يعتمد الشعر التقليدي وكثير من الشعر الحديث على الاستهواء الموسيقي لتخدير الأعصاب، ذلك التخدير الخفيف الذي يجعل المشاعر قابلة للتأثر برسالة الشاعر أقوى التأثر. ونحن لا نعيب اقتران الشعر بالموسيقى، وكيف نعيب ذلك وقد نظمنا ما نظمنا من المسرحيات الغنائية ومن شعر الغناء وبينما نرى خيرا كثيرا في تزاوج الفنون الجميلة؟ ولكن ما نعيبه هو عبودية الشعر للموسيقى حيثما ينبغي أن تكون للشعر سيادته، فبدل استهواء المشاعر بالأوزان وبالقوافي الرتيبة وحدها، نرى أن الشعر جدير بأن تكون له ذاتيته المستقلة الجميلة المؤثرة، وأن يكون الاستهواء والتأثير الوجداني منه ذاتيا، أي من إيحاء المعاني ومن روعة الخيال، لا من الموسيقى اللفظية أولا وأخيرا.
والشاعر الذي يقول:
الشاعر الساحر من أسكره؟!
من علم الشاعر هذا الشره؟!
عيناك يا روحي ويا نعمتي!
عيناك إلهام الذي صوره!
إلى آخر هذا الشعر الغنائي، وقصائد أخرى كثيرة مثله، لا يشق عليه أن يلتزم هذا الطراز من الأداء الخلاب الرنان، ولكنه يؤثر أن يؤدي رسالة «الشعر بالشعر للشعر» وهي التي يعتبرها مربية للمواهب الشعرية ضامنة لاستقلالها، حتى إذا ما أراد الشاعر في أي وقت تزاوجها والموسيقى اللفظية كانت رائدة ولم تجئ تابعة، بعكس شعر العامة والشعر البدائي الذي تكون فيه الموسيقى هي الغالبة، وهو الشائع الآن.
ولا أستطيع أن أدعي أن في هذا الديوان شاعرية تفوق ما فيه من موسيقية، ولعل هذا هو سر رضاء أصدقائي المحافظين عنه رضاء خاصا، بعكس دواويني الأخيرة التي تتجلى فيها الشاعرية المسيطرة كل التجلي فتؤثر فورا على النفوس المهيأة لها ولا تتحايل عليها بالإيقاع الرتيب، فهذا الشعر الجديد المتحرر لا يرضى عنه أصدقائي المحافظون. ومن هؤلاء الأصدقاء من يعرف مبلغ عنايتي بنقد نفسي بنفسي بشدة وقسوة، فلا يتورط في اتهامي بالإهمال أو بالعجز عن البيان التقليدي؛ لأنه يعلم علم اليقين مبلغ طواعية اللغة لقلمي نظما ونثرا، وإن لم أقنع أبدا بإنتاجي. ومنهم من لا يعرف ذلك فيتورط ذلك التورط، ويساعد سكوتي وقلة مبالاتي على سريان العدوى إلى النقاد - وحتى إلى أذكيائهم - فيهرفون بما لا يعرفون عن طاقتي البيانية وقدرتي على التعبير، في حين أني لو شئت لجعلت كل شعري في مثل ذلك الأسلوب المدرسي الذي رثيت به المثال مختار فهللوا له طويلا وتمنوا علي الإكثار منه، وقد جاء في استهلاله:
1
مناحة الفن! مات الفن والعيد
صفحه نامشخص