Annotations on Al-Albani's Treatise on Prayer
التنبيهات على رسالة الألباني في الصلاة
ناشر
مطابع القصيم
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٣٨٧ هـ
محل انتشار
الرياض - المملكة العربية السعودية
ژانرها
التنبيهات على رسالة الألباني في الصلاة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
حمود بن عبد الله التويجري
غفر الله له ولوالديه
الطبعة الأولى
عام ١٣٨٧ هـ
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
طبع في مطابع القصيم بالرياض
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله مِن شُرُور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومَن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذه تنبيهات على النبذة المسماة: "صفة صلاة النبي ﷺ"؛ تأليف الشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني الدمشقي، الطبعة الثانية سنة ١٣٧٥ هـ بدمشق.
وقبل ذكر التَّنْبيهات، نبدأ بشكر الشيخ الألباني على اعتنائه بشأن الصلاة، وعلى إنكاره على المبتدعين في النِّية، وعلى ردِّه على من أنكر الصلاة على آل النبي ﷺ وعلى إنكاره على المحافظين على التوسلات المبتدعة؛ كالتوسل بالجاه، والحرمة، والحق، وغير ذلك مما لا يجوز التوَسُّل به.
والله المسؤول أن يجعلنا وإياه من حزبه المفلحين الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
1 / 3
التنبيه الأول
قال المؤلِّف في آخر الصفحة الأولى من مقدمة الطبع، وأول الصفحة الثانية منها ما نصه: "وقد أظهروا إعجابهم بأسلوب الكتاب وطريقة عرضه لهدْي النبي ﷺ في أعظم ركن من أركان الإسلام، ألا وهو الصلاة". اهـ.
أقول: قد سها المؤلف - عفا الله عنا وعنه - فيما أطلقه من القول بأن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام؛ إذ لا بد مِن تقييد ذلك بما بعد الشهادتين، وهذا مما لا خِلاف فيه بين المسلمين.
وفي الصَّحيحَيْن، و"مسند الإمام أحمد"، و"جامع الترمذي"، و"سنن النسائي"؛ عن ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان»، وقد رواه محمد بن نصر المروذي في كتاب الصلاة بلفظ: «بُني الإسلام على خمس دعائم»، والباقي مثله، وفي رواية لمسلم: «بُني الإسلام على خمسة»، والباقي نحوه.
وروى الإمام أحمد، وأبو بكر الآجري: عن جرير بن عبدالله البجلي ﵁ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «إن الإسلام بني على خمس ...»، فذكر مثل حديث ابن عمر ﵄.
وفي "المسند"، و"صحيح مسلم"، و"السنن"، عن عمر ﵁: أنَّ جبريل قال للنبي ﷺ: أخبرني عن الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تشهد
1 / 4
أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتَصُوم رمضان، وتحج البيت إنِ استطعت إليه سبيلًا»، قال: صدقت.
ورواه البخاري، ومسلم، وأهل السنن إلا الترمذي، من حديث أبي هريرة ﵁ بنحوه.
ففي هذه الأحاديث كلها الأهم فالأهم، ومن المعلوم بالضرورة أن النبي ﷺ لم يؤمر في أول البعثة بغير الدعاء إلى التوحيد والإقرار برسالته، وكان على هذا في مدَّة عشر سنين أو نحوها، ثم فرضت عليه الصلوات الخمس بعد، وهذا يدل على الاهتمام بالشهادتين، ويدل على أنهما أعظم أركان الإسلام.
وفي الصحيحين، والمسند، والسنن عن ابن عباس ﵄: أن رسول الله ﷺ لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ...» الحديث.
وهذا يدلُّ على الاهتمام بالشهادتين، وأنهما أعظم أركان الإسلام، وقد اختلف العلماءُ في كُفر تارك الصلاة عمْدًا، وحل دمه وماله إذا دعي إلى فعلها فأصرَّ على الترْك، ولم يختلفوا في كُفر تارك الشهادتين أو إحداهما، وحل دمه وماله، والدليل على ذلك ما في الصحيحين، والمسند، والسنن، عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «أُمرت أن أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمَن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله».
1 / 5
وفي "صحيح مسلم" عنه ﵁: أن رسول الله ﷺ قال: «أمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».
والأحاديث في هذا كثيرة، وكلها تدل على الاهتمام بالشهادتين قبل جميع الواجبات، وتفيد أنها أعظم أركان الإسلام.
وقد أفاد هذان الحديثان وغيرهما من الأحاديث: أن الصلاة من حقوق لا إله إلا الله، بل هي آكد حقوقها بعد الشهادة بالرسالة، وهذا دليل على أن الصلاة ليستْ أعظم أركان الإسلام، وإنما أعظم أركانه الشهادتان، ثم الصلاة بعدهما، وهذا بيِّن - بحمد الله تعالى - ولا خلاف فيه بين المسلمين.
وما وقع من المؤلف - وفَّقنا الله وإياه - فهو - لا شك - سهْو منه، وقلَّ مَن يسْلم من ذلك، ولا معصوم إلا الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
1 / 6
التنبيه الثاني
قال المؤلِّف في حاشية صفحة ٤٣ ما نصه: "وأما الجمْع بين الوَضْع والقبض فبِدْعة". اهـ.
وأقول: الجزم بالتبديع فيما ذكر ها هنا فيه نظر؛ إذ لا يخفى أن مَن قبض بيمينه على شماله فقد وضعها عليها، ولا يتأتى قبض بدون وضع، والظاهر من الأحاديث أن النبي ﷺ كان يقبض باليُمنى على اليسرى تارة، وتارة يضعها عليها بدون قبض، والقبض يستلزم الوضع، ولا ينعكس.
وإذا كان من المعلوم أن القبض لا يكون إلا بعد الوضع، فكيف يطلق على فاعله أنه مبتدع.
التنبيه الثالث
قال المؤلف في حاشية صفحة ٤٨، تعليقًا على قول النبي ﷺ في الدعاء المشهور: «والشر ليس إليك»، ما نصه: "أي: لا ينسب الشر إلى الله - تعالى - لأنه ليس من فعله - تعالى - بل أفعاله ﷿ كلها خير؛ لأنها دائرة بين العدل والفضل والحكمة، وهذا كله خير لا شر فيه، والشر إنما صار شرًّا لانقطاع نسبته، وإضافته إليه - تعالى.
1 / 7
قال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى -: وهو - سبحانه - خالق الخير والشر، فالشرُّ في بعض مخلوقاته لا في خلْقه وفعله، ولهذا تَنَزَّه - سبحانه - عن الظلم الذي حقيقته: وضع الشيء في غير محله، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، وذلك خير كله، والشر: وضْع الشيء في غير محله، فإذا وضع في محلِّه لم يكنْ شرًّا، فعُلم أن الشر ليس إليه. اهـ.
وأقول: في أول كلام الشيخ الألباني نظر؛ لأن إخراج الشر مِن أفعال الله - تعالى - يقتضي أن يكون للشر خالق غير الله - تعالى - وهذا من أقوال المجوس والقدَرية، وقد قال الله - تعالى -: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢]، وقال - تعالى -: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [فاطر: ٣]، وقال - تعالى -: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]، وهذه الآية الكريمة صريحة في رد قول مَن قال: إن الشر ليس من فعل الله - تعالى - ومثلها قوله - تعالى -: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ [الأعراف: ١٦٨]؛ أي: بالنِّعَم والمصائب؛ ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وقوله - تعالى -: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٨]، وقال - تعالى -: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: ١١]، وقال - تعالى -: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ [الأحزاب: ١٧]، وقال - تعالى - إخبارًا عن الجن: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠]، قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: وهذا مِن أدبهم في العبارة، حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله ﷿؛ اهـ.
وقال - تعالى -: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ
1 / 8
اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٦٠]، وقال - تعالى -: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحج: ٧٢]، وقال - تعالى -: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]، وقال - تعالى -: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٥]، وقال - تعالى -: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: ٥ - ١٠]، وقال - تعالى -: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٨].
إلى غير ذلك منَ الآيات الدَّالة على أن الله ﵎ خالق الخير والشر، وأنه لا يكون في الوجود شيء إلا بقضائِه وقدره، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ﵎ يفعل بمن شاء من عباده خيرًا، وييسر لهم أسباب ذلك نعمة منه وفضلًا، ويفعل بآخرين شرًّا، وييسر لهم أسباب ذلك حكمة منه وعدلًا، لا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون.
وفي الدعاء المأثور عن النبي ﷺ أنه كان يقول: «اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك»؛ رواه الحاكم في "مستدركه" من حديث ابن مسعود ﵁ وصححه.
وفي حديث آخر: «أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرًا»؛ رواه ابن ماجه من حديث عائشة ﵂ وصححه الحاكم،
1 / 9
ووافقه الذَّهَبي في تلخيصه، وفي حديث المنام المشهور: أن الله - تعالى - قال لنبيه ﷺ: «يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترْك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردتَ بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون»؛ رواه الترمذي وغيره من حديث ابن عباس ﵄ وقال الترمذي: حسن غريب، ورواه الإمام أحمد والحاكم وغيرهما من حديث معاذ بن جبل ﵁.
ورواه الحاكم أيضًا من حديث عبدالرحمن بن عائش الحضرمي ﵁ وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الحافظُ الذهبي في تلْخيصه.
وفي هذه الأحاديث مع ما تقدم من الآيات أبلغ رد على مَن قال: إن الله - تعالى - لم يخلق الشر، أو إن الله - تعالى - لا يفعله بأحد من خلقه، كما يقول ذلك المجوس، والقدرية الذين هم مجوس هذه الأمة.
قال الخطابي: إنما جعلهم مجوسًا لمُضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين، وهما النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فِعْل الظُّلمة، فصاروا ثانوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله ﷿ والشر إلى غيره.
والله ﷾ خالقُ الخير والشر، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، وخلقه الشر شرًّا في الحكمة كخلقه الخير خيرًا، فالأمران معًا مضافان إليه خلقًا وإيجادًا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلًا واكتسابًا، انتهى.
وأحسن ما قيل في قوله ﷺ: «والشر ليس إليك» ما نقله النووي
1 / 10
عن الخطابي، ونقله ابن الأثير عن الهروي: إنه إرشاد إلى الأدَب في الثناء على الله - تعالى - بأن تُضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها على جهة الأدَب.
قلتُ: وهذا كما أخبر الله - تعالى - عن الجن أنهم أضافوا الخير إليه، وأضافوا الشر إلى غير فاعل، ومثل ذلك ما في فاتحة الكتاب: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٦، ٧]، ففي هؤلاء الآيات الكريمات الإرشاد إلى الأدب في الدُّعاء والثناء على الله - تعالى - بأن تضاف إليه محاسن الأمور؛ كالإنعام، والهداية، وغير ذلك من أنواع الخير، وبأن يضافَ الشر والغضب وما في معنى ذلك إلى غير فاعل، مع العلم بأن الله - تعالى - هو خالِقُ الخير والشر، والمتَّصف بالإنعام والغضَب.
قال النووي ﵀: وأما قوله: «والشر ليس إليك»، فمما يجب تأويله؛ لأن مذهب أهل الحق: أن كل المحدثات فعل الله - تعالى - وخلقه، سواء خيرها وشرها، وحينئذٍ يجب تأويله، وفيه خمسة أقوال: أحدها: معناه: لا يتقرب به إليك؛ قاله الخليل بن أحمد، والنضر بن شميل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن خُزيمة، والأزهري، وغيرهم.
والثاني: حكاه الشيخ أبو حامد عن المزَني، وقاله غيره أيضًا، معناه: لا يُضاف إليك على انفراده، لا يُقال: يا خالق القردة والخنازير،
1 / 11
ويا رب الشر، ونحو هذا، وإن كان خالق كل شيء، ورب كل شيء، وحينئذٍ يدخل الشر في العُمُوم.
والثالث: معناه: والشر لا يصعد إليك، إنما يصعد الكلِم الطيِّب والعمل الصالح.
والرابع: معناه: والشر ليس شرًّا بالنسبة إليك، فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين.
والخامس: حكاه الخطابي: أنه كقولك: فلان إلى بني فلان، إذا كان عداده فيهم أوصفوه إليهم؛ انتهى.
والقول الرابع: هو الذي قرَّره ابنُ القيِّم - رحمه الله تعالى، كما تقدَّم في كلامه - فإنه قرَّر أولًا أن الله - تعالى - خالق الخير والشر، ثم قرَّر أنَّ الشر إنما يكون شرًّا بالنسبة إلى المخلوقين، وأما بالنسبة إلى الخالق فلا يكون شرًّا؛ لأنه لا يضع شيئًا إلا في محله اللائق به، وهذا معنى قوله: "لا في خلقه وفعله"؛ يعني: أن خلقه وفعله الشر لا يُسمى في حقه شرًّا؛ لأنه - تعالى - حكيم، يضع الأشياء في مواضعها، وعدل لا يجور ولا يظلم أحدًا، فعُلم من هذا أنَّ الشر ليس إليه، وأن خلقه وفعله كله خير، وإن تضرَّر بذلك بعض المخلوقين، وكان شرًّا بالنسبة إليهم.
فإن قيل: إن كلام الشيخ الألباني قريبٌ من كلام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فما وجه الاعتراض على الألباني؟
فالجواب أن يقال: إن بين كلام ابن القَيِّم وبين أول كلام الألباني بَوْنًا بعيدًا؛ أمَّا الألباني فإنه نفى أنْ يكونَ الشر من أفعال الله - تعالى - وهذا
1 / 12
هو قولُ القدَرية بعينه، وأما ابن القيم - رحمه الله تعالى - فإنه أثبت أن الله - تعالى - خالق الخير والشر، ثم نزَّه أفعال الرب ﵎ عن الاتِّصاف بوصْف الشر؛ لأنه - تعالى - لا يضَع شيئًا إلا في مَوْضِعه اللائق به، وذلك عدل منه - تعالى - وليس شرًّا بالنسبة إليه، وهذا من أقوال أهل الحق.
ولو أن الشيخ الألباني قال: إن الشر لا يُنْسَب إلى الله - تعالى - لأنه ليس في فعله ﵎ شر - أي: بالنسبة إليه - لسلم من الاعتراض، ولكان قوله موافقًا لقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - والله ﷾ أعلم.
ثم إن قول الألباني: «والشر ليس إليك» إنما صار شرًّا؛ لانقطاع نسبته، وإضافته إلى الله - تعالى - بالكلية، فلا يقال: إنه خالق الشر، ولا إنه يفعل الشر بأحد مِن خلقه.
وهذا هو قولُ القدَرية بعينه، والذي اتَّفق عليه أهلُ السنة والجماعة: أن الله - تعالى - خالق الشر كما أنه خالق الخير، وأنه يفعل بمن شاء خيرًا، وبمن شاء شرًّا، فالأمران معًا مُضافان إليه خلقًا وإيجادًا؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]، وغيرها من الآيات التي تقدَّم ذكرُها.
وإنما كان أهلُ السنة والجماعة يعدلون عن نسبة الشر وإضافته إلى الله - تعالى - على وجه الأدب في العبارة، لا على أنه منقطع النسبة، والإضافة إلى الله بالكلية، ومَن تدَبَّر ما قرَّره الشيخ الألباني في أثناء كلامه، لم يشك في حُسن عقيدته في باب القدَر، وما وقع في أول كلامه وآخره فذلك خطأ في العبارة، وقَلَّ أن يسلمَ منَ
1 / 13
الخطأ أحدٌ منَ البشَر.
والله المسؤول أن يوفقنا وإياه وجميع المسلمين لما يُحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وأن يسلك بالجميع سبيل السلَف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، إن ربِّي لسميع الدعاء، قريبٌ مجيب.
التنبيه الرابع
الرابع قال المؤلف في صفحة ٨٢ ما نصه: "صلاة الجنازة السنة أن يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب وسورة". اهـ، ثم ذكره في الحاشية: أنه رواه البخاري، وأبو داود والنسائي.
وهذا فيه إيهام؛ فإن رواية البخاري وأبي داود ليس فيها ذكر السورة، وإنما ذلك في إحدى روايتي النسائي، وهو ما رواه عن الهيثم بن أيوب، قال: حدَّثنا إبراهيم وهو ابن سعد، قال: حدثنا أبي، عن طلحة بن عبدالله بن عوف،
1 / 14
قال: صليت خلف ابن عباس ﵄ على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده، فسألته، فقال: "سنة وحق".
وقد رواه الإمام الشافعي في مسنده بدون ذكر السورة، فقال: أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن طلحة بن عبدالله بن عوف، قال: صلَّيْتُ خلف ابن عباس ﵄ على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، فلمَّا سلَّم سألته عن ذلك، فقال: "سنة وحق"، إسناده صحيحٌ على شرط البخاري.
فهذا هو المحفوظ عن ابن عباس ﵄ ليس فيه ذِكْر السورة، وكذا رواه شعبة وسفيان، عن سعد بن إبراهيم بدون ذكر السورة، فأما رواية شعبة فأخرجها البخاري والنسائي، وأما رواية سفيان فأخرجها البخاري وأبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال البيهقي: ذكر السورة غير مَحْفوظ، قلتُ: ويدل على ذلك ما ذكرته ها هنا، ويدلُّ عليه أيضًا ما رواه الشافعي في مسنده: أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، قال: سمعتُ ابن عباس ﵄ يجهر بفاتحة الكتاب على الجنازة، ويقول: إنما فعلت لتعلموا أنها سنَّة.
وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق: ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، وقال: هذا حديثٌ صحيح على شرْط مسلم، ووافَقه الذهبي في تلخيصه، قال الحاكِمُ: وقد أجمعوا على أن قول الصحابي سنَّة، حديث مسند.
وقال الشافعي أيضًا: أخبرنا بعض أصحابنا، عن ليث بن سعد، عن الزهري، عن أبي أمامة - وهو ابن سهل بن حنيف - قال: السنة أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وقد رواه النسائي
1 / 15
في سُننه، فقال: أخبرنا قُتيبة، قال: حدَّثنا الليث، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، أنه قال: السُّنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأُمِّ القرآن مخافتة، ثم يكبِّر ثلاثًا، والتسليم عن الآخرة، إسناده صحيح على شرط الشيخَيْن.
ثم قال النسائي: أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن محمد بن سويد الدمشقي الفهري، عن الضحَّاك بن قيس الدمشقي، بنحو ذلك، وهذا إسنادٌ جَيِّد.
وقد رواه الشافعي في مسنده من طريق معمر، عن الزُّهري، حدثني محمد الفهري، عن الضحاك بن قيس، أنه قال مثل قول أبي أمامة.
وقد جاء في هذا الباب أحاديثُ مرْفوعة؛ منها ما رواه التِّرْمذي وابن ماجَهْ من حديث الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس ﵄: أن النبي ﷺ قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، قال الترمذي: ليس إسناده بذاك القوي والصحيح عن ابن عباس ﵄ قوله من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب.
قال: وفي الباب عن أم شريك، قلتُ: وهو ما رواه ابن ماجه في سُنَنه بإسناد حسن عنها ﵂ قالتْ: أمرنا رسول الله ﷺ أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب.
وقال الشافعي في مسنده: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبدالله ﵄: أن النبي ﷺ كبَّر على الميت أربعًا، وقرأ بأُمِّ القرآن يمد التكبيرة الأولى.
1 / 16
إبراهيم بن محمد هو ابن أبي يحيى المدني، وثَّقَه الشافعي، وضعفه غير واحد من الأئمة، وتركه بعضهم، وقال ابن عقدة: ليس بمنكر الحديث، وقال ابن عدي: هو كما قال ابن عقدة.
وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه مستشهدًا به، ولم يتكلَّم فيه بشيء، وأقره الذهبي، فإن قيل: إن الهيثم بن أيوب ثقة عند النسائي، وقد زاد ذِكْر السورة مع الفاتحة، والزيادة من الثقة مقبولة.
فالجواب: أن يقال: إنها زيادة شاذة؛ لمُخالفتها لرواية شعبة وسفيان والشافعي، وكل منهم أوثق وأثبت وأجل من الهيثم بن أيوب، فالعمدة في حديث ابن عباس ﵄ على روايتهم، لا على ما خالفها، والله أعلم.
1 / 17
التنبيه الخامس
قال المؤلف في حاشية صفحة ٩٩ ما نصه: "ولستُ أشك أنَّ وضع اليدين على الصدر في هذا القيام بدعة ضلالة؛ لأنه لَم يَرِدْ مُطلقًا في شيء من أحاديث صفة الصلاة". اهـ، والقيام الذي أشار إليه هو القيام بعد الركوع.
وأقول: إن الجزم بالتبديع والتضليل فيما ذكر ها هنا فيه نظر؛ لما رواه النسائي في أول كتاب الافتتاح من سننه الصغرى عن وائل بن حجر ﵁ قال: رأيت رسول الله ﷺ إذا كان قائمًا في الصلاة قبض يمينه على شماله، إسناده جيد.
وقد رواه الدارقطني في سننه من طريق النسائي، ولا أعلم لهذا الحديث معارضًا ولا مخصصًا، وظاهره يفيد العموم لما قبل الركوع وما بعده؛ لأنَّ كلًاّ منهما يسمى قيامًا، ومن خَصَّص ذلك بما قبل الركوع فعليه الدليل، وليس في باقي الرِّوايات عن وائل ﵁ ولا في الأحاديث عن غيره ما ينفي وضع اليدين على الصدر، أو تحت السُّرَّة فيما بعد الركوع كما يفعل قبله، والله أعلم.
وقد ذكر ابن مُفلح في "الفروع والنكت"، عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - أنه قال: إن شاء أرسل يديه - يعني: بعد الرفع من الركوع - وإن شاء وضع يمينه على شماله، قال في "النُّكَت": وقطع به القاضي
1 / 18
في الجامع؛ لأنه حالة قيام في الصلاة، فأشبه ما قبل الرُّكوع، قال: وذكر في المذهب والتلخيص أنه يرسلهما بعد رفعه، وذكر في الرِّعاية أنَّ الخلافَ هنا كحالة وضعهما بعد تكبيرة الإحرام؛ انتهى.
ومنَ المعْلُوم عند العلماء كافَّة ما كان عليه الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - من مزيد التمسك بالآثار، والبُعد عن البدَع والضلالات، وقد قال في هذه الرواية بالتخيير بين إرسال اليدين في القيام بعد الركوع، وبين وضْع اليمين على الشمال، والقول بالوضع هو الصَّواب لعُمُوم حديث وائل الذي ذكرنا، والله أعلم.
التنبيه السادس
قال المؤلِّف في صفحة ١٠٠ ما نصه: "وكان أحيانًا يرفع يديه إذا سجد". اهـ، وقال أيضًا في صفحة ١٦٢ ما نصه: "وكان يرفع يديه مع هذا التكبير أحيانًا". اهـ، يعني به: التكبير عند الرفع من السجود، وقال مثل ذلك في صفحة ١١٥، وقال أيضًا في صفحة ١٣٣ ما نصه: "وكان يرفع يديه مع هذا التكبير أحيانًا". اهـ، يعني به: التكبير عند القيام من السجود إلى الركعة الرابعة.
وجميع ما ذكره في هذه المواضع مَرْدُود بالحديث المتَّفق
1 / 19
على صحته عن ابن عمر ﵄: "أنَّ النبي ﷺ كان لا يرفع يديه في السجود"؛ رواه مالك، والشيخان، وأهل السنن، وفي رواية للبخاري والنسائي: "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود"، وفي رواية للشافعي، وأحمد، ومسلم: "ولا يرفعهما بين السجدتين"، ورواه أهل السنن بهذا اللفظ، وقال التِّرْمذي: حديثٌ حسَن صحيح، وفي رواية لمسلم: "ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود".
ورَوى الإمامُ أحمد أيضًا في مُسنده، والبخاري في جزء رفع اليدين، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، وفي سُننهم عن علي بن أبي طالب ﵁ عن رسول الله ﷺ: "أنه كان لا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد"، قال التِّرْمذي: حديث حسن صحيح، وصحَّحه أيضًا: أحمد، والبخاري، وابن خُزَيمة، وابن حبَّان.
وروى الدارقطني أيضًا، والبيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن حطان بن عبدالله، عن أبي موسى الأشْعري ﵁ قال: هل أريكم صلاة رسول الله ﷺ فكبَّر ورفع يديه، ثم كبر ورفع يديه للركوع، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم رفع يديه، ثم قال هكذا فاصنعوا، ولا يرفع بين السجدتين.
وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة أنه ﷺ كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا أراد أن يركع، وإذا أراد رفع رأسه من الركوع، وفي بعضها أنه كان يفعل ذلك إذا قام من التشهُّد الأول، وكلها توافق حديث ابن عمر، وعلي، وأبي موسى ﵃ وترد
1 / 20
الروايات الشاذة أنه كان يرفع يديه في السجود والرفع منه.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الهدي: روي عنه - يعني عن النبي ﷺ أنه كان يرفعهما - أي: يرفع يديه إذا خرَّ للسجود - وصححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم، وهو وَهْمٌ فلا يصح ذلك عنه ألْبتة، والذي غره أن الراوي غلط من قوله: وكان يكبر في كل خفض ورفع إلى قوله: كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع، وهو ثقة ولم يفطن لسبب غلط الراوي، ووهمه فصححه.
وقال صاحب القاموس في كتابه "سفر السعادة": الذي ورد في بعض الأحاديث: أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع سهو، والرواية الصحيحة: أنه كان يكبر في كل خفض ورفع؛ انتهى.
وقد جاء في رفع اليدين في السجود وفي كل خفض ورفع أحاديث ضعيفة جدًّا، منها ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن عبدالرحمن الأعرج، عن أبي هريرة ﵁: أن النبي ﷺ كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبِّر ويفتتح الصلاة، وحين يركع، وحين يسجد، وإسماعيل بن عياش فيه مقال.
قال النسائي: ضعيف، وقال مُسلم في مُقدِّمة صحيحه: حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي، أخبرنا زكريا بن عدي، قال: قال لي أبو إسحاق الفزاري: لا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روى عن المعروفين ولا عن غيرهم، وقد وثَّقَه أحمد، وابن معين، ودحيم، والفلاس، والبخاري، والفسوي، وابن عدي، في أهل الشام،
1 / 21