مرنحات من خطاه
تدمى كأثداء العجائز يوم قطعها الغزاه
خطواته العجلى، وصرخته الطويلة: «يا طيور
هذي الطيور، فمن يقول تعال ...»
أفزعها صداه
يأتيه من عرف البغايا كاللهاث من الصدور
ويد تشير إليه عن كثب، وقائلة: تعال!
بين التضاحك والسعال
عمياء تطفئ مقلتاها شهوة الدم في الرجال
وتحسسته كأن باصرة تهم ولا تدور
في الراحتين وفي الأنامل وهي تعثر بالطيور
وتوسلته: «فدى لعينك، خلني ... بيدي أراها»
ويكاد يهتك ما يغلف ناظريها من عماها
قلب تحرق في المحاجر واشرأب يريد نور!
وتمس أجنحة مرقطة فتنشرها يداها
وتظل تذكر - وهي تمسحهن - أجنحة سواها
كانت تراها وهي تخفق ملء عينيها تراها
سرب من البط المهاجر، يستحث إلى الجنوب
أعناقه الجذلى تكاد تزيد من صمت الغروب
صيحاته المتقطعات، وتضمحل على السهوب
بين الضباب، ويهمس البردي بالرجع الكئيب
ويرج وشوشة السكون
طلق ... فيصمت كل شيء ... ثم يلغط في جنون
هي بطة فلم انتفضت؟ وما عساها أن تكون؟
ولعل صائدها أبوك، فإن يكن فستشبعون
وتخف راكضة حيال النهر كي تلقى أباها
هو خلف ذاك التل يحصد سوف يغضب إن رآها
مر النهار ولم تعنه وليس من عون سواها
وتظل ترقى التل وهي تكاد تكفر من أساها •••
يا ذكريات علام جئت على العمى وعلى السهاد؟
لا تمهليها، فالعذاب بأن تمري في اتئاد
قصي عليها كيف مات وقد تضرج بالدماء
هو والسنابل والمساء
وعيون فلاحين ترتجف المذلة في كواها
والغمغمات: «رآه يسرق ...» واختلاجات الشفاه
يخزين ميتها، فتصرخ: «يا إلهي، يا إلهي»
لو أن غير «الشيخ»! وانكفأت تشد على القتيل
شفتين تنتقمان منه أسى وحبا والتياعا
وكأن وسوسة السنابل والجداول والنخيل
أصداء موتى يهمسون: «رآه يسرق.» في الحقول
حيث البيادر تفصد الموتى فتزداد اتساعا! •••
وتحس بالدم وهو ينزف من مكان في عماها
كالماء من خشب السفينة، والصديد من القبور
وبأدمع من مقلتيها كالنمال على الصخور
أو مثل حبات الرمال مبعثرات في عماها
يهوين منه إلى قرارة قلبها آها فآها
ومن الملوم وتلك أقدار كتبن على الجبين؟
حتم عليها أن تعيش بعرضها، وعلى سواها
من هؤلاء البائسات وشاء رب العالمين
ألا يكون سوى أبيها - بين آلاف - أباها
وقضى عليه بأن يجوع
والقمح ينضج في الحقول من الصباح إلى المساء
وبأن يلص فيقتلوه «وتشرئب إلى السماء
كالمستغيثة وهي تبكي في الظلام بلا دموع»
والله - عز الله - شاء
أن تقذف المدن البعيدة والبحار إلى العراق
آلاف آلاف الجنود ليستبيحوا، في زقاق
دون الأزقة أجمعين
ودون آلاف الصبايا، بنت بائعة الرقاق
تلك الشقية، ياسمين «ذاك اسم جارتها الجديد، فليتها كانت تراها
هل تستحق اسما كهذا: ياسمين وياسمين؟»
ومن الذي جعل النساء
دون الرجال، فلا سبيل إلى الرغيف سوى البغاء؟
الله - عز وجل - شاء
ألا يكن سوى بغايا أو حواضن أو إماء
أو خادمات يستبيح عفافهن المترفون
أو سائلات يشتهيهن الرجال المحسنون!
لو لم تكن أنثى! وتسمع قهقهات من بعيد «عباس» عاد من الترصد بالرجال على الوصيد
ولسوف تنزح راحتاه غسالة الضيف الجديد
لو لم تكن أنثى، وتسمع قهقهات من بعيد
يا ليت حمالا تزوجها يعود مع المساء
بالخبز في يده اليسار وبالمحبة في اليمين
لكن بائسة سواها حدثتها منذ حين
عن بيتها وعن ابنتيها، وهي تشهق بالبكاء
عن زوجها الشرطي يحمله الغروب إلى البغايا
كالغيمة السوداء تنذر بالمجاعة والرزايا
أزراره المتألقات على مغالق كل باب
مقل الذئاب الجائعات ترود غابا بعد غاب
وخطاه مطرقة تسمر، في الظلام، على البغايا
أبوابهن، إلى الصباح، فلا اتجار بالخطايا
إلا لعاهرة تجاز بأن تكون من البغايا
ويظل يخفرهن من شبع، وينثر في الرياح
أغنية تصف السنابل والأزاهر والصبايا
وتظل تنتظر الصباح وساعديه مع الصباح
تصغي - وتحتضن ابنتيها في الظلام - إلى النباح
وإلى الرياح تئن كالموتى وتعول كالسبايا
وتجمع الأشباح من حفر الخرائب والكهوف
ومن المقابر والصحاري بالمئات وبالألوف
فتقف من فزع وتحجب مقلتيها بالغطاء
ويعود والغبش الحزين يرش بالطل المضاء
سعف النخيل يعود من سهر يئن ومن عياء
كالغيمة اعتصرت قواها في القفار، وترتجيها
عبر التلال قوى تجوع؛ لكي ينام إلى المساء
عيش أشق من المنية، وانتظار كالفناء
وطوى يعب من الدماء وسم أفعى في الدماء
وعيون زان يشتهيها، كالجحيم يشع فيها
سخر وشوق واحتقار، لاحقتها كالوباء
والمال يهمس أشتريك وأشتريك فيشتريها •••
يا ليتها، إذن، انتهى أجل بها فطوى أساها! «لو أستطيع قتلت نفسي ...» همسة خنقت صداها
أخرى توسوس: «والجحيم؟ أتصبرين على لظاها؟
وإذا اكفهر وضاق لحدك، ثم ضاق، إلى القرار
حتى تفجر من أصابعك الحليب رشاش نار
وتساءل الملكان فيم قتلت نفسك يا أثيمه؟
وتخطفاك إلى السعير تكفرين عن الجريمه
أفتصرخين: أبي! فينفض راحتيه من الغبار
ويخف نحوك وهو يهتف: قد أتيتك يا سليمه؟»
حتى اسمها فقدته واستترت بآخر مستعار
هي - منذ أن عميت - «صباح»
فأي سخرية مريره!
أين الصباح من الظلام تعيش فيه بلا نهار
وبلا كواكب أو شموع أو كوى وبدون نار؟
أوبعد ذلك ترهبين لقاء ربك أو سعيره؟
القبر أهون من دجاك دجى وأرفق، يا ضريره
يا مستباحة كالفريسة في عراء، يا أسيره
تتلفتين إلى الدروب ولا سبيل إلى الفرار؟ •••
وتحس بالأسف الكظيم لنفسها: لم تستباح؟
الهر نام على الأريكة قربها لم تستباح؟
شبعان أغفى، وهي جائعة تلم من الرياح
أصداء قهقهة السكارى في الأزقة، والنباح
وتعد وقع خطى هنا وهناك ها هو ذا زبون
هو ذا يجيء، وتشرئب، وكاد يلمس ... ثم راح
وتدق في أحد المنازل ساعة لم تستباح؟
الوقت آذن بانتهاء والزبائن يرحلون
لم تستباح وتستباح على الطوى؟ لم تستباح؟
كالدرب تذرعه القوافل والكلاب إلى الصباح؟
الجوع ينخر في حشاها، والسكارى يرحلون
مروا عليها في المساء وفي العشية ينسجون
حلما لها هي والمنون
عصبات مهجتها سداه وكل عوق في العيون
والآن عادوا ينقضون
خيطا فخيطا من قرارة قلبها ومن الجراح
ما ليس بالحلم الذي نسجوه، ما لا يدركون
شيئا هو الحلم الذي نسجوا وما لا يعرفون
هو منه أكثر كالحفيف من الخمائل والرياح
والشعر من وزن وقافية ومعنى، والصباح
من شمسه الوضاء ... وانصرفوا سكارى يضحكون!
فليرحلوا. ستعيش، فهي من السعال ومن عماها
أقوى، ومن صخب السكارى
فامض عنها يا أساها!
ستجوع عاما أو يزيد، ولا تموت، ففي حشاها
حقد يؤرث من قواها
ستعيش للثأر الرهيب
والداء في دمها وفي فمها ستنفث من رداها
في كل عرق من عروق رجالها شبحا من الدم واللهيب
شبحا تخطف مقلتيها أمس، من رجل أتاها
سترده هي للرجال، بأنهم قتلوا أباها
وتلقفوها يعبثون بها وما رحموا صباها
لم يبتغوها للزواج لأنها امرأة فقيره
واستدرجوها بالوعود لأنها كانت غريره
وتهامس المتقولون فثار أبناء العشيره
متعطشين - على المفارق والدروب - إلى دماها
وكأن موجة حقدها وأساها
كانت تقرب من بصيرة قلبها صورا علاها
صدأ المدينة وهي ترقد في القرارة من عماها
كل الرجال؟ وأهل قريتها؟ أليسوا طيبين؟
كانوا جياعا - مثلها هي أو أبيها - بائسين
هم مثلها - وهم الرجال - ومثل آلاف البغايا
بالخبز والأطمار يؤتجرون، والجسد المهين
هو كل ما يتملكون، هم الخطاة بلا خطايا
وهم السكارى بالشرور كهؤلاء العابرين
من السكارى بالخمور ... كهؤلاء الفاجرين بلا فجور
الشاربين - كمن تضاجع نفسها - ثمن العشاء
الدافنين خروق بالية الجوارب في الحذاء
يتساومون مع البغايا في العشي على الأجور
ليوفروا ثمن الفطور!
ليس الذين تغصبوها من سلالة هؤلاء
كانوا كآلهة مقطبة الجباه من الصخور
تمتص من فزع الضحايا زهوها ومن الدماء
متطلعين إلى البرايا كالصواعق من علاء!
وتحس، في دمها، كآبة كل أمطار الشتاء
من خفق أقدام السكارى، كالأسير وراء سور
يصغي إلى قرع الطبول يموت في الشفق المضاء
هي والبغايا خلف سور، والسكارى خلف سور
يبحثن هن عن الرجال، ويبحثون عن النساء
دميت أصابعهن تحفر والحجارة لا تلين
والسور يمضغهن ثم يقيئهن ركام طين
نصبا يخلد عار آدم واندحار الأنبياء
وطلول مقبرة تضم رفات «هابيل» الجنين!
سور كهذا، حدثوها عنه في قصص الطفوله «يأجوج»
10
يغرز فيه - من حنق - أظافره الطويله
ويعض جندله الأصم، وكف «مأجوج» الثقيله
تهوي، كأعنف ما تكون على جلامده الضخام
والسور باق لا يثل وسوف يبقي ألف عام
لكن «إن شاء الإله»
طفلا كذلك سمياه
سيهب ذات ضحى ويقلع ذلك السور الكبير
الطفل شاب وسورها هي ما يزال كما رآه
من قبل يأجوج البرايا توأم هو للسعير!
لص الحجارة من منازل في السهول وفي الجبال
يتواثب الأطفال في غرفاتها ويكركرون
والأمهات يلدن والآباء للغد يبسمون
لم يبق من حجر عليها، فهي ريح أو خيال
وأدار من خطم البلاد رحى، وساط من البطون
ما ترتعيه رحاه من لحم الأجنة والعظام
وكشاطئين من النجوم على خليج من ظلام
يتحرقان ولا لقاء ويخمدان سوى ركام
شق الرجال عن النساء سلالتين من الأنام
تتلاقيان مع الظلام وتفصلان مع الشروق
زان وزانية، وبائعة وشار، والطعام
لا الحب والأحقاد لا الأشواق، تنبض في العروق!
زان وزانية! أيمكن ذاك وهي بلا عشاء؟
لم يعرض الزانون عنها وحدها؟ لم يعرضون
وهي الفقيرة فقر شحاذ؟ أما هي كالنساء؟
أوما لها جسد كناضجة الثمار؟ أيعثرون
لو يقطعون الليل بحثا والنهار، على سواها
في حسنها هي؟ في غضارة ناهديها أو صباها
وبسعرها هي؟ أي شيء غير هذا يبتغون؟
أ«زهور» أجمل أو «سعاد»؟ بأي شيء جارتاها
تتفوقان؟
وعضت اليد وهي تهمس «بالعيون»!
عمياء أنت وحظك المنكود أعمى يا سليمه
وتلوب أغنية قديمه
في نفسها، وصدى يوشوش: «يا سليمه، سليمه
11
نامت عيون الناس آه فمن لقلبي كي ينيمه؟»
ويل الرجال الأغبياء، وويلها هي، من عماها!
لم أصبحوا يتجنبون لقاءها؟ أيضاجعون
عيونها، فيخلفوها وحدها إذ يعلمون
بأنها عمياء؟ فيم يكابرون ومقلتاها
ما كانتا فخذين أو ردفين؟
وهي بهؤلاء
أدري وتعرف أي شيء في البغايا يشتهون
بالأمس، إذ كانت بصيره
كان الزبائن بالمئات ولم يكونوا يقنعون
بنظرة قمراء تغصبها من الروح الكسيره
لترش أفئدة الرجال بها، وكانوا يلهثون
في وجهها المأجور، أبخرة الخمور، ويصرخون
كالرعد في ليل الشتاء
عبر ابتسامتها أو الفخذ التي زلق الرداء
عنها، أو النهدين نم عليهما قلق الضياء: «إن كنت لا تتجردين كما أتيت إلى الوجود
إن كنت لا تتجردين فلا نقود!»
ولعل غيرة «ياسمين» وحقدها سبب البلاء
فهي التي تضع الطلاء لها وتمسح بالذرور
وجها تطفأت النواظر فيه: «كيف هو الطلاء؟
وكيف أبدو؟» «وردة قمر ضياء!»
زور وكل الخلق زور
والكون مين وافتراء
لو تبصر المرآة - لمحة مقلتيها - لو تراها
لمح النيازك، ثم تغرق من جديد في عماها!
برق ويطفأ ثم تحكم فرقها بيد، وفاها
بيد، وترسم بالطلاء على الشفاه لها شفاها
شفتاك عارية وخدك ليس خدك يا سليمه
ماذا تخلف منك فيك سوى الجراحات القديمه؟
وتضم زهرة قلبها العطشى على ذكرى أليمه
تلك المعابثة اللعوب كأنها امرأة سواها!
كالجدولين تخوض ماءهما الكواكب، مقلتاها
والشعر يلهث بالرغائب والطراوة والعبير
وبمثل أضواء الطريق نعسن في ليل مطير
والثغر بين الجلنار وزهرة النهد الصغير
كانت إذا جلست إلى المرآة يفتنها صباها
فتظل تعصر نهدها بيد، وتحملها رؤاها
من مخدع الآثام في المنفى، إلى قصر الأمير
تقتات بالعسل النقي، وترتدي كسل الحرير
ليت النجوم تخر كالفحم المطفأ، والسماء
ركام قار أو رماد، والعواصف والسيول
تدك راسية الجبال ولا تخلف في المدينة من بناء!
أن يعجز الإنسان عن أن يستجير من الشقاء
حتى بوهم أو برؤيا، أن عيش بلا رجاء
أوليس ذاك هو الجحيم؟ أليس عدلا أن يزول؟
شبع الذباب من القمامة في المدينة، والخيول
سرحن من عرباتهن إلى الحظائر والحقول
والناس ناموا، وهي ترتقب الزناة بلا عشاة
هذا الذي عرضته كالسلع القديمة كالحذاء
أو كالجرار الباليات، كأسطوانات الغناء
هذا الذي يأبى عليها مشتر أن يشتريه
قد كان عرضا - يوم كان - ككل أعراض النساء!
كان الفضاء يضيق عن سعة، وترتخص الدماء
إن رنق النظر الأثيم عليه كان هو الإباء
والعزة القعساء والشرف الرفيع فشاهديه
يا أعين الظلماء، وامتلئي بغيظك وارجميه
بشواظ عارك واحتقارك يا عيون الأغبياء! «لا تتركوني يا سكارى
للموت جوعا، بعد موتي - ميتة الأحياء - عارا
لا تقلقوا فعماي ليس مهابة لي أو وقارا
ما زلت أعرف كيف أرعش ضحكتي خلل الرداء
إبان خلعي للرداء، وكيف أرقص في ارتخاء
وأمس أغطية السرير وأشرئب إلى الوراء
ما زلت أعرف كل ذلك، فجربوني يا سكارى!
من ضاجع العربية السمراء لا يلقى خسارا
كالقمح لونك يا ابنة العرب،
12
كالفجر بين عرائش العنب
أو كالفرات، على ملامحه
دعة الثرى وضراوة الذهب
لا تتركوني فالضحى نسبي
من فاتح، ومجاهد، ونبي!
عربية أنا أمتي دمها
خير الدماء كما يقول أبي
في موضع الأرجاس من جسدي، وفي الثدي المذال
تجري دماء الفاتحين فلوثوها، يا رجال
من جنس للرجال فأمس عاث بها الجنود
الزاحفون من البحار كما يفور قطيع دود
يا ليت للموتى عيونا من هباء في الهواء
ترى شقائي
فيرى أبي دمه الصريح يعب أوشال الدماء
كالوحل في المستنقعات فلا يرد الخاطبين
أب سواه لأن جدة أم ذاك من الإماء
ولأن زوجة خال ذلك بنت خالة هؤلاء!
أنا يا سكارى لا أرد من الزبائن أجمعين
إلا العفاة المفلسين
أنا زهرة المستنقعات، أعب من وحل وطين
وأشع لون ضحى»
وذكرها بجعجعة السنين
سعالها ذهب الشباب!
ذهب الشباب! فشيعيه مع السنين الأربعين
ومع الرجال العابرين حيال بابك هازئين
وأتي المشيب يلف روحك بالكآبة والضباب
فاستقبليه على الرصيف بلا طعام أو ثياب
يا ليتك المصباح يخفق ضوءه القلق الحزين
في ليل مخدعك الطويل، وليت أنك تحرقين
دما يجف فتشترين
سواه، كالمصباح والزيت الذي تستأجرين
13
عشرون عاما قد مضين، وشبت أنت، وما يزال
يذرذر الأضواء في مقل الرجال
لو كنت تدخرين أجر سناه ذاك على السنين
أثريث
ها هو ذا يضيء فأي شيء تملكين؟
ويح العراق! أكان عدلا فيه أنك تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
ثمنا لملء يديك زيتا من منابعه الغزيرة؟
كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟
عشرون عاما قد مضين، وأنت غرثى تأكلين
بنيك من سغب، وظمأى تشربين
حليب ثديك وهو ينزف من خياشيم الجنين!
وكزارع لهم البذور
وراح يقتلع الجذور
من جوعه، وأتى الربيع فما تفتحت الزهور
ولا تنفست السنابل فيه
ليس سوى الصخور
سوى الرمال، سوى الفلاه
خنت الحياة بغير علمك، في اكتداحك للحياه!
كم رد موتك عنك موت بنيك إنك تقطعين
حبل الحياة لتنقضيه وتضفري حبلا سواه
حبلا به تتعلقين على الحياة تضاجعين
ولا ثمار سوى الدموع، وتأكلين
وتسهرين ولا عيون، وتصرخين ولا شفاه
وغدا بحبلك تشنقين
وغدا ... وأمس ... وألف أمس، كأنما مسح الزمان
حدود ما لك فيه من ماض وآت
ثم دار، فلا حدود
ما بين ليلك والنهار، وليس - ثم - سوى الوجود
سوى الظلام، ووطء أجساد الزبائن، والنقود
ولا زمان، سوى الأريكة والسرير، ولا مكان!
لم تحسبين ليالي السأم المسهدة الرتيبه؟
ما العمر؟ ما الأيام؟ عندك، ما الشهور؟ وما السنين؟
ماتت «رجاء» فلا رجاء ثكلت زهرتك الحبيبه!
بالأمس كنت إذا حسبت فعمرها هي تحسبين
ما زال من فمها الصغير
طراوة في حلمتيك، وكركرات في السرير
كانت عزاءك في المصيبه
وربيع قفرتك الجديبه
كانت نقاءك في الفجور، ونسمة لك في الهجير
وخلاصك الموعود، والغبش الإلهي الكبير!
ما كان حكمة أن تجيء إلى الوجود وأن تموت؟
ألتشرب اللبن المرنق بالخطيئة واللعاب
أوشال ما تركته في ثدييك أشداق الذئاب؟
كان الزناة يضاجعونك وهي تصرخ دون قوت
فكأنها، وهي البريئه
كانت تشاركك العذاب لكي تكفر عن خطيئه !
أفترتضين لها مصيرك؟
فاتركيها للتراب
في ظلمة اللحد الصغير تنام فيه بلا مآب
فالنور والأطفال والبسمات حظ المترفين
والجوع والأدواء والتشريد حظ الكادحين
وأنت بنت الكادحين •••
مات الضجيج وأنت، بعد، على انتظارك للزناه
تتنصتين، فتسمعين
رنين أقفال الحديد يموت، في سأم، صداه
الباب أوصد
ذاك ليل مر
فانتظري سواه.
حفار القبور
1
ضوء الأصيل يغيم، كالحلم الكئيب، على القبور
واه، كما ابتسم اليتامى، أو كما بهتت شموع
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كالعاصفات السود، كالأشباح في بيت قديم
برزت لترعب ساكنيه
من غرفة ظلماء فيه
وتثاءب الطلل البعيد، يحدق الليل البهيم
من بابه الأعمى ومن شباكه الخرب البليد
والجو يملؤه النعيب
فتردد الصحراء، في يأس وإعوال رتيب
أصداءه المتلاشيات
والريح تذروهن، في سأم، على التل البعيد!
وكأن بعض الساحرات
مدت أصابعها العجاف الشاحنات إلى السماء
تومي إلى سرب من الغربان تلويه الرياح
في آخر الأفق المضاء
حتى تعالى ثم فاض على مراقيه الفساح
فكأن ديدان القبور
فارت لتلتهم الفضاء وتشرب الضوء الغريق
وكأنما أزف النشور
فاستيقظ الموتى عطاشى يلهثون على الطريق!
وتدفع السرب الثقيل
يطفو ويرسب في الأصيل
لجبا يرنق بالظلام على القبور الباليات
وظلاله السوداء تزحف، كالليالي الموحشات
بين الجنادل والصخور
وعلى القبور!
وتنفس الضوء الضئيل
بعد اختناق بالطيوف الراعبات وبالجثام
ثم ارتخت تلك الظلال السود وانجاب الظلام
فانجاب عن ظل طويل
يلقيه حفار القبور
كفان جامدتان، أبرد من جباه الخاملين
وكأن حولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود
كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وفم كشق في جدار
مستوحد بين الصخور الصم من أنقاض دار
عند المساء ومقلتان تحدقان، بلا بريق
وبلا دموع، في الفضاء: «هو ذا المساء
يدنو، وأشباح النجوم تكاد تبدو، والطريق
خال؛ فلا نعش يلوح على مداه ... ولا عويل
إلا النعيب
وتنهد الريح الطويل!
وعلام تنعب هذه الغربان، والكون الرحيب
باق يدور يعج بالأحياء مرضى، جائعين
بيض الشعور كأعظم الأموات، لكن خالدين
لا يهلكون؟ علام تنعب؟ إن عزرائيل مات!
وغدا أموت، غدا أموت!»
وهز حفار القبور
يمناه في وجه السماء، وصاح «رب»! أما تثور
فتبيد نسل العار ... تحرق، بالرجوم المهلكات
أحفاد عاد، باعة الدم والخطايا والدموع؟
يا رب ما دام الفناء
هو غاية الأحياء، فأمر يهلكوا هذا المساء!
سأموت من ظمأ وجوع
إن لم يمت - هذا المساء إلى غد - بعض الأنام
فابعث به قبل الظلام!
يا رب أسبوع طويل مر كالعام الطويل
والقبر خاو، يفغر الفم في انتظار ... في انتظار
ما زلت أحفره ويطمره الغبار
تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل
مما تعصر أعين الموتى وتنضحه الجلود
تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النثير!
حتى الشفاه يمص من دمها الثرى، حتى النهود
تذوي ويقطر، في ارتخاء من مراضعها، المغير!
1
واها لهاتيك النواهد، والمآقي، والشفاه!
واها لأجساد الحسان! أيأكل الليل الرهيب
والدود منها ما تمناه الهوى؟ وا خيبتاه!
كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب
أمسى يضاجعها الرغام؟
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب، ولا أنال
إلا الحنين، وألف أنثى تحت أقدامي تنام؟
أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال؟
ما زلت أسمع بالحروب، فأين أين هي الحروب؟
أين السنابك والقذائف والضحايا في الدروب
لأظل أدفنها فلا تسع الصحارى
فأدس في قمم التلال عظامهن وفي الكهوف؟
فكأن قعقعة المنازل في اللظى نقر الدفوف
أو وقع أقدام العذارى
يرقصن حولي لاعبات بالصنوج وبالسيوف!
نبئت عن حرب تدور، لعل عزرائيل فيها ...
في الليل يكدح والنهار، فلن يمر على قرانا
أو بالمدينة وهي توشك أن تضيق بساكنيها!
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا
إلا وحل به الدمار فأي سوق للقبور!
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها
حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور!
أواه لو أني هناك أسد، باللحم النثير
جوع القبور وجوع نفسي ... في بلاد ليس فيها
إلا أرامل ... أو عذارى غاب عنهن الرجال
وافتضهن الفاتحون إلى الذماء، كما يقال!
ما زلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
لا تستقر على قرانا؟ ليت عيني تلتقيها
وتخضهن إلى القرار، وكالنيازك والرعود
تهوي بهن على النخيل، على الرجال، على المهود!
حتى تحدق أعين الموتى، كآلاف اللآلي
من كل شبر في المدينة ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب، فيا لأعينها ويا لي!
رباه إني أقشعر أكاد أسمع في الخيال
أغنية تصف العيون
تنثال من مقهى، فأنصت في الزحام، وينصتون!
وكأن ما بيني وبين الآخرين من الهواء
ثدي سخي بالحليب وبالمحبة والإخاء
يا رب أسبوع يمر ولست أسمع من غناء
إلا النعيب
وتنهد الريح الرتيب!
وا خيبتاه! ألن أعيش بغير موت الآخرين؟
والطيبات من الرغيف، إلى النساء، إلى البنين
هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام؟
فلتمطرنهم القذائف بالحديد وبالضرام
وبما تشاء من انتقام
من حميات أو جذام!
نذر علي لئن تشب لأزرعن من الورود
ألفا تروى بالدماء وسوف أرصف بالنقود
هذا المزار ... وسوف أركض في الهجير بلا حذاء
وأعد أحذية الجنود
وأخط، في وحل الرصيف وقد تلطخ وقد تلطخ بالدماء
أعدادهن لأستبيح عدادهن من النهود!
وسأدفن الطفل الرمي وأطرح الأم الحزينه
بين الصخور على ثراه
ولسوف أغرز بين ثدييها أصابعي اللعينه
ويكاد يحنقها لهاثي وهي تسمع، في لظاه
قلبي ووسوسة النقود نقودها! وا خجلتاه!
أنا لست أحقر من سواي وإن قسوت فلي شفيع
أني كوحش في الفلاء
لم أقرأ الكتب الضخام، وشافعي ظمأ وجوع
أوما ترى المتحضرين
المزدهين من الحديد بما يطير وما يذيع؟
مهما ادنأت فلن أسف كما أسفوا. لي شفيع
أني نويت ويفعلون، وإن من يئد البنين
والأمهات ويستحل دم الشيوخ العاجزين
لأحط من زان انتهك الغزاة وما استباحوا!
والقاتلون هم الجناة وليس حفار القبور
وهم الذين يلونون لي البغايا بالخمور
وهم المجاعة، والحرائق، والمذابح، والنواح
وهم الذين سيتركون أبي وعمته الضريره
بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
أو يفحصان عن الجذور، ويلهثان من الأورام
والصخر كالمقل الضريره
وسيوثقون بشعر أختي قبضتي وكالظلام
وكخضة الحمى، تسمرها على دمها صدور
تعلو وتهبط باللهاث، كأنهن رحى تدور
يا مجرمون، إلى الوراء! فسوف تنتفض القبور
وتقيء موتاها ويا موتي ، على اسم الله ثوروا!
رباه، عفوك إن «قابيل» المكبل بالحديد
في نفسي الظلماء هب وقر يعصره الملال!
فالليل جاء، وما أزال
مستوحدا أرعى القبور وأنفض الدرب البعيد
وكأن ... يا بشرى! كأن هناك في أقصى الجنوب
خطا كأذيال الظلام ولمعة كدم الغروب!
لكأنه ضيف جديد!
وبدا الجناز، وراح يشهق وهو يدنو في ارتخاء
الأوجه المتحجرات يضيئها الشفق الكئيب
والغمغمات الخافتات من انفعال أو رياء
والنعش يحجبه غطاء
ألوانه المترنحات كأنما اعتصر المغيب
فيها قواه، وذاب فيها كوكب واهي الضياء
حتى إذا انهال التراب وصفح القبر الجديد
وتراعش الألق الضئيل، على الظهور المتعبات
حتى اضمحل، وغيبتها ظلمة الأفق البعيد
كانت مصابيح السماء تذر ضوءا كالضباب
بين القبور الموحشات
وعلى الخرائب والرمال وكان حفار القبور
متعثر الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام
يرعى مصابيح المدينة وهي تخفق في اكتئاب
ويظل يحلم بالنساء العاريات وبالخمور
وتحسست يده النقود وهيأ الفم لابتسام
حتى تلاشى في الظلام!
2
النور ينضح من نوافذ حانة عبر الطريق
وتكاد رائحة الخمور
تلقي، على الضوء المشبع بالدخان وبالفتور
ظلا كألوان حيارى واهيات من حريق
ناء ... تهوم، في الدجى الضافي، على وجه حزين
وتلوح أشباح عجاف
خلف الزجاج تهيم في الضوء السرابي الغريق
ويشد حفار القبور على الزجاجة باليمين
وكمن يحاذر أو يخاف
يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال
وتحركت شفتاه في بطء وغمغم في انخذال: «أظننت أنك سوف تقتحم المدينه كالغزاه
كالفاتحين وتشتريها بالذي ملكت يداك
بأقل من ثمن الطلاء القرمزي على شفاه
أو في أظافر لاحقتها، ذات يوم، مقلتاك؟
سأعود، لا نهد تعصره يدي حتى الذهول
حتى التأوه، والأنين، وصرخة الدم في العروق
والسكرة العمياء ... والخدر المضعضع ... والأفول!
والأذرع المتفترات يلون الضوء الخفوق
هزاتها المستسلمات، وينفح الدم والعبير
ظل لهن على السرير
الأذرع المتفترات، وزهرتان على الوساد
نسجتهما كف مخضبة الأظافر، زهرتان
تتفتحان على الوسادة كالشفاه، وتهمسان
نغما يذوب إلى رقاد
ونعومة الكتفين، والشعر المعطر، والشحوب
وتألق الجيد الشهي، ولفحة النفس البهير
والنور منفلتا من الأهداب تثقله الطيوب
قلقا كمصباح السفينة راوحته صبا لعوب
وتخافق الأظلال في دعة، ووسوسة الحرير
والحلمتان أشد فوقهما بصدري في اشتهاء
حتى أحسهما بأضلعي، وأعتصر الدماء
باللحم والدم والحنايا، منهما، لا باليدين
حتى تغيبا فيه، في صدري، إلى غير انتهاء
حتى تمصا من دماي وتلفظاني، في ارتخاء
فوق السرير
وتشرئبا
ثم نثوي جثتين!»
3
درب كأفواه اللحود
لولا التماعات الكواكب، وانعكاس من ضياء
تلقيه نافذة، ووقع خطى تهاوى في عياء
يصدي له الليل العميق، وحارس تعب يعود
وسنان يحلم بالفراش وزوجه تذكي السراج
وتؤجج التنور صامتة وأخيلة اللهيب
تضفي عليها ما تشاء من اكتئاب وابتهاج
ثم اضمحل الحارس المكدود، والنغم الرتيب
وقع الخطى المتلاشيات ... كأنه الهمس المريب
ما زال يخفق من بعيد
وتململت قدمان، وارتفعت يد بعد انتظار
وهوت على الباب العتيق، فأرسل الخشب البليد
صوتا كإيقاع المعاول حين إدبار النهار
بين القبور الموحشات. وأطبق الصمت الثقيل
وأطل من إحدى النوافذ، وهي تفتح وارتياب
وجه حزين ثم غاب!
وتحرك الباب المضعضع وهو يجهش بالعويل
وتقول أنثى في اكتئاب: «ضيف جديد!» ثم تفرك مقلتيها في فتور
ويظل يزحف كالكسوف يحجب الألق الضئيل
عن وجهها، ظل يقيدها بحفار القبور!
4
في زهوة الشفق الملون حيث يحترق النهار
في عودة الرعيان أشباحا يظللها الغبار
في ساعة الشوق الكئيب إلى شواطئ كالضباب
وإلى أكف مخلصات
وإلى أغان مبهمات هائمات في شعاب
أنأى من الأصداء تغشاها نجوم ساهمات
في ساعة الشفق الملون كان إنسان يثور
بين الجنادل والقبور
نفس معذبة تثور
بين الجنادل والقبور:
أأظل أحلم بالنعوش، وأنفض الدرب البعيد
بالنظرة الشزراء، واليأس المظلل بالرجاء
يطفو ويرسب، والسماء كأنها صنم بليد
لا مأمل في مقلتيه ... ولا شواظ ولا رثاء؟
لو أنها انفجرت تقهقه بالرعود القاصفات!
لو أنها انكمشت وصاحت كالذئاب العاويات
فات الأوان، فخط لحدك واثو فيه إلى النشور!
لو أنها انطبقت علي كأنها فم أفعوان!
لو أنها اعتصرت قواي!
ومات ظل الأرجوان
في آخر الأفق البعيد، ولألأت قطرات نور
مما تبعثره المدينة وهي تبسم في فتور
وكأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه
فسرت لهيبا في دماه وألغمتها بالرغاب
وكأنهن، على المدى المقرور، آلاف الشفاه
تدعوه ظمأى، لاهثات ... مثل أحداق الذئاب: «ما زلت تحترقين من فرح، وأحترق انتظارا
صبي سناك على التراب
وعلى الكئوس الفارغات، وبعثريه على كتاب
أو بين أغطية الموائد وهي تنتظر النهارا
ظلت تعابثها شفاه الريح، وانصرف السكارى!
راحوا إليها مسرعين، إلى التي ارتعشت قواها
بين التوجع والذهول، على يدي وفي دمائي
ليل وأعقبه الصباح ونبأتني مقلتاها
أنا انتهينا
يا سماء، ويا قبور ... أما أراها؟
لا بد من هذا!» وصوب مقلتيه إلى السماء
حنقا يزمجر، ثم أطرق وهو يحلم باللقاء
باب تفتح في الظلام ... وضحكة ... وشذى ثقيل ...
ويدان تجتذبان أغطية السرير وترخيان
إحدى الستائر
ثم تنطفئان في الضوء الضئيل!
وتغيم أخيلة وتجلى، ثم تبرز حلمتان
ويطل وجه شاحب القسمات مختلج الشفاه
وتغيم أخيلة وتجلى، ثم تفتح مقلتاه
فيرى القبور
ويرى المصابيح البعيدة كالمجامر في اتقاد
ويرى الطريق إلى القبور
يكتظ بالأشباح زاحفة إليه على اتئاد
فيصيح من فرح: «سألقاها، فإن على الطريق
نعشا وإن حف النساء به وأملق حاملوه!
إني سألقاها!» وينهض وهو يرفع باليمين
فانوسه الصدئ العتيق
يلقي سناه على الوجوه
وعلى الدثار القرمزي وفي عيون القادمين
لو أنه اخترق الدثار بمقلتيه وبالضياء
لو حدث التابوت عمن فيه ... أو رفعت يداها
أو هبة للزعزع النكباء حاشية الغطاء
تحت النجوم الساهمات
لكاد ينكر من رآها!
ماتت كمن ماتوا، وواراها كما وارى سواها
واسترجعت كفاه من يدها المحطمة الدفينه
ما كان أعطاها، وإن حملت يد امرأة سواها
تلك النقود بل البقايا من نفايات المدينه •••
وتظل أنوار المدينة وهي تلمع من بعيد
ويظل حفار القبور
ينأى عن القبر الجديد
متعثر الخطوات يحلم باللقاء، وبالخمور!
الأسلحة والأطفال
1
عصافير؟ أم صبية تمرح
عليها سنا من غد يلمح؟
وأقدامها العاريه
محار يصلصل في ساقيه
لأذيالهم زفة الشمأل
سرت عبر حقل من السنبل
وهسهسة الخبز في يوم عيد
وغمغمة الأم باسم الوليد
تناغيه في يومه الأول •••
كأني أسمع خفق القلوع
وتصخاب بحارة السندباد
رأى كنزه الضخم بين الضلوع
فما اختار إلاه كنزا وعاد! •••
صدى عابر من وراء العصور
من الكهف، والغاب، والمعبد
سرى دافئا من عروق الصخور
وإزميل نحاتها المجهد
يغني بأشواقه العاتيه
إلينا إلى القمة العاليه
إلى أن يفل الردى بالحياه
وتلقاه أجيالها الآتيه
على صخرة حملتها يداه
تحاياه في بسمة في الشفاه
وفي أعين حجرت مقلتاه
عليها دموعهما الجاريه •••
صدى رجعته الأكف الصغار
يصفقن في الشارع المشرق
كخفق الفراشات مر النهار
عليها بفانوسه الأزرق •••
وكم من أب آيب في المساء
إلى الدار من سعيه الباكر
وقد زم من ناظريه العناء
وغشاهما بالدم الخاثر
تلقاه، في الباب، طفل شرود
يكركر بالضحكة الصافيه
فتنهل سمحاء ملء الوجود
وتزرع آفاقه الداجيه
نجوما، وتنسيه عبء القيود •••
وهم في ليالي الشتاء الطوال
ربيع من الدفء والعافيه
تلم العجائز فيه الورود
ويلمحن عهد الصبا ثانيه
ويرقصن بين التلال
يرجحن أرجوحة في الخيال
بعذراء في ليلة مقمره
وفي ظل تفاحة مزهره
تنام العصافير فيها
وهم في الصباح
خطى خافقات على السلم
وأيد على أوجه النوم
يدغدغنها في مزاح!
وأغنية من أغاني الطريق
بلحن سوى لحنها الأول
وشأو من الصوت مستعجل
وهم رفقة الأم إذ تستفيق
وإذ تشعل النار في الموقد
كخيط ترى فيه بدء الغد!
2
عصافير؟ أم صبية تمرح؟
أم الماء من صخرة ينضح
فيخضل عشب وتندى زهور؟
زهور ونور
وقبرة تصدح
وتفاحة مزهره
لخفق العصافير فيها
صدى قبلة الأم تلقى بنيها: «دعيني فما تلك بالقبره!
دعيني أقل إنه البلبل
وإن الذي لاح ليس الصباح.»
1
أتلك السفين التي تعول
على مرفأ ناوحته الرياح؟
تلوح منها أكف الجنود
لألف ك «جولييت» فوق الرصيف: «وداعا وداع الذي لا يعود!»
وأم كما استوحشت في الخريف
وراء الدجى، دوحة عاريه
وفرت عصافيرها الشاديه! •••
عصافير؟ أم صبية تمرح؟
أم الماء من صخرة ينضح
ولكن على جثة داميه؟
وقبرة تصدح
ولكن على خربة باليه؟
عصافير؟!
بل صبية تمرح
وأعمارها في يد الطاغيه
وألحانها الحلوة الصافيه
تغلغل فيها نداء بعيد: «حديد عتي ... يق
رصا ... ص
حدي ... د»
وكالظل من باشق في الفضاء
إذا اجتاح، كالمدية الماضيه
عصافير تشدو على رابيه
ترامى إلى الصبية الأبرياء
نداء تنشقت فيه الدماء: «حديد عتيق
حديد عتيق!
رصا ... ص.» وحتى كأن الهواء
رصاص وحتى كأن الطريق
حديد عتيق
وينقض، كالمعول الحافر
صدى راعب من خطى التاجر
له الويل ماذا يريد؟ «حديد عتيق
رصا ... ص
حديد!»
لك الويل من تاجر أشأم
ومن خائض في مسيل الدم
ومن جاهل أن ما يشتريه
لدرء الطوى والردى عن بنيه
قبور يوارون فيها بنيه! «حديد عتيق
رصا ... ص
حديد ...»
حديد عتيق لموت جديد!
3
حدي ... د»
لمن كل هذا الحديد!
لقيد سيلوى على معصم
ونصل على حلمة أو وريد
وقفل على الباب دون العبيد
وناعورة لاغتراف الدم «رصا ... ص»
لمن كل هذا الرصاص؟
لأطفال كورية البائسين
وعمال مرسيليا الجائعين
وأبناء بغداد والآخرين
اذا ما أرادوا الخلاص
حديد
رصاص
رصاص
رصاص! «حديد ...»
وأصغي إلى التاجر
وأصغي إلى الصبية الضاحكين
وكالنصل قبل انتباه الطعين
وكالبرق، ينفض في خاطري
ستار، وكالجرح إذ ينزف
أرى الفوهات التي تقصف
تسد المدى، واللظى، والدماء
وينهل كالغيث، ملء الفضاء
رصاص ونار ووجه السماء
عبوس لما اصطك فيه الحديد
حديد ونار، حديد ونار
وثم ارتطام، وثم انفجار
ورعد قريب، ورعد بعيد
وأشلاء قتلى، وأنقاض دار!
حديد عتيق لغزو جديد
حديد ليندك هذا الجدار
بما خط في جانبيه الصغار
وما استودعوا من أمان كبار «سلام»
كأن السنا في الحروف
تخطى إليها ظلام الكهوف
بآمال إنسانها الأول
وما اختط من صورة في الحجار
تحدى بها الموت فهي انتصار
وتوق إلى العالم الأفضل؟ «حديد
رصا ... ص
حديد عتيق
رصاص ...» ليخلو هذا الطريق
من الضحكة الثرة الصافيه
وخفق الخطى والهتاف الطروب
فمن يملأ الدار عند الغروب
بدفء الضحى واخضلال السهوب؟
لظى الحقد في مقلة الطاغيه
ورمضاء أنفاسه الباقيه
يطوفان بالدار عند الغروب
وأطلالها الباليه! «حديد عتيق
نحاس عتيق»
وأصداء صفارة للحريق!
4 «حديد، حديد»
وأم تبيع السرير العتيق
تبيع الحديد الذي أمس كان
مهادا عليه التقى عاشقان
وشد نداء الحياة العميق
ذراعا بأخرى ، فما تخفقان!
فيا حسرتا حين يمسي غدا
شظايا تدوي وبعض المدى
تنحى بها عن ذراع ذراع
وينهد مهد، ويخبو شعاع! •••
أمن حيث كان التقاء الشفاه
على الحب ينسجن خيط الحياه
يحوك الردى غزله الأسودا
دما أو دخانا؟ يحوك الردى
شباكا من النار حول البيوت
على صبية أو صبايا تموت؟
ويرتد حتى حديد السرير
جناحا عليه المنايا تغير
وحتى الذي في عيون الدمى
من المعدن الزئبقي الحسير
رصاصا أبح الصدى مرزما
5 «حديد، عتيق، حديد، حديد»
وأقدامها العاريه
محار يصلصل في ساقيه
ويعتاد بالي، كرعد بعيد
ضجيج الخطى وانهيار الصخور
وخفق الفوانيس في المنجم
وما نض من عاريات الظهور
وما انسح في سعلة من دم!
وملء السنا من غبار الحديد
نواقيس فيها يرن السكون ...
وأجراس مركبة من بعيد
يخف لها صبية يلعبون
نواقيس في الفجر، واليوم عيد
وفي الماء أظلال جسر جديد
وهمس النواعير، والزارعون
وفي كل حقل، كنبض الحياه
تهز المحاريث قلب الثرى
وتبني القرى
قرى طينها من رميم الطغاه
وتخضل حتى الصخور الضنينه
ويثمر حتى سراب الفلاه
مدينه
فأخرى، فأخرى، إلى منتهاه! ••• «حديد حديد!»
وأقدامها العاريه
وخفق الفوانيس في المنجم
وأعماقه الرطبة الداجيه
كظل الردى، فاغرات الفم
كبئر من الظلمة الطاميه
ستمتاح منها ألوف القبور
ويهوي، من الزعزع العاتيه
عمى من دجاها على كل نور
على النور من باب كوخ مضاء
ومن كوة في خيام الرعاء
ومن شرفة ظلها الياسمين: «دعيني أقل إنه البلبل
وإن الذي لاح ليس الصباح»
على النور من موقد السامرين
ومن مدرج بالسنا يغسل
على كل نور، تذر الرياح
ظلال الطواغيت في المنجم
كناعورة لاغتراف الدم
تذر الرياح، الرياح، الرياح
أراجيح في الملعب المظلم
وخفق الفوانيس والأنجم
وخفق الخطى والأكف الصغار
وخفق الفراشات مر النهار
عليها بفانوسه المعتم
فمن يملأ الدار عند الغروب
بدفء الضحى واخضلال السهوب؟
رصاص، حديد، رصاص، حديد
وآهات ثكلى، وطفل شريد! •••
ومن يفهم الأرض أن الصغار
يضيقون بالحفرة البارده؟
2
إذا استنزلوها وشط المزار
فمن يتبع الغيمة الشارده؟
ويلهو بلقط المحار؟
ويعدو على ضفة الجدول؟
ويسطو على العش والبلبل؟
ومن يتهجى طوال النهار
ومن يلثغ الراء في المكتب؟
ومن يرتمي فوق صدر الأب
اذا عاد من كده المتعب؟
ومن يؤنس الأم في كل دار؟
أسى موجع أن يموت الصغار
أسى ذقت منه الدموع، الدموع
أجاجا ومثل اللظى في الفم
وأحسست فيه اشتعال الدم
بعيني، من نازفات الضلوع
عويل من القرية النائيه
وشيخ ينادي فتاه الغريق
بهذا الطريق وذاك الطريق
ويسعى إلى الضفة الخاليه
يسائل عنه المياه
ويصرخ بالنهر ... يدعو فتاه
ومصباحه الشاحب
يغني سدى زيته الناضب «محال تراه!»
ويحنو على الصفحة القاتمه
يحدق في لهفة عارمه
فما صادفت مقلتاه
سوى وجهه المكفهر الحزين
ترجرجه رعشة في المياه
تغمغم: «لا، لن تراه!»
6 «حديد عتيق» ورعب جديد! «حديد
رصا ... ص»
لأن الطغاه
يريدون ألا تتم الحياه
مداها وألا يحس العبيد
بأن الرغيف الذي يأكلون
أمر من العلقم
وأن الشراب الذي يشربون
أجاج بطعم الدم
وأن الحياة الحياة انعتاق
وأن ينكروا ما تراه العيون
فلا بيدر في سهول العراق
ولا صبية في الضحى يلعبون
ولا همس طاحونة من بعيد
ولا يطرق الباب ساعي البريد
ببشرى، ولا منزل
يضيء الدجى منه نور وحيد
سخي كما استضحك الجدول
ولا هدهدات، ولا جلجل
يرن بساق الوليد
وبين الربى في رقاب الجداء
ولا وسوس الشاي فوق الصلاء
ولا قصة في ليالي الشتاء
لأن الطواغيت لا يسمعون
صداح العصافير في المغرب
كما صلصل الفضة القامرون
ولا زفة السنبل المذهب
لأن الطواغيت لا يحلمون
بغير المبيعات والأسهم
وأن الطواغيت لا يسمعون
سوى رنة الفلس والدرهم
لأن الطواغيت لا يبصرون
على الشاطئ الأسيوي البعيد
سوى أن سوقا يباع الحديد
وتستهلك الريح والنار فيها
تدر العطايا على فاتحيها
7
بأقدام أطفالنا العاريه
يمينا، وبالخبز والعافيه
إذا لم نعفر جباه الطغاه
على هذه الأرجل الحافيه
وأن لم نذوب رصاص الغزاه
حروفا هي الأنجم الهاديه «فمنهن في كل دار كتاب
ينادي قفي واصدئي يا حراب»
وأن لم نضو القرى الداجيه
ولم نخرس الفوهات الغضاب
ونجل المغيرين عن آسيه
فلا ذكرتنا بغير السباب
أو اللعن أجيالنا الآتيه! •••
سلام على العالم الأرحب
على الحقل، والدار، والمكتب
على معمل للدمى والنسيج
على العش والطائر الأزغب
على التوت وسنان فيه الأريج
ووقع المجاديف في المغرب
على زهرة في وساد العروس
على صبية في انتظار الأب
على شاعر تستحم الشموس
بعينيه، يصغي إلى جندب
سلام على العالم الأرحب
سلام على «الكنج» فاض النعيم
ورنت أغاريد، في ضفتيه
قرى من سنا عاصرات عليه
عناقيد من ضوئهن العظيم
سلام على الصين والحاصدين
وصياد أسماكها الأسمر
وما أنبتت من دم الثائرين
وما افتر في البيرق الأحمر
على صبية في قراها البعاد
وفي ظل تفاحها المزهر
وما جررت في ليالي الحصاد
ثياب العذراى على البيدر
سلام لأن الربيع
يمر بودياننا كل عام
وما زال قوس الغمام
ولولا الذي كدسوا من نضار
به يستضيئون دون النهار
تجوع الملايين عن جانبيه
وينحط، في كل يوم، عليه
دم من عروق الورى أو نثار
كذر الغبار
لما هزت الأمهات المهود
على هوة من ظلام اللحود
ولم تذرف الدمع عبر البحار
وعبر الصحارى، نساء الجنود
ولم يرفع الزارع الأشيب
إلى مقلتيه، اليد الراجفه
يحدق في عتمة العاصفه
ويصغي وفي روعه «القاصفه»
ولم يبك صرعى بنيه الأب
جزوعا بأن يثكل الآخرين
ولا شردت نومة العاشقين
كوابيس من أعين الهالكين
وإرنان صفارة تنعب «وغى ...» فاستفاقوا ولا كوكب
ولا لمعة من سراج تبين
سوى قعقعات السلاح
وعصف الرياح
ولا ساءل الأم طفل غرير: «ألا بلدة ليس فيها سماء؟»
فلا قاذفات المنايا تغير
ولا من شظايا تسد الفضاء
ولا اختض في الصرصر اللاجئون
ولألاء «يافا» تراه العيون
وقد حال من دونه الغاصبون
بما أشرعوا من عطاش الحراب
وما استأجروا من شهود كذاب
وما صفحوا بالردى من حصون
سلام على العالم الأرحب
على مشرق منه أو مغرب
سلام لآفون
3
روى عروق
شكسبير والزهر والداليه
أفق شاعر النور، إن الشروق
تهدده غيمة داجيه
سعى «مكبث»
4
تحتها في احتراس
لقتل النعاس
لقتل النعاس البريء
سلام لباريس «روبسبيير»
5
و «إلوار» والغابة الحالمه
وعشاقها في المساء الأخير
تذريهم قوة ظالمه
كدوامة من رياح السعير
على «تونس» من لظاها ظلال
وحول «الرباط»
6
المدمى هدير
وفي جيرة الصين حل انخذال
بقطعانها الفظة الضاريه
لك المجد يا آسيه!
سلام لفينيس
7
والكرنفال
وأضوائه الثرة الزاهيه
وهمس المحبين بين الظلال
وفي دفء قمرائه الضاحيه
8
عصافير؟ أم صبية تمرح؟
أم الماء من صخرة ينضح؟
وأقدامها العاريه
مصابيح ملء الدجى تلمح
هتكنا بها مكمن الطاغيه
وظلماء أو جاره الباليه
علينا لها أنها الباقيه
وأن الدواليب في كل عيد
سترقى بها الريح ... جذلى، تدور!
ونرقى بها من ظلام العصور
إلى عالم كل ما فيه نور «رصاص، رصاص، رصاص، حديد
حديد عتيق»
لكون جديد!
صفحه نامشخص