160

قال صاحبي: خير للكتب وأولى ... نعم؛ خير للكتب ألف مرة أن تكون أرصادا للأرواح أو قماقم للمردة من أن تكون على تلك الصورة التي يصورها لنا أصحاب المائدة وصحاف الطعام! ... ولست أدري لم يحضرني خاطر الطعام المخزون في العلب كلما تحدثوا عن الكتب وما فيها من طعام العقول؟! ... فما القول في رأس فيلسوف مجفف لساعة الحاجة إليه؟! ...

وما القول في هذه الأغذية المحنطة على الرفوف لطول البقاء واجتناب الفساد؟! ... هي ولا ريب أفضل ما اخترع الإنسان من صناعات الخزن والتجفيف، وأحسن ما ابتكر من وسائل الصيانة والتعقيم. ليت الثمرات كلها تصان وتظفر بالتعقيم والتجفيف على هذا المنوال. ولكننا لا نشتهي طعام العقول للعقول حين نعرض لها الرءوس المجففة، والثمرات المحنطة ليوم القراءة أو ليوم التغذية المشتهاة ... لا ... لا؛ إننا لا نود أن نشتهي الكتب هكذا لنأكلها برءوسنا وأدمغتنا، وإنما نؤثرها مردة في قماقم وأرواحا في أرصاد. فعلى بركة الله فلنمض معها في سياحتنا إلى حيث تلقي بنا في آماد المكان والزمان، ولنطلقها فرادى إن عز علينا أن نطلقها أسرابا وجماعات ... على بركة الله!

قلت: نطلق ماذا يرحمك الله؟! ... وإلى أين المنتهى إذا ابتدأنا معها واحدا واحدا، أو سربا سربا إلى حيث تستطيع المسير؟! ... هذا يا صاحبي مارد يحملنا إلى قطب الشمال، وبجانبه مارد مثله يحملنا إلى قطب الجنوب! ... وها هنا مارد ثالث يتعدى بنا أقطاب الأرض إلى الشعرى اليمانية، وما وراء السديم ... فمع أيها نسير؟! ومتى المعاد إن سرنا مع هذا أو ذاك؟! ... وإنك لتعلم أنها قديرة على السفر في رحاب الزمان قدرتها على السفر في رحاب المكان، فهذا يحملك إلى القرن الأول للهجرة، وهذا يحملك إلى القرن الأول للميلاد، وغير هذا وذاك يحملك إلى ما قبل الهجرة والميلاد من أزمنة يضل فيها التاريخ، وقلما يهتدي فيها الخيال، وخطوة من هنا تلاقيك بهوميروس، وخطوة من هناك تلاقيك بامرئ القيس، وخطوة أخرى تجمعك بآدم وأبنائه الأولين، فأين المنتهى بعد هذا ومتى القرار؟! ... لا يا صاحبي يرحمك الله ... لا نهاية لانطلاق هذه المردة في مداها فرادى ولا مجتمعات، فدعها في قماقمها، وانظر إليها ومعك أرصادها، فليس هذا أوانها، وليست سياحتنا هذه بالسياحة السرمدية التي لا نرقب نهايتها ... فعلينا بالأفق الذي نحن فيه نلزمه ولا نتعداه، وحذار أن تفتح القماقم مجتمعات ولا متفرقات، ولك عندها بعد ذلك ما تشاء ...

فالتفت صاحبي إلى القماقم يتصفح عناوينها، ونظر هنا ونظر هناك على غير اطراد كأنه يرتجح، ولا يملك الانبعاث في طريقه دون أن يرجع إلى حيث كان، ثم هتف بي سائلا: ما هذه المفارقات؟! ... بل ما هذه المقارنات؟! شعر وتاريخ، وفن ودين، وسير وطبائع حشرات، تصاحبها طبائع عظماء، وخليط من المطالب لا تعرف لها وحدة، ولا يطرد لها نظام، فهل هي مكتبة قارئ واحد أم هي مكتبات شتى أعددتها لمن يشاء؟!

قلت: بل هي مكتبة واحدة أعددتها لقارئ واحد، ولا أحسب أن مكتبة القارئ الواحد تتفق على غير هذا النظام؛ لأنك تعد الكتب في مطلب واحد لمئات القراء الذين يشتغلون به ويرجعون إلى مصادره، ولكنك لا تحصر القارئ في مكتبة واحدة إلا إذا نوعتها له وأغنيته بها عن غيرها. ولا بد للقارئ الواحد على الأقل من مطلبين مختلفين: أحدهما: للصناعة والعمل، والآخر: للمتعة والتسلية، فإن كانت صناعته الكتابة فقد تعدد ما يقرأ للعمل والصناعة، وتعدد ما يقرأ للمتعة والتسلية، وكثيرا ما يكون التعدد مع ذلك في العناوين لا في بواعث القراءة. فإن القارئ قد ينظر في خمسة موضوعات أو ستة أو سبعة لباعث واحد ونزعة واحدة، وليس أقرب من بواعث القراءة في بعض الأحايين، مع تباعد الموضوعات والعناوين.

خذ لذلك مثلا هذين الموضوعين الغريبين: طبائع الحشرات، وما وراء الطبيعة! أيبتعد عنوانان قط أبعد من هذا الابتعاد؟! ... أيفترق شيئان في ظاهر الأمر كما يفترق البحث في الكون والسماء والخلود، والبحث في جحور النمال، ومباءة الجراثيم؟! ... ومع هذا يتقاربان جد الاقتراب حين يهديك كلاهما إلى بداية الحياة أو نهاية الحياة، وربما فسرت لك طبائع الحشرات «تصميم» بناء الحياة تفسيرا تعجز عنه عقول الفلاسفة والحكماء، وربما عرفت من دوافعها وجواذبها وأنت ترقب الحشرة الضئيلة في أطوارها المتعاقبة ما لست تعرفه من مقاييس المنطق، وتقديرات البديهة، ودراسة المذاهب والتأويلات.

وخذ مثلا آخر، هذين الموضوعين الغريبين: الشعر والدين ... إنهما ليبدوان في الغرابة كما يبدو لك منظر الناسك في الصومعة، وإلى جانبه منظر الشاعر في مجال الأنس والسرور، ولكنهما يلتقيان أقرب لقاء حين يعبر الشاعر عن نفسه، ويريك جمال الخالق في خلقه، وحين يبرز لك الإنسان من وراء مسوح الزهاد فإذا هو شاعر مستتر أو شاعر موثق بسلاسل العبادة، وإذا العبادة لا تخرج به من نطاق الشعور، ولا تنكر له فتنة الحياة، بل تمثلها له قوية مخيفة، يتقيها بالمجانبة فيشعر بها كما يشعر بها من يواقعها ولا يتقيها. وإذا الفراش الذي يقع في النار، والفراش الذي يهرب من النار ... كلاهما فراش! ...

ولقد سألت نفسي عن هذه البواعث المتوافقة وراء هذه النقائض المفترقة، فأجابتني عنها جوابا أرتضيه، ولعلك ترتضيه، ولخصته لي في كلمات معدودة: وهي: «الاستزادة من الحياة».

ولك أن تستزيد من الحياة بتعميقها أو بتوسيعها أو بتفسيرها، ولك أن تتوسل إلى ذلك كله بقصيدة من عيون الشعر، أو بنظرة في عجائب حشرة ضئيلة تخالها من أسرار الصناعة مكتومة، بل من مسودات الخلق الأولى ... أو باستقصاء آماد الحياة فيما وراء الغيب، وفيما بعد الموت وقبل الميلاد، أو بالمقابلة بين سير العظماء على ضروب شتى من العظمة، وبين سير الصغراء على ضروب شتى من الصغار ... فكل أولئك باعث واحد مختلف العناوين، وكله صحاف تعطيك ألوانا شتى من الطعم والمذاق، ولكنها لا تعطيك في النهاية غير دم واحد ينبض في العروق ... ومعذرة بعد من هذه اللفتة إلى الطعام، وأنت لا تحب ذكر الطعام في هذا المقام ...

قال: لا عليك من المعذرة بعد هذه الفترة، فقد أوشكت الساعة أن أستطيب التشبيه الذي كنت أعافه منذ برهة، وأوشكت مع هذا أن أؤمن بأن الثبات على الرأي في البلاغة غير الثبات على الرأي في الأخلاق، فقديما قيل لنا إن الثبات فضيلة، وأخشى أن أكون اليوم قد أخللت بهذه الفضيلة ... لولا باب من الرحمة في هذا الخلاف بين شرعة البلاغة وشرعة الأخلاق. وليست هي مسألة فكرة تقاس بالرأي، بل هي شيء أحسه الساعة، ولا أبالي أن أفكر فيه، فما أرتضيه من البلاغة وأنا شبعان مكظوظ لا أرتضيه منها وأنا جائع أتلمس الطعام، وأنت لا تشهي الكتب إلي ... حين تشبهها بالمائدة وأنا من الكظة أعاف المائدة وأحاديثها، ولكنك تشهيها إلي حين تصفها بهذه الوصفة وأنا متفتح المعدة والرأس لكل غذاء ...

صفحه نامشخص