أسوان في الأرض نصف دائرة
الخير فيها والشر قد جمعا
تصلح للناسك التقي إذا
أقام والفاتك الخليع معا
وقد تغيرت تواريخ الدول، وتعاقبت حكومة بعد حكومة، ولا تزال أرضها هي أرضها، وسماؤها هي سماءها، ومناظرها هي ما كانت عليه من نمط فريد بين مناظر الطبيعة المصرية، لا تشاهد في بلد من بلاد مصر ما تشاهده فيها من جزر وجنادل وتيارات وصخور في الماء والصحراء، تجمع من الألوان ما تجمعه المعادن والجواهر، وتحكي الذهب والفضة والشبه كما تحكي الزمرد والمرجان والياقوت، وذهب من جنادلها ما ذهب، فقام في مكانها الخزان، وتلفتت مصر تترقب من لدنها مطامع الضياء كما كانت من قبل تترقب منابع الماء.
ولدت فيها بمشيئة القدر، ولو أنني ملكت الأمر لولدت فيها بمشيئتي؛ لأنها الموطن الذي يستفاد منه خير ما آثرته لنفسي من النظر إلى الحياة ... فليس مما أحبه لنفسي أن يحصرني الحاضر في نطاقه، ولا أن يحويني الخير الأرضي في حدوده ...
أدعو إلى الإنسانية في الأدب، وأنظر إلى «العالمية» في المستقبل، وأحب مصر والشرق، ولكني لا أحب ضيق الأفق في عصبية وطنية أو شرقية ...
وفي أسوان رأيت التقاء التاريخ الماضي بالحاضر الذي نعيش فيه، فالمتحف فيها والبيت يتقابلان، والتاريخ فيها حي يرزق، ويتنفس الهواء؛ لأنه ماثل شاخص في الأحياء، والحياة فيها تتسربل بقداسة التاريخ العريق؛ لأنها صورة منه تتجدد مع الأجيال. وفي أسوان رأيت التقاء المشرق والمغرب، ودرجت وأنا أشهد الحضارة الأوروبية في كل جنس من أجناسها، وكل ناحية من أنحائها.
وفي أسوان - من أهل أسوان فضلا عن الغرباء عنها - عصبة أمم صغيرة يتجاور فيها من ينتمي إلى الفراعنة، ومن ينتمي إلى العرب، ومن ينتمي إلى البجاة، وتسأل عن نسب الأسرة فيدلك عنوانها على أصل من الفرس، أو من الترك، أو من المجر، أو من البوشناق، أو من العباسيين، أو من العبيديين؛ لأنهم جميعا وفدوا إليها مع قوافل التجارة، أو مع سرايا الجيوش، أو مع اللائذين الناجين بأنفسهم من تقلب الدول، وتنازع الحكومات ...
فإذا ذكرت أسوان بلدتي جاز لي أن أذكرها فأقول مدرستي؛ لأنني - كما أسلفت - أدين بالإنسانية في الأدب، وبالعالمية في السياسة، وبالوطن الذي تتسع له آفاق الفكر، وآفاق الشعور ... ولعلي قد تنفست هذه الدروس من هواء الموطن قبل أن أقبسها من صفحات كتاب ... (5) طفولتي
صفحه نامشخص