وقد عرفت أنني أثق بنفسي وأعتمد عليها، ولكني أعتقد أنني وثقت بها من طريق النفي قبل وثوقي بها من طريق الثبوت، فقد كنت في بادئ الأمر أحسب أنني أنا المخطئ وحدي، وأن جميع الناس على صواب ...!
هناك اختلاف لا شك فيه فمن المخطئ ومن المصيب؟ أنا المخطئ إذن لا جدال ...
كنت في طفولتي أحب مراقبة الطير والحيوان، وكان فضاء بلدي - أسوان - يمتلئ في أوائل الشتاء وأوائل الصيف بأسراب الطير المهاجرة إلى إفريقية الوسطى أو القافلة من الهجرة، فاتفق أنني تتبعت سربا منها وهو يحط على الأرض ويرتفع عنها، حتى ضللت الطريق في الصحراء وعدت إلى المنزل بعد هبوط الظلام.
فلما سئلت وأجبت كان جوابي أضحوكة الكبار والصغار، وشاع بين أندادي في المدرسة، فتندروا به وأكثروا من السخرية به، والتعقيب اللاذع عليه؟
هم إذن على صواب ... وإلا فلماذا ضللت الطريق وحدي وراء ذلك السرب، ولم يحفل به غيري من كبير أو صغير!
وأقيم لقريب لي عرس في دار ريفية ذات فناء رحيب من تلك الأفنية التي تكثر في قرى الصعيد الأعلى، فاجتمع أهل القرية حول المشاعل الموقدة يصفقون ويهللون، وانحرفت وحدي إلى الفناء المعزول، فإذا الظلام الحالك قد أطلع في السماء كل كوكب يسري على ذلك المدار، فجلست على الرمل أتملى هذا المنظر الساحر، فريع أهلي إذ تفقدوني ولم يجدوني، وكنت في نحو التاسعة من عمري، فما أشعر إلا والمشاعل كلها قد تحولت إلى مكاني من الفناء، وأصوات الدهشة تنبعث من جميع الأفواه، حتى سئلت فأجبت، فانتقلت الدهشة منهم إلي، ودهشت أنا؛ لأنهم راحوا يقهقهون ولم أدر لماذا يقهقهون، ولولا أن اليقظة كانت ملء عيني لقالوا طفل حالم، أو طفل مخبول ...
إذن نحن لا نتفاهم، وخير لي أن أنطوي على جد نفسي وهزلها لأسلم من الضحك والسخرية إلى أن يغيرني الله، فأهتدي كما اهتدى سائر خلق الله ...
وإني لعلى هذا التوجس من البوح بما في نفسي، وعلى هذا الشك الشديد في جدها وهزلها، إذا بي أقرأ ما كتب عن بعض الشعراء ومحبي الطبيعة وهم يعتزلون العالم ليمتعوا النظر بصورة من تلك الصور السماوية، وإذا بي أقع على جزء قديم من «مجلة المقتطف» صدر في سنة 1899م، وفيه مقال عن الطائر الطنان ويليه مقال عن مناقير الطيور، وأقرأ في كليهما أن مراقبة الطير شغل شاغل لبعض العلماء والرحالين، وأن حركة الطائر وهو يتقدم ويتأخر أو يأكل ويشرب، أو يغني ويلعب، مسألة ذات خطر وليس سخرية لمن سخر ...
أكذاك هو؟
إذن يبسط أبو حنيفة رجله، ولا مبالاة ...!
صفحه نامشخص