ومن لحظة إلى لحظة يتراءى في الشارع نعش عار يمشي من ورائه رجلان أو ثلاثة، وقد يكون بينهم وبين حمل هذا النعش مسافة الطريق، وتوصيلة أخرى من توصيلاته التي لا تنقطع طول النهار.
وبيتنا وحده فيه إصابتان ...
وليس في الشارع - إذا خرجت إليه - طفل واحد يحوم بين تلك البيوت المغلقة بالعلامة الحمراء.
وإذا نزلت إلى شارع النيل حيث كان يطيب لي التجوال على غير هدى، وجدته مقفرا من الناس، ومن حين إلى حين تعبر في النيل سفينة شاردة لا تجترئ على ملامسة الشاطئ؛ خوفا من العدوى، ويصيح منها صائح كلما لمح على المورد زميلا يسأله عن الخبر: كم المحصول اليوم؟
فيجيبه: مصري كامل ... أو مجيري ... أو بنتو ... أو نصف جنيه فقط في أسلم الأيام.
ما هذا المحصول؟! وما هذه العملة التي يحسبونه بها؟!
إنها تهكم المصائب الوجيع!
إنه عدد الموتى في ذلك اليوم: جنيه مصري كامل: أي مائة ميت، ونصف جنيه: أي خمسون، ولم أسمع قط ذكر الريال إلا في ختام الموسم الشنيع: موسم الحصاد!
صورة لا أنساها، ولا ألتفت إليها إلا تمثلت وحشتها وبلواها، وإليها - ولا شك - يرجع شيء من هذه الوحشة التي تحبب إلي الخلوة والانفراد ...
وتزيد عليها تجارب الدنيا التي لا تنسى، وخلاصتها: أن العواطف المزيفة أروج في هذه الدنيا من العواطف الصحيحة؛ فلا أسف إذن على رأي الناس في الناس، ولا اعتداد إذن بما يقال ومن يقول ...
صفحه نامشخص