158

إنني لا أسأل عن أولئك القراء والدارسين الذين ألفوا عشرات الكتب بالليل والنهار. إن هؤلاء ينظرون إلى كتبهم كما ينظر الجوهري إلى الثروات المخزونة عنده في صناديق البلور من نوادر الفصوص والأحجار الكريمة، أو كما ينظر البستاني إلى أحواض الزهر وهي ترعرع أو تذبل بين يديه، أو كما ينظر صاحب القصر إلى أسراب الحسان المقصورات فيه، أو كما ينظر المهندس إلى الأزرار التي في لوحته، وقد ينطلق كل زر منها بما يحرك مدينة بأسرها، وكلهم يملكون زمامهم، أو زمام تلك المرئيات وهم يحسون بها، وكلهم يحضرون منها ما ألفوه وتعودوه وكرروه، وقد يغيب عنهم منها جانب المفاجأة والغرابة. ولكنني أحب من حين إلى حين أن أستغرب ما آلف وأن آلف ما أستغرب، ويثير هذا الشوق في خاطري أن أشهد وقع هذه الغرابة مرتجلا في بعض النفوس، ولا سيما النفوس التي تقارب الكتب من بعيد.

قال صاحبي: وماذا وقع من صورتها في نفسك كلما استغربت ما ألفت منها ...

قلت: لا أحدثك بهذا الآن ... وإنما أحدثك بما شهدت وعاينت، ثم أحدثك بما استدرجني إليه الخيال كلما ألقيت بمقادتي إليه.

لا أنسى وهلة فتاة ذكية حين دخلت هذه المكتبة عرضا في بعض الأيام ...

كانت على شيء من التعليم، وكانت تميل إلى القراءة كلما اتفقت لها قصة سائغة أو قصيدة شائقة، ولكنها فوجئت بهذه الكتب المتجمعة، فصاحت على غير روية منها: يا سلام، كتب، كتب، كتب، كل هذا كتب ... شيء يدوخ! ... ومالت برأسها كأنها تهرب من دوار ينذرها بإغماء ...

ألا ترى يا صاحبي أن هذه الفتاة قد عرفت الكتب فلم تعرفها جلودا وأوراقا وألوانا تشوق العيون، ولكنها عرفتها كما هي في الحقيقة زحمة من الأفكار والمعارف تشفق منها على رأسها الصغير؟ ...

لقد عجبت يومئذ من هذه الوهلة؛ لأنني أعلم على التحقيق أن الفتاة شاهدت المكتبات في المدرسة وشاهدتها في السوق. فسألتها: أهذه أول مكتبة رأيتها في حياتك؟!

تعجبت هي أيضا معي من هذه الوهلة، ولم تزد على أن تقول: رأيت غيرها كثيرا، ولكني لا أدري لماذا «دخت» وأنا أنظر إليها هنا ...

ثم راجعت نفسي في تفسير ذلك فلم أعجب من وهلة الفتاة كما عجبت من صدق حاستها، أو من مبادرة هذه الحاسة إلى التفرقة بين الأشياء المتشابهة حين يتفرق بها المكان ...

فإنما تختلف الأشياء عندنا بما يقترن بها من تداعي الخواطر، وما توحيه من اللوازم والملابسات، فالكتب في السوق بضاعة للبيع، والكتب في المدرسة موزعة بين الأساتذة والطلاب، ولعلهم مئات ولعلهم ألوف فلا توحي إلى الخاطر تلك «الزحمة» التي ترهق الرءوس، أما الكتب في حجرة واحدة في بيت رجل واحد، فللفتاة العذر إذا أجفلت منها تلك الجفلة وخافت منها على رأسها الدوار ...

صفحه نامشخص